تركيا تبحث عن دستورها

هناك إجماع على أن التعديلات الدستورية تحولت إلى قصة «إبريق الزيت» حيث يطالب الكل بدستور جديد على مقاسه

TT

تعرف الأتراك إلى دستورهم الأول عام 1876 في عهد السلطان عبد الحميد الذي جلس يفاوض قادة الاتحاديين والليبراليين الأتراك المقربين من أوروبا في مسألة إطلاق حملة تغييرات وإصلاحات تحد من صلاحيات السلطان وتدعم إقامة مزيد من المؤسسات السياسية والمدنية المستقلة. لكنها كانت الوثيقة الدستورية الأولى بعنوان «نظام القانون الأساسي» الذي وضع على الرف أمام تدهور الأوضاع في السلطنة العثمانية ودخول البلاد الحرب مع أكثر من دولة وقوة تريد انتزاع حصة من ميراث الرجل المريض. عام 1908 وعندما نجح ضباط «تركيا الفتاة» في تعزيز نفوذهم ومواقعهم في السلطة أعادوا طرح موضوع الدستور، وكان لهم ما أرادوا بعد إدخال بعض التعديلات على أفكار القانون الأساسي ليكون أكثر حداثة وانفتاحا على أوروبا. لكن وعود السلطان المقدمة تبخرت مرة أخرى مع دخول تركيا الحرب العالمية الأولى. وهكذا جاء دور المحاولة الثالثة عام 1921 خلال عملية الانتقال من الإمبراطورية العثمانية إلى الجمهورية التركية الحديثة مع استلام أتاتورك دفة القيادة العسكرية والسياسية ودخول تركيا حرب الاستقلال والتحرير ومحاولة رسم سياساتها وبرامجها الداخلية بمعايير جديدة تحتل أوروبا مركز الصدارة فيها تحت عنوان «دستور التشكيلات الأساسية». المحاولة الجدية الأقوى كانت عام 1924 بعد إعلان الجمهورية التركية واختيار مصطفى كمال أتاتورك رئيسا للدولة وولادة دستور آخر شهد كثيرا من التعديلات والتغييرات ورافقته عشرات القوانين والتشريعات التي أرادت لتركيا هوية تقطع تماما مع الشرق وتتحول بكل المعايير نحو الغرب؛ البوصلة السياسية والاجتماعية والفكرية الجديدة للأتراك.

تركيا الحديثة شهدت أكثر من ضربة عسكرية وتلويح بانقلاب سلط كالسيف فوق رؤوس الجميع، كانت تحسم في أكثر الأحيان بتعليق الدستور وإعلان دساتير بديلة كانت القيادات العسكرية التي تتولى السلطة هي التي تقرر شكلها ومضمونها كما حدث في آخر انقلاب وقع عام 1980 وتلاه بعد عامين إعلان دستور حمل توقيع قائد الانقلاب كنعان افرين وحمله هو إلى منصب رئاسة الجمهورية كما يقول كثير من أساتذة القانون الدستوري.

هناك إجماع آخر من قبل الحقوقيين الأتراك على أن حكاية التعديلات الدستورية في تركيا تحولت إلى قصة «إبريق الزيت» حيث يطالب الكل بدستور جديد، لكن كل طرف يريد ذلك على مزاجه وضمن حساباته وحماية مصالحه هو، وأنه بسبب غياب هذا التوافق قرر حزب العدالة والتنمية المغامرة بإعلان مجموعة من الإصلاحات الدستورية تتضمن 29 مادة تطال كثيرا من المسائل السياسية والاجتماعية والقانونية الحساسة التزاما بوعوده التي تعهد بها أمام قواعده الشعبية عام 2002 وفشل في تحقيقها على الرغم من أكثر من محاولة ومواجهة مكلفة.

مراقبون كثر يعرفون تماما أن مغامرة رجب طيب أردوغان هذه قد توفر له التفرد بإدارة شؤون البلاد لخمس سنوات جديدة لكنها قد تفرض عليه الخضوع لحقيقة أخرى تناقش في تركيا اليوم على ضوء استطلاعات الرأي التي تشير إلى صعوبة تفرد أي حزب سياسي تركي بتولي دفة القيادة منفردا ضمن الظروف والمعطيات القائمة على الأرض.

الأكاديمي والمقرر في المحكمة الدستورية عثمان جان الذي أشرف قبل أيام على إعداد دستور بديل باسم تكتل من الحقوقيين الأتراك يقول إنها المرة الأولى في تركيا التي يحاول فيها البعض من خلالها المساس بدستور الضربة العسكرية وربما هذا هو سبب المقاومة الشديدة التي نراها هذه الأيام.

مصطفى أردوغان أستاذ القانون الدستوري الذي أعلن وقوفه إلى جانب هذه الخطوة قال إنها تتضمن كثيرا من الإصلاحات الإيجابية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدستورية التي تحتاجها تركيا وتنتظرها منذ سنوات طويلة. لكن الأكاديمي سهيل باطوم الواقف في الجانب المعارض يرى أن خطة حزب رجب طيب أردوغان تقوم هذه المرة على إعادة تنظيم وبناء المواقع الحساسة في أكثر من جهاز قضائي ومحكمة عليا يتم خلالها منح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة في اختيار المرشحين إلى هذه المناصب وتسميتهم مما يعيد إلى الأذهان مرة أخرى تساؤلات حول وجود أجندة سرية للحزب الحاكم تطال إعادة تركيب شكل النظام وأسسه.

نائب رئيس مجلس الوزراء جميل شيشاك أحد المشرفين مباشرة على هذه العملية يردد أن التعديل الدستوري هو مطلب شبه إجماعي وأن حزبه عندما يطرح هذا الموضوع على طاولة النقاش فغايته الأولى هي توسيع رقعة الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان في البلاد ضمن هدف الالتزام بدستور عصري منفتح إلى جانب الالتزام بالتعهدات المقدمة للاتحاد الأوروبي على طريق العضوية الكاملة. لكن الكاتب الاقتصادي أردال صغلام يقول أمرا مختلفا تماما يرى فيه أن الحكومة التي كانت تعرف أنها لن تحظى بدعم كثير من الأحزاب السياسية في مشروع تعديل الدستور لم تكسب أيضا دعم وتأييد الاتحادات العمالية والنقابية والمهنية الكبرى في البلاد والسبب هو تفردها بطرح ومحاولة فرض بدائل لا ترضي ولا تطمئن سوى الحزب الحاكم وبعض قواعده الشعبية، مؤكدا أن أهم الشخصيات الاقتصادية ترفض إيصال المسائل إلى موضوع الاستفتاء العام الذي قد يؤزم أكثر من أن يحل.

ومع أن اغمان باغش النائب في «العدالة والتنمية» وأقرب المقربين إلى رجب طيب أردوغان يقول: «إننا لم نأخذ رأي الاتحاد الأوروبي في هذه الاقتراحات، لكننا نعدها انسجاما مع المعايير الأوروبية بقدر الإمكان»، فإن جريدة «طرف» الليبرالية تحدثت نقلا عن مصادر داخل حزب العدالة والتنمية عن وجود اعتراضات وانقسامات في صفوف الكتلة نفسها وأن هناك أكثر من 20 نائبا يعارضون بعض مواد التعديلات المقترحة، وهي أنباء نفتها قيادات الحزب، محملة المسؤولية لبعض الراغبين بالاصطياد في الماء العكر، مؤكدة أن مثل هذه الترويجات تتم بشكل مقصود لكنها لن تؤثر على تماسك وقرار الحزب بالمضي حتى النهاية في حملته هذه. قيادات «العدالة والتنمية» تردد في الآونة الأخيرة أن ما تقدمه هو مجرد مسودة اقتراحات لا أكثر ولا أقل وأنها جاهزة للدخول في نقاش وحوار مع من يرغب على طريق إيجاد الحلول الوسط خاصة بعدما دخل الرئيس غل على الخط داعيا للاعتدال، لكن أقلاما وأصواتا أخرى تردد أن حزب أردوغان يتحرك في حملته هذه مستفيدا من أكثر من استطلاع للرأي نشر في الآونة الأخيرة، يلتقي معظمها عند وجود دعم شعبي واسع لمطلب تعديل الدستور، وهي مسألة تقول المعارضة إنها لا علاقة لها بقراءة مزاج وميول الناخب التركي الذي قد يقول العكس تماما أمام صناديق الاقتراع سواء في الاستفتاء المرتقب حول الدستور أو في أية انتخابات عامة قد تحدث.

وعلى الرغم من أن الأكاديمي الليبرالي اسر قاراقاش يقول إن «العدالة والتنمية» سيخرج منتصرا من حملة تعديل الدستور هذه، فإن الجهة المعارضة لا تطرح أي خيار أو بديل وهي بعيدة كل البعد عن «الصميمية» والسلوك المعتدل الذي يوحي بالثقة والقدرة على الالتزام والتنفيذ، «لماذا تحركوا الآن بعد سنوات طويلة من الانتظار والتريث أين كانوا حتى الآن؟»، فإن الإعلامي المعارض جان اتاكلي يرى أن «العدالة والتنمية» سيتراجع عن اقتراحاته الدستورية هذه «فهو حوكم من قبل محكمة دستورية حذرته من أنه يبتعد عن العلمانية. حزب يحاول أن يضع النظام القضائي في البلاد تحت إشرافه من خلال تغيير بنية وتركيبة وطريقة عمل هذه المؤسسة. هو قد يدفع ثمن ذلك، لكن مع الأسف بعد خسائر فادحة لا تعوض بمثل هذه السهولة».

أكرم دومانلي رئيس تحرير صحيفة «زمان» الإسلامية يتساءل منتقدا: «أين كان حزب الشعب الجمهوري حتى الآن، لماذا يعتمد أساليب متناقضة تهدف فقط لقطع الطريق على (العدالة والتنمية) من دون تقديم الخيارات والبدائل التي تنقذ البلاد من دستور لم يعد أحد يريده؟ هو يقول إنه مع محاكمة الضباط الذين قادوا انقلاب عام 1980 وإنه مع تعديل الدستور لكنه لا يقدم أي خيار وبديل حقيقي على الأرض في هذا الاتجاه». لكن كاتبا معارضا في جريدة «أقشام» هو إسماعيل كوشوك قايا يرى أن «العدالة والتنمية» يعد على نار هادئة بدائل سياسية أخرى في حال فشله في تمرير التعديلات الدستورية على النحو الذي يرضيه ويصر على أن موضوع الانتخابات العامة المبكرة سيكون في طليعة هذه البدائل. الحكومة تتسلح باستطلاعات الرأي التي تدعمها في خطوتها هذه وبتأييد غربي أوروبي واسع يساند أي تغيير نحو مزيد من الديمقراطية والانفتاح، لكن المعارضة متمسكة بعدم التعاون، مع أن لكل منها حساباته السياسية وأسبابه في رفض هذه الاقتراحات. حزب الحركة القومية اليميني المتشدد أعلن منذ البداية أنه سيكرم الوافدين بالشاي ويودعهم من دون الدخول في أية مساومات في هذا الشأن. دنيز بيقال رئيس حزب الشعب الجمهوري يردد المرة تلو الأخرى أنه بعد إنجاز هذه العملية ستكون الخطوة اللاحقة تنفيذ ضربة مدنية يقودها «العدالة والتنمية» باسم تغيير كثير من أسس النظام. وحده حزب السلم والديمقراطية الذي تدعمه غالبية شعبية كردية واسعة هو الذي قدم دعما مشروطا بإضافة موضوع خفض نسبة العشرة في المائة من مجموع الأصوات المطلوبة لدخول البرلمان ودعم الخزينة للأحزاب الصغيرة في الانتخابات العامة وإصدار «قانون أطفال الحجارة» الذين يتم اعتقالهم واستجوابهم في مدن جنوب شرقي تركيا. مما دفع أردوغان لعدم التأخر في الرد بأن حزبه لا يفكر في تغيير موضوع حاجز دخول مجلس النواب ما دام أنه لم تتركز في تركيا ثقافة التحالفات السياسية والحزبية والائتلافات الحكومية التي كان لنا معها تجارب محزنة في أكثر من مرة.

أصوات معارضة أخرى بينها سدات ارغين الإعلامي في «حريت» الذي يقول إن «العدالة والتنمية» يتحرك ضمن معادلة واحدة: «أنا قررت وعليكم أن تقبلوا ذلك». لكن منتقد آخر هو يلمز أوزديل القلم الساخر يروي طرفة يوجز فيها أسلوب ونهج «العدالة والتنمية» وطريقة تعامل قياداته مع مسائل حساسة في البلاد كما يقول: «قصد محاميان أحد المطاعم وأخرجا من حقيبتيهما ساندويتشات جاهزة وشرعا في التهامها فاقترب مدير المطعم يعترض: أنتما في مطعم ولا يجوز أن تأكلا ساندويتشاتكما التي أعددتموها على هذا النحو. فقبلا الاعتراض واعتذرا وتبادلا الساندويتشات بينهما وتابعا الأكل. هكذا يتعامل (العدالة والتنمية) مع تغيير الدستور وبعض القوانين؛ لا يأخذ سوى بوجهة نظره هو ضمن منطقه وفلسفته التي يراها مناسبة».

أصوات أخرى معتدلة وقفت إلى جانب «العدالة والتنمية» أكثر من مرة في قراراته الداخلية والخارجية تقول إن أردوغان وحزبه سيتراجعان حتما عن بعض المواد المقترحة لأنها لا تتناسب إطلاقا مع المعايير الأوروبية التي يجري الحديث حولها. أستاذ الفلسفة في جامعة «بيلغي» نيازي اوكتام الذي يقول: «كنا وما زلنا نراهن على أن (العدالة) الذي حقق نتائج إيجابية كثيرة في توجهاته الخارجية سيسجل انتصارات مماثلة في الداخل. هو من حقه أن يتحرك لتعديل الدستور، لكن ليس من حقه التلاعب بالموازنات الدقيقة التي يقوم على أساسها النظام الدستوري والسياسي في تركيا بمفرده. هو مع الأسف يعمل بشكل واضح على تعزيز نفوذ وصلاحيات رئيس الجمهورية ويعطيه حق التدخل في كثير من القطاعات والمؤسسات القضائية والسياسية، ولكننا على الرغم من كل شيء نعرف أنهم لن يتخلوا عن الحكمة وهم يطرحون موضوع مناقشة دستور عصري متوازن عادل ديمقراطي يراعي التوازنات كافة القائمة في البلاد».

جنكيز تشاندار، الكاتب التركي الليبرالي الذي دعم الحكومة في أكثر من مكان يقول منتقدا: «هذه الرزمة ليست فكرة دستور جديد، بل هي في كثير من موادها اولغارشية بيروقراطية توضع أمامنا لنناقشها بدلا من دستور الوصاية العسكرية».

علي بولاش، الكاتب الإسلامي، يقول إن «العدالة والتنمية» أهدر فرصا كثيرة سنحت له في السابق لناحية تغيير الدستور لكنه هذه المرة يحاول متفردا إطلاق هذه التعديلات من دون التوافق السياسي مع الآخرين مما يسبب له كثيرا من المشكلات. شاهين الباي كاتب ليبرالي مقرب من الحكم أيضا يشيد بشجاعة «العدالة والتنمية» وضرورة دعمه في مسألة تغيير الدستور، لكنه ينتقد موضوع إعطاء رئيس الجمهورية مثل هذه الصلاحيات الواسعة على حساب كثيرين.

حزب العدالة والتنمية يبدي حقا شجاعة فائقة في خوض ملف دقيق من هذا النوع منفردا في مواجهة معارضة تتوحد ضده يوما بعد الآخر ويضاف إليها معارضة صامتة متأففة لكبار ضباط المؤسسة العسكرية ورجال القضاء المتمركزين في المناصب العليا يحذرون من المساس بمبادئ الجمهورية وأسسها التي وضعها أتاتورك قبل أكثر من 90 عاما.

أكثر ما يقلق أركان حزب «العدالة» هو طبعا موقف ونشاطات المدعي العام التركي عبد الرحمن يلشن قايا، خاصة أن أنباء كثيرة تتحدث عن مواصلته جمع مزيد من الأدلة والبراهين التي تؤكد أن «العدالة» لن يتراجع بمثل هذه السهولة على الرغم من معرفته التامة أيضا بأن المحكمة الدستورية سيكون عندها ما تقوله في موضوع الإصلاحات الدستورية وأنها هي التي ردت حزب أردوغان خائبا أكثر من مرة.