لندن و«السياحة القضائية».. من يسطو على العدالة؟

219 قضية تشهير أمام المحاكم البريطانية العام الماضي بين أطرافها عرب غالبيتهم سعوديون * تكلفة قضايا التشهير تعادل 140 ضعفا مقارنة بدول أوروبية أخرى * المحامون يربحون ووسائل الإعلام تشكو

TT

بعد جدل استمر سنوات بدأت بريطانيا أولى خطواتها في إطار «ثورة تشريعية» تهدف لكبح جماح ظاهرة ظلت تشغل المحاكم وتؤرق وسائل الإعلام واتحادات الكتاب والبحث العلمي والأكاديميين، وهي ظاهرة «السياحة القضائية» التي جعلت لندن عاصمة لقضايا القذف والتشهير. وكان وزير العدل البريطاني جاك سترو، وهو محام سابق، قد أعلن الشهر الماضي عن حزمة من المقترحات لطرحها على البرلمان المقبل لمناقشتها وإقرارها ومن ثم تطبيقها للحد من «السياحة القضائية» التي جعلت بريطانيا مسرحا لمعارك قضائية يكون أطرافها أحيانا غير مقيمين في أراضيها لكنهم يستخدمون قوانينها لمقاضاة وسائل إعلام أو دور نشر أو كتاب وباحثين مستفيدين من القوانين البريطانية المتشددة في موضوعات القذف والتشهير. كما تهدف المقترحات للحد من التكاليف الباهظة في قضايا التشهير، ووضع ضوابط في آليات هذه القضايا. وقال سترو لدى إعلانه عن المقترحات الجديدة إن «قوانيننا الراهنة في مجال التشهير تحتاج إلى تحقيق توازن بين السماح للناس بحماية سمعتهم من ادعاءات القذف والتشهير، وبين ضمان عدم عرقلة حرية التعبير وحق الرأي العام في الاطلاع على كل الأمور التي تدخل في دائرة المصلحة العامة».

للتدليل على حجم الظاهرة أشار تقرير صدر مؤخرا إلى أنه من بين 219 قضية تشهير وصلت إلى المحكمة العليا البريطانية العام الماضي، كانت هناك 34 قضية ذات ارتباط خارجي، بمعنى أن أحد الطرفين المتقاضيين أو كليهما يقيم خارج بريطانيا، وبين هؤلاء كان هناك تسعة عرب غالبيتهم سعوديون.

ووصف جون ويتنيغديل رئيس لجنة الثقافة والإعلام والرياضة في البرلمان البريطاني، وهي اللجنة التي وضعت تقريرا من 162 صفحة حول قوانين التشهير والخصوصية وحرية الإعلام بعد دراسة استغرقت 18 شهرا، ظاهرة «السياحة القضائية» بأنها أساءت إلى لندن وجعلتها تبدو في نظر الكثيرين عاصمة قضايا التشهير العالمية. ووصل الأمر إلى حد أنه في عام 2008 تبنى مجلس ولاية نيويورك قانونا أطلق عليه اسم «قانون الحماية من الإرهاب القضائي» وهدفه حماية المؤسسات الأميركية والمواطنين من طائلة قضايا التشهير التي ترفع في الخارج وتحديدا في بلدان مثل بريطانيا. ويمنع هذا القانون تنفيذ الأحكام القضائية التي تصدر في الخارج ضد مؤسسات أو مواطنين أميركيين في قضايا التشهير إلا إذا كانت هذه الأحكام صادرة في دول لديها معايير لحرية التعبير شبيهة بما ينص عليه القانون الأميركي.

ويعود هذا الأمر إلى أن قوانين حرية التعبير في أميركا تعطي وسائل الإعلام ودور النشر والبحث العلمي حرية كبيرة في نقل المعلومات وتحميهم إلى حد كبير من طائلة الملاحقة. وأورد مركز أميركي معروف باسم «مركز قانون الإعلام» أنه في عام 2007 نظرت المحاكم الأميركية 6 قضايا فقط لها علاقة بشكاوى التشهير أو حماية الحرية الشخصية، وذلك مقارنة مع أكثر من 200 قضية مماثلة رفعت في بريطانيا في ذلك العام. وحتى في الست قضايا التي عرضت أمام المحاكم الأميركية صدر الحكم في واحدة فقط ضد وسيلة إعلامية بينما فشلت القضايا الخمس الأخرى.

* الاختلاف بين بريطانيا وأميركا

* بينما كانت المحاكم البريطانية تميل لحماية السمعة الشخصية وتضع شروطا متشددة على الإعلام، فإن المحاكم الأميركية كانت ترجح كفة حرية التعبير على مبدأ الحرية الشخصية، خصوصا للشخصيات العامة. وفي هذا الإطار كانت هناك قضية أصبحت معلما للقضاء الأميركي في قضايا التشهير ونتج عنها عزوف كثير من الناس عن رفع قضايا ضد وسائل الإعلام في مسائل القذف والتشهير إلا إذا كانت هناك حجة قوية للغاية. والقضية المذكورة تعود إلى عام 1964 عندما حكمت محكمة ضد ضابط شرطة أميركي من ولاية ألاباما رفع قضية تشهير، وقررت المحكمة في حكمها الذي أصبح مرتكزا في هذا النوع من القضايا، أن الشخصيات العامة لا يمكنها رفع أو كسب قضايا تشهير إلا إذا ثبت أن الصحافي كان يعلم وقت كتابة موضوعه أن الاتهامات ضد الشخصية التي يكتب عنها «زائفة وغير صحيحة» أو أنه كتب موضوعه من غير أدنى اعتبار لمقومات الحقيقة. وبذلك فإن القانون الأميركي يرى أن حق المجتمع في المعرفة وحماية حرية التعبير والصحافة يتفوقان على أهمية حماية سمعة الشخصيات العامة.

وقال بوب ساتشويل، المدير التنفيذي لجمعية المحررين البريطانية، إن التوازن في القانون البريطاني اختل في غير مصلحة حرية التعبير. وأشار في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى أن القانون في أميركا يحمي الإعلام في وظيفته في نقد من يتولون مسؤولية عامة، في حين أن قوانين التشهير البريطانية لا توفر حماية مماثلة لوسائل الإعلام في بريطانيا. وكانت أصوات كثيرة في بريطانيا قد دعت إلى إجراءات تمنع استغلال قانون التشهير بشكل أضر بحرية التعبير وجعل الكثير من وسائل الإعلام تلجأ أحيانا لتجنب نشر موضوعات قد تعرضها لملاحقات أمام القضاء بتهمة التشهير، وذلك بسبب التكلفة المالية العالية لمثل هذه القضايا. فعلى الرغم من أن قيمة التعويض الذي قد يدفع للشاكي في حال حكمت المحكمة لصالحه ليست كبيرة في حد ذاتها، فإن تكاليف المحامين الباهظة ترفع قيمة الفاتورة النهائية لمثل هذه القضايا إلى مبالغ تضع عبئا كبيرا على وسائل الإعلام ودور النشر والبحث العلمي. وعلى سبيل المثال أشار جوشوا روزنبرغ، المحرر القانوني لصحيفة «ايفننغ ستاندارد» اللندنية، إلى قضية ربحها نائب برلماني بريطاني ضد صحيفة «ميل أون صنداي» والشركة المالكة لها «مجموعة صحف أسوشييتد برس»، إذ حكمت المحكمة للنائب بتعويض قيمته 5 آلاف جنيه إسترليني، إلا أن تكلفة المحامين المدافعين عنه بلغت أكثر من 387 ألف جنيه. كما كان على شركة «صحف أسوشييتد برس» أن تدفع تكاليف المحامين الذين ترافعوا عنها مما رفع القيمة الإجمالية للتكلفة إلى مبلغ اقترب من مليون جنيه. لهذا يقول المؤيدون لإصلاح قوانين التشهير وإجراءات التقاضي فيها إن المستفيدين الأساسيين هم المحامون الذين يحصلون على مبالغ ضخمة، فعلى سبيل المثال فإن أجر المحامي الذي يمثل أمام المحكمة في قضايا التشهير قد يصل إلى 7 آلاف جنيه في الساعة الواحدة علما بأن الجلسات تستمر نحو 7 ساعات يوميا على مدى سبعة أو عشرة أيام وأحيانا قد تستمر القضية لأسابيع. وللمقارنة فقط فإن أجر المحامي الذي يترافع في القضايا الجنائية أمام المحكمة يقدر بنحو 600 جنيه في اليوم، مما يدعم حجج الذين يقولون إن المحامين في قضايا التشهير يرفعون أجورهم بشكل مبالغ فيه. ويقول المطالبون بتعديل القانون إن تكلفة المحكمة في اليوم الواحد في قضايا التشهير تقدر بنحو 40 ألف جنيه تتوزع بين أجور فريقي المحامين في الطرفين وتكلفة عقد المحكمة، مما يرفع التكلفة الإجمالية لقضايا التشهير عندما تصل إلى المحاكم إلى مبلغ يتراوح بين مليون إلى ثلاثة ملايين جنيه إسترليني.

وكشفت دراسة أجرتها جامعة أكسفورد لمقارنة تكاليف قضايا التشهير في الدول الأوروبية أن بريطانيا احتلت المركز الأول إذ إن التكلفة فيها تبلغ أربعة أضعاف التكلفة في أيرلندا، ونحو 40 ضعفا مقارنة بالتكلفة في إيطاليا التي حلت في المركز الثالث بعد بريطانيا وأيرلندا، بينما تصل إلى 140 ضعفا مقارنة مع بعض الدول الأوروبية الأخرى. نظرا لهذه التكلفة العالية فإن كثيرا من وسائل الإعلام صارت تلجأ إلى تسوية القضايا مع الشاكين قبل وصولها إلى المحكمة باعتبار أن ذلك سيوفر عليها الكثير من الجهد والمال. ويقول مسؤولون في الجمعيات التي شاركت في الحملة الداعية لإصلاح القانون إن بعض الصحف والدوريات ووسائل الإعلام الأخرى صارت تتفادى أحيانا نشر بعض الموضوعات التي قد تؤدي بها إلى المحكمة مما يعني خنقا لحرية التعبير وحرمانا للرأي العام من حق الاطلاع على أمور قد تتعلق بالمصلحة العامة. وقال بوب ساتشويل، المدير التنفيذي لجمعية المحررين البريطانية، لـ«الشرق الأوسط» إن التكاليف الباهظة لقضايا التشهير لها أثر سلبي على حرية التعبير والإعلام. وأضاف إن المشكلة هي في القانون وليس في المحامين الذين يستغلون ثغراته، وبالتالي فإن القانون يحتاج إلى إصلاح.

* ضريبة الفوز

* أكثر ما ركز عليه أنصار حملة إصلاح قانون التشهير وإجراءات التقاضي فيه هو ما يسمى «أجر الفوز» أو ما يسمونه بتعبير آخر «لا فوز.. لا أجر»، وهو أسلوب أدخل إلى القانون البريطاني في تسعينات القرن الماضي وأدى إلى ارتفاع هائل في قضايا التشهير المرفوعة أمام المحاكم البريطانية؛ إذ بلغت في عام 1995 وحده 560 قضية. ووفقا لهذا الأسلوب بدأت شركات المحاماة تقبل الترافع عن موكلين بعد توقيع اتفاق معهم لا يدفع الشاكي شيئا بموجبه بل تحصل شركة المحاماة على أجرها من الطرف الآخر زائدا ما يعادل 100% من الأتعاب عبارة عن «أجر فوز» في حال فوز الشاكي بالقضية. ويعني ذلك أنه إذا حكمت المحكمة لصالح الشاكي بمبلغ 5 آلاف جنيه كتعويض مثلما حدث في قضية النائب البرلماني البريطاني مثلا، فإنه يحصل على هذا التعويض. أما شركة المحاماة فإنها تحصل على أتعابها مضاعفة بعد إضافة نسبة 100% تمثل ما يسمى «أجر الفوز»، بمعنى أن أجر شركة المحاماة قد يرتفع من 150 ألف جنيه إلى حوالي 380 ألفا بعد إضافة نسبة «أجر الفوز» وتكلفة بوليصة التأمين التي تغطي الشاكي في حال فشله وتسدد عنه التكاليف التي سيضطر إلى دفعها حتما.

وفي السابق كان على الشاكي أن يدفع للمحامي لكي يقبل الترافع عنه، كما أنه إذا خسر سيضطر إلى دفع تكاليف القضية لمحاميه إضافة إلى تكاليف الطرف الآخر الرابح. ولكن بعد السماح بآلية «لا فوز.. لا أجر» أصبح الشاكي لا يدفع شيئا لمحاميه الذي يحصل على أتعابه في حالة فوزه بالقضية من الطرف الآخر، كما يحصل على نسبة من التعويض الذي يحصل عليه موكله. كما أنه منذ عام 2000 سمح للمحامين بتقاضي نسبة إضافية تسمى «أجر فوز» قد تصل إلى 100% في القضايا التي يربحونها وذلك لتعويضهم عن عدم حصولهم على أي أجر في القضايا التي يخسرونها. أما على الجانب الآخر فإن الصحف ووسائل الإعلام الأخرى التي تتعرض للمقاضاة تواجه خسائر مالية كبيرة، لأنها إذا خسرت ستضطر لدفع تكاليف محاميها إضافة إلى تكاليف محامي الطرف الشاكي مضاعفة بسبب آلية «أجر الفوز». كما تضاف إلى كل هذه التكاليف قيمة بوليصة تأمين الطرف الشاكي التي تصل وحدها إلى عشرات الآلاف من الجنيهات. وحتى إذا ربحت الصحيفة القضية فإنها ستجد أن الشاكي في معظم الأحيان لا يستطيع أن يدفع لها تكاليفها القانونية. أما بوليصة التأمين التي يفترض أن تغطي تكاليف الشاكي إذا خسر، فإنها تكون في أغلب الأحيان قاصرة عن تغطية التكاليف الكاملة، وبذا تجد الصحيفة نفسها في مواجهة فواتير محامين تصل في كثير من الأحيان إلى مئات الآلاف من الجنيهات. وهناك شركتان في بريطانيا تتخصصان في تأمين الشاكين في قضايا التشهير، وتتقاضيان أجورا عالية جدا إذا ربح الشاكي قضيته تصل إلى 68 ألف جنيه إسترليني مقابل بوليصة تأمين تقدم غطاء للشاكي بمبلغ 100 ألف جنيه إسترليني (يدفع فقط إذا خسر). وقال كريس ويت مدير شركة «تمبل للحماية القانونية»، إحدى هاتين الشركتين لـ«الشرق الأوسط» إن بوالص التأمين التي تقدمها شركته للشاكين الراغبين تتيح «العدالة لأناس قد لا يستطيعون تحمل تكاليفها»، وشن هجوما على التخفيض المقترح الذي تعتزم وزارة العدل تطبيقه اعتبارا من أبريل (نيسان) الحالي لخفض نسبة «أجر الفوز» من 100% إلى 10% كحد أقصى وقال إن حزب العمال الحاكم يحاول كسب ود وسائل الإعلام قبل الانتخابات. ولدى سؤاله عما إذا كانت الأحزاب الأخرى مثل المحافظين قد تؤيد وتطبق مثل هذه الإصلاحات أيضا، اعترف ويت بأنها قد تفعل ذلك ولكن ليس بنسبة الـ 10% التي أقرها وزير العدل جاك سترو.

وقال ويت إن شركته لا تتقاضى أي عمولة أو أجر من الطرف الشاكي ولكنها تحصل على قيمة التأمين من الطرف الآخر إذا خسر القضية. ورفض الاتهامات القائلة بأن هناك مبالغة في سعر بوليصة التأمين، وقال إن المحكمة تدقق في تكاليف المحامين والقضية قبل إقرارها لمصلحة الطرف الرابح.

* تسويات مكلفة

* للتدليل على حجم المشكلة أشارت ورقة استشارية أعدتها وزارة العدل البريطانية خلال شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) الماضيين إلى أنه من بين 154 قضية تشهير رفعت ضد وسائل إعلام في المحاكم البريطانية خلال عام 2008، كانت نسبة 17.5% بترتيب «لا فوز.. لا أجر»، ولكن هذه النسبة ارتفعت إلى 70% في القضايا التي كانت التكلفة فيها تزيد عن 100 ألف جنيه إسترليني، مما يشير بوضوح إلى ترابط بين ارتفاع التكاليف القانونية في قضايا التشهير ونظام الترافع بترتيب «لا فوز.. لا أجر». وأوردت الدراسة ذاتها أن 151 قضية من بين تلك القضايا تم التوصل فيها إلى تسوية قبل الدخول إلى المحاكمة مما يؤكد أن وسائل الإعلام تحاول تفادي التكاليف القانونية الباهظة بالتوصل إلى تسوية مع الشاكين. وحتى القضايا الثلاث التي نظرتها المحاكم فإن الحكم فيها جاء لمصلحة الأطراف الشاكية.

ومن هذا المنطلق فإن الدعوات كانت تتصاعد في بريطانيا من أجل إصلاح النظام القضائي في ما يتعلق بقضايا التشهير على أساس أن التكاليف الباهظة أصبحت عاملا ضد حرية التعبير وبالتالي تضر بالمصلحة العامة. وعبر عن هذا الأمر وزير العدل البريطاني جاك سترو عندما قال: «إنني أدرك القلق المتنامي من ارتفاع التكاليف القانونية في قضايا التشهير وقضايا النشر الأخرى التي ترفع وفق نظام (اتفاق الأجر المشروط/ لا فوز.. لا أجر). ورغم أنه من المهم أن يكون الناس قادرين على مقاضاة الناشرين إذا حدث تشهير بهم، فإنني أعتقد أن التوازن اختل بشكل كبير ضد الناشرين والعلماء والأكاديميين». وأكد سترو أن هذا الخلل أصبح في غير مصلحة حرية التعبير التي يرى كثيرون أنها أهم للمصلحة العامة من قضايا التشهير.

يضاف إلى ذلك أن سهولة رفع قضايا التشهير في المحاكم البريطانية أدت إلى الظاهرة المعروفة باسم «السياحة القضائية» التي يرى أنصار تعديل القانون أنها أضرت ببريطانيا كثيرا، وجعلت لندن عاصمة قضايا التشهير على مستوى العالم. وأقر كريس ويت مدير شركة «تمبل للحماية القانونية» في حديثه لـ«الشرق الأوسط» بأن آلية «لا فوز.. لا أجر» أسهمت في زيادة عدد قضايا التشهير المرفوعة، لكنه اعتبر أن هذه الزيادة «كانت من أجل الأفضل لأنها تعني أن الناس الذين يتعرضون للأذى من قطاع سيئ السمعة في إعلامنا يتمكنون من الدفاع عن سمعتهم». ورفض التعديلات المقترحة في القانون قائلا «إن الأحرى بالصحافة أن تتحرى الحقيقة وتدقق معلوماتها قبل النشر، وإن الأجدى للسياسيين أن يدافعوا عن حقوق دافعي الضرائب الذين يدفعون لهم رواتبهم بدلا من منافقة الإعلام ومحاولة كسب وده»، على حد تعبيره. لإصلاح هذا الخلل جرت عدة دراسات وشكلت عدة لجان شارك فيها برلمانيون ومختصون من الهيئات المدافعة عن حرية النشر ومن المحامين والناشرين وممثلي الصحافيين واتحاد الصحف واتحاد شركات التأمين ومنظمات المجتمع المدني. وكانت أشهر هذه اللجان هي «لجنة جاكسون» التي ترأسها سير روبرت جاكسون للنظر في القانون المدني وكيفية كبح جماح التكاليف الباهظة بسبب آلية «لا فوز.. لا أجر» خصوصا في قضايا التشهير والتعويض عن الأذى الجسدي والنفسي. وقدمت اللجنة في يناير (كانون الثاني) الماضي تقريرا من 584 صفحة شمل مقترحات عديدة لإصلاح النظام الحالي وإلغاء «أجر الفوز» واستبعاد تكاليف بوالص التأمين التي تضاف إلى فاتورة الطرف الخاسر.

كذلك شهد الشهر الماضي إصدار تقرير آخر أعدته لجنة خاصة تحت عنوان «تقرير لجنة العمل في قضايا التشهير» ورفع التقرير توصيات بشأن قوانين التشهير تركزت على أربعة جوانب هي: «السياحة القضائية»، ودور اعتبارات المصلحة العامة كدفاع في قضايا التشهير، ومسألة «النشر المتعدد» خصوصا في ظل تنامي الإنترنت، وتعديل إجراءات التقاضي في مسائل التشهير التي تسهم في ارتفاع التكاليف. ففي ما يتعلق بـ«السياحة القضائية» أكد التقرير أنها تترك تأثيرا ضارا على حرية التعبير تمتد آثاره إلى خارج بريطانيا حيث إن بعض الصحف الأميركية مثلا بدأ يدرس وقف التوزيع في بريطانيا تفاديا للدخول في قضايا أمام المحاكم فيها تحت طائلة قوانين التشهير. إلا أن هذه الصحف تريثت في قرار الانسحاب من السوق البريطانية لأنها تواجه مشكلة طبعتها الإنترنتية، إذ إن النشر على الموقع الإلكتروني يعرض الوسيلة الإعلامية لخطر المقاضاة بنفس درجة النشر في الطبعة الورقية، وبما أن الإنترنت جعل النسخ الإلكترونية من الصحف والكتب والبحوث متاحة للاطلاع في أي مكان حول العالم بما في ذلك بريطانيا بالطبع، فإن الصحف ودور النشر والبحث الأميركية تبقى معرضة لاحتمال قضايا تشهير أمام المحاكم البريطانية. إلا أن بعض المحامين يشيرون إلى أن مطبوعات ورقية أو إنترنتية أميركية كثيرة تتجاهل أحيانا التلويح بمقاضاتها في بريطانيا معتمدة على أن المحاكم الأميركية سترفض تنفيذ أي حكم ضد حرية التعبير والنشر.

* مواجهة السياحة القضائية

* يشرح «تقرير لجنة العمل في قضايا التشهير» ظاهرة «السياحة القضائية» وبالذات في مجال التشهير بأنها تتمثل في قيام جهة من خارج إنجلترا وويلز برفع قضية أمام المحاكم البريطانية ضد مطبوعة أو جهة أخرى مقيمة خارج إنجلترا وويلز أيضا. وتتحجج الجهة الشاكية بأن لديها أعمالا أو سمعة سوف تتضرر في بريطانيا حتى ولو كان عدد النسخ التي نشر فيها المقال موضع الشكوى محدودا. وأشار التقرير في هذا الصدد إلى قضية رفعها رجل أعمال أجنبي في لندن على مطبوعة أجنبية تصدر باللغة الإنجليزية وتوزع في بريطانيا نحو 100 نسخة بالإضافة إلى عدد محدود من الناس الذين يطلعون على موقعها الإلكتروني في بريطانيا. كما أشار التقرير إلى قضية رفعتها ممثلة أميركية أمام القضاء البريطاني ضد مطبوعة أسبوعية أميركية لا توزع نسخا ورقية في بريطانيا ولا يطلع سوى عدد محدود من القراء في بريطانيا على موقعها الإلكتروني. وتناول التقرير أيضا حالات تعرضت فيها منظمات المجتمع المدني إلى تهديدات من منظمات أو شخصيات أجنبية بمقاضاتها أمام محاكم بريطانية بسبب تقارير عن انتهاكات أو فساد، مما دفع إحدى هذه المنظمات إلى التفكير جديا في نقل إدارة نشر مطبوعاتها إلى أميركا حيث القوانين تعطي حماية كبيرة لحرية التعبير المنصوص عليها في دستور الولايات المتحدة. وقال بوب ساتشويل، المدير التنفيذي لجمعية المحررين البريطانية، إن مطبوعة يوجد مقرها خارج بريطانيا قد تبيع نسخة واحدة فقط هنا، وبالتالي فإنها قد تتعرض للمقاضاة في لندن من شخص قد يكون أيضا مقيما في بلد آخر، وهذه هي غرائب «السياحة القضائية»، التي تحتاج إلى إصلاح قضائي لمواجهتها لأنها أمر لا يستقيم منطقيا.

لمواجهة ظاهرة «السياحة القضائية» بدأت عدة خطوات لإدخال تعديلات قانونية تمنع استغلال المحاكم البريطانية في قضايا أطرافها غير مقيمين داخل حدودها القضائية، وصدرت بالفعل أحكام من محكمة الاستئناف مثل قرار «استغلال الإجراءات» الذي يعتبر أن الطرف الشاكي لا يمكن أن يرفع قضية أمام المحاكم البريطانية بزعم أن سمعته تعرضت للضرر بسبب نشر موضوع خصوصا إذا كان عدد المطلعين على الموضوع المذكور صغيرا بحيث لا يشكل ضررا ملموسا على سمعة الشاكي. ومنذ عام 2005 أصبح على الطرف الشاكي أن يثبت أن «ضررا حقيقيا وكبيرا» قد لحق به في بريطانيا لكي تكون لقضيته فرصة أمام القضاة.

إلا أن «تقرير لجنة العمل في قضايا التشهير» يؤكد الحاجة إلى مزيد من الإجراءات لمواجهة «السياحة القضائية» ويشير إلى أن مجرد رفع القضايا يضع أعباء مالية على الجهة الناشرة إذ عليها أن تقنع المحكمة بأنه لا توجد أرضية قانونية كافية لرفع الشاكي قضية أمام المحكمة البريطانية أو أن القضية تشكل «استغلالا للإجراءات» لأنه لا يمكن أن يكون هناك ضرر كبير وحقيقي لحق بسمعة الشاكي لأن عدد قراء المقال موضع الشكوى محدود جدا (كان عدد قراء الموضوع الذي نظرته محكمة الاستئناف عام 2005 لا يتجاوز خمسة أشخاص في بريطانيا أحدهم كان محامي الطرف الشاكي). ويقترح التقرير إجراءات إضافية تلزم الشاكي بأن يقدم دلائل على أن ضررا حقيقيا وملموسا لحق به في بريطانيا جراء النشر، وأن عددا كبيرا من الناس اطلع على الموضوع الذي بسببه ترفع القضية، وأن لندن بالتالي هي المكان القانوني المناسب لرفع قضية التشهير، وأن هذه الدلائل يجب أن تقدم في مرحلة مبكرة قبل أن تقرر المحكمة قبول النظر في القضية.

* مشكلة النشر المتعدد

* بروز الإنترنت كان عاملا أساسيا في تنامي قضايا التشهير وفي تغيير قواعد التقاضي فيها. ففي الماضي كان النشر محدودا بما هو مطبوع أو منطوق داخل حدود معينة، إلا أن الإنترنت ألغى الحدود وصار الموضوع في متناول القارئ من ألاسكا إلى نيوزيلندا، ومن نواكشوط إلى كابل. وأوجد الإنترنت تحديا آخر أمام المحاكم ودور النشر. ففي الماضي كان القانون البريطاني يعتمد على أن الفترة التي يجوز خلالها رفع قضية تشهير هي سنة واحدة من تاريخ نشر الموضوع المعني، وبالتالي فإن أي مطبوعة لو نشرت موضوعا مضى عليه 12 شهرا ولم يقاضيها بسببه أحد فإنه لا يمكن مقاضاتها بعد ذلك حتى ولو كان الموضوع تشهيريا بالفعل. ووفقا لقاعدة «النشر المتعدد» فإن مدة السنة لا تمدد إلا إذا أعادت المطبوعة نشر الموضوع وفي هذه الحالة تبدأ سنة جديدة من تاريخ النشر الجديد يمكن خلالها رفع قضية. لكن الإنترنت جعل قاعدة «النشر المتعدد» بلا قيمة لأن وجود الموضوع على أرشيف الموقع الإلكتروني للمطبوعة بات سببا لرفع قضية في أي وقت مهما مر من سنوات على تاريخ النشر في النسخة الورقية، وذلك على أساس أن كل نقرة على الموضوع تمثل نشرا جديدا له (النشر المتعدد) تبدأ معها سنة جديدة يفتح خلالها باب التقاضي. وتقول آمبر مليفيل براون من شركة «ديفيد برايس للمحاماة» إن نقل الأخبار بين مواقع الإنترنت جعل القصص الصحافية توجد وتنتشر بشكل مستمر، كما أن الأرشيف الإلكتروني للمطبوعات يسمح بمواصلة فتح باب التقاضي بعد مرور أكثر من سنة على نشر الموضوع الأصلي.

وقال بوب ساتشويل، المدير التنفيذي لجمعية المحررين البريطانية، في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط»: «إنه من السخف استمرار مبدأ النشر المتعدد في عصر الإنترنت لأنه كلما ينقر إنسان على موضوع في موقع ما يعتبر هذا نشرا جديدا يفتح باب التقاضي لسنة أخرى». وأضاف: «إن القانون يحتاج للتعديل لكي يواكب التغييرات في عصر ثورة الاتصالات».

وفي سبتمبر (أيلول) الماضي نشرت وزارة العدل البريطانية ورقة ناقشت موضوع «النشر المتعدد» والاقتراح المطروح من عدة جهات باعتماد مبدأ «النشر الواحد» لحماية الصحف ودور النشر والبحث من خطر المقاضاة بعد مرور سنة على النشر. ومن بين الاقتراحات المدروسة أن تعطى حماية قانونية للناشرين بعد مرور سنة على تاريخ النشر، بمعنى أنه لا يجوز رفع قضية إذا مرت فترة سنة على تاريخ النشر الأصلي، ولا يؤخذ في هذه الحالة بوجود الموضوع المعني في الأرشيف الإلكتروني للمطبوعة، والاستثناء الوحيد يكون إذا قامت المطبوعة بإعادة نشر الموضوع من جديد، فوقتها تبدأ سنة جديدة تكون المطبوعة معرضة خلالها لاحتمال المقاضاة. ولحماية الشخص الذي قد يشكو من وقوع تشهير عليه فإن الاقتراح المطروح ينص على أن تقوم المطبوعة بتحديث أرشيفها لإرفاق توضيح أو تصريح من الجهة المتضررة مع الموضوع الأصلي الذي مرت عليه سنة بحيث تكون وجهة نظرها موجودة إذا قام شخص بالدخول إلى الموضوع المعني والموجود في الأرشيف الإلكتروني.

كذلك درست «لجنة الثقافة والإعلام والرياضة» في مجلس العموم البريطاني إشكالية «النشر المتعدد» وضمنتها تقريرها الذي صدر في فبراير (شباط) الماضي حول «قيم الصحافة والخصوصية والتشهير»، حيث رأت وجود حاجة ماسة لإحداث توازن بين حماية سمعة الأشخاص وبين حماية الإعلام بسبب وجود أرشيف إلكتروني يفتح مجال التقاضي مع كل نقرة جديدة على الموضوع. واقترحت اللجنة فرض حد سنة واحدة على تاريخ النشر لا يسمح بعده برفع قضية على المطبوعة، إلا إذا أقنع الشاكي المحكمة بأن هناك أسبابا قوية جعلته لا يعلم بالموضوع خلال فترة السنة، وحتى في هذه الحالة لا يحق له الحصول على تعويض مالي إذا أثبت أن الموضوع فيه تشهير، بل يمنح حق نشر تصويب يصحح المعلومة التشهيرية، ويرفق التصويب مع النسخة الموجودة في أرشيف المطبوعة الإلكتروني. ورأت اللجنة أن أي تعديل في القانون يجب ألا يقتصر على وسائل الإعلام بل يجب أن يشمل أيضا المدونات الإلكترونية (البلوغز) والمواقع الاجتماعية على الإنترنت مثل «فيس بوك» و«تويتر».

وأشار التقرير إلى مشكلة أخرى تتمثل في تحديد من المسؤول عن إعادة نشر موضوع على الإنترنت، هل هو الناشر الأصلي أم الجهات الأخرى التي تقدم رابطا على موقعها للموضوع الأصلي بعد فترة من نشره. وخلص إلى ضرورة إعادة النظر في مبدأ «النشر المتعدد» لحماية الناشرين من احتمال التقاضي المفتوح بسبب الإنترنت ووجود أرشيف إلكتروني للمطبوعات.

* دفاع المصلحة العامة

* تدعو عدة جهات وتقارير إلى توسيع حجة «المصلحة العامة» للدفاع ضد قضايا التشهير وذلك بهدف حماية حرية التعبير من التضييق الذي قد تتعرض له في مثل هذه القضايا. وكان القضاء البريطاني قد سهل استخدام حجة النشر بغرض المصلحة العامة وذلك إذا أثبتت المطبوعة أنها تصرفت بمسؤولية، وتم تثبيت هذا المعيار انطلاقا من قضية أصبحت معلما قضائيا وهي قضية ألبرت رينولدز رئيس وزراء أيرلندا الأسبق ضد صحيفة «الصنداي تايمز» البريطانية، إذ سمحت المحكمة بأخذ اعتبار النشر للمصلحة العامة حتى إذا كان من الصعب إثبات حقيقة الادعاءات موضع الشكوى ما دامت الصحيفة قد تصرفت بمسؤولية وتوخت المعايير الصحافية السليمة. ووضع مجلس اللوردات (أعلى سلطة قضائية في بريطانيا) عشرة معايير صارت تستخدم في الدفاع أمام المحاكم في قضايا التشهير، وتتعلق هذه المعايير بطبيعة المعلومة ومدى اعتبار نشرها ضمن المصلحة العامة، وكيفية تصرف الصحيفة لمحاولة تدقيق معلوماتها، ومصدر المعلومات، وظروف النشر، وعامل ضغط الوقت خصوصا في حالة الصحف اليومية أو شبكات الإذاعة والتلفزيون، واستخدام المطبوعة لمعايير الصحافة المسؤولة، وما إذا كان الموضوع يحتوي على موقف الطرف الآخر.

وأوضح مجلس اللوردات أن امتناع الصحيفة عن كشف هوية مصادرها يجب ألا يؤخذ ضدها، وأن على المحاكم أن تتذكر أيضا أن الصحافي تحت ضغط النشر ليس مثل القاضي الذي ينظر إلى الواقعة بعد نشرها بزمن ويستطيع الاطلاع على أشياء لم تكن متاحة للصحافي وقت النشر. وجرى تطوير الحجج المعروفة باسم «دفاع رينولدز» لمصلحة حرية النشر في قضايا لاحقة عديدة بحيث بات يمكن للقضاء أن يحكم لمصلحة الصحيفة حتى إذا تبين لاحقا أن المعلومة لم تكن صحيحة، ولكن الصحيفة أثبتت أنها تصرفت بمسؤولية وأن النشر كان للمصلحة العامة وليس لهدف شخصي أو لتصفية حسابات مع الشخص المعني.

واليوم تطالب منظمات المجتمع المدني بتوسيع قاعدة المصلحة العامة لحماية الكتاب والعلماء والمنظمات التي تعمل في حقل الحقوق المدنية، إضافة إلى البحوث العلمية، خصوصا في ظل توسع النشر عبر الإنترنت.

وحث «تقرير لجنة العمل في قضايا التشهير» الحكومة على دراسة مسألة «المصلحة العامة» كدفاع في قضايا التشهير وذلك بهدف حماية الصحافة المسؤولة وتشجيع صحافة التقصي وعمل منظمات المجتمع المدني. إلا أن قانونيين يشيرون إلى أن هناك مشكلة قد تواجه مثل هذا التشريع بسبب البند الثامن من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تراعيها المحاكم، إذ إن هذا البند يعتبر سمعة الإنسان جزءا من حقوقه، وبالتالي يتوجب إعطاء وزن لحمايتها، من خلال تصرف الإعلام بمسؤولية وعدم إطلاق يده بحمايته بشكل مطلق بحجة «المصلحة العامة» في النشر. وربما لهذا السبب فإن تقرير «لجنة العمل في قضايا التشهير» أشار إلى أهمية البحث عن كيفية التوفيق بين النشر «للمصلحة العامة» وكيفية حماية سمعة الأفراد.

* إجراءات التقاضي

* الجانب الرابع في «تقرير لجنة العمل في قضايا التشهير» يتعلق بإجراءات التقاضي التي تسهم في ارتفاع التكاليف وبالتالي تعرض الصحف ودور النشر وهيئات البحث لضغوط تدفعها أحيانا للإحجام عن نشر موضوع، مما يعني ضررا بحرية التعبير والمصلحة العامة وحق الرأي العام في المعرفة. وبحث التقرير في اقتراحات استخدام قضاة متخصصين والاستغناء عن المحلفين في قضايا التشهير، وحسم أي خلاف بين المحامين حول المعنى المقصود من الكلمات موضع الشكوى لتوفير وقت المحكمة. ويرى التقرير أنه إذا تم التوصل إلى آلية ملزمة في حسم الجدل أمام قاض تمهيدي حول المعنى المقصود من العبارات موضع الشكوى وتقرير ما إذا كان فيها تشهير وقذف أم لا وذلك قبل بدء الجلسات الموسعة للمحكمة، فإن ذلك سيوفر وقتا كبيرا وقد يسهل التوصل إلى تسويات أو إلى سحب قضايا وبالتالي يقلص الكثير من التكاليف. ومع سيل كل هذه الاقتراحات والتقارير يبدو مؤكدا أن بريطانيا تتجه الآن إلى معالجة أوجه الخلل في قوانينها خصوصا ما يتعلق بمسائل القذف والتشهير وذلك بهدف كبح جماح التكاليف الباهظة و«ثقافة التعويضات» التي أسهمت في زيادة عدد القضايا المرفوعة أمام المحاكم. وستبدأ أولى الخطوات في الشهر الحالي عندما يتم تخفيض «أجر الفوز» الإضافي الذي يحصل عليه المحامون من نسبة 100% إلى 10% كحد أقصى.. فلندن كما يبدو لم تعد تريد «سياحة قضائية» وليست سعيدة بسمعتها كعاصمة عالمية لقضايا التشهير.

* من يدفع التكاليف؟

* كانت الآلية المتبعة هي أن من يرفع قضية يتحمل تكاليفها وتكاليف الطرف الآخر إذا خسر، ولكن عام 1990 طبق في القانون الإنجليزي نظام جديد يرفع العبء المالي عن كاهل الطرف الشاكي الذي أصبح لا يتحمل شيئا، إذ إنه لو خسر لا يدفع للمحامي، أما إذا ربح فإنه يحصل على التعويض الذي تقره له المحكمة، بينما يحصل المحامي على تكاليفه من الطرف الآخر الذي خسر القضية. وعرف هذا النظام قانونا باسم «اتفاق الأجر المشروط» أما الاسم الشائع فهو «لا فوز.. لا أجر» (No win No fee).

وسمحت الحكومة عام 1995 بتطبيق هذا النظام في أنواع محددة من القضايا خصوصا قضايا «الإصابات الجسدية والنفسية». وفي عام 1998 تم توسيع هذا النظام بحيث يطبق في كل القضايا ما عدا قضايا الأحوال الشخصية (قضايا الأسرة) والقضايا الجنائية. وفي عام 1999 تم تمرير قانون جديد دخل حيز التنفيذ عام 2000، أصبح معه بمقدور القاضي أن يسمح لمحامي الطرف الشاكي الحصول على نسبة «فوز» إضافية على أتعابه تصل إلى 100% من الطرف الخاسر. وكان التفسير وقتها هو أن «أجر الفوز» الإضافي يعوض المحامين عن أتعابهم في القضايا التي يخسرونها ضمن آلية «لا فوز.. لا أجر». وبعد تمرير القانون الجديد (الذي طبق في إنجلترا وويلز، باعتبار أن اسكتلندا لها نظامها القضائي المستقل) ألغت الحكومة البريطانية نظام الدعم القانوني في قضايا «الإصابات الجسدية والنفسية»، وهو النظام الذي يتيح للأشخاص المحتاجين الحصول على تمويل من الدولة لقضاياهم أمام المحاكم.

ومع تمرير هذه التعديلات القانونية ارتفع عدد القضايا المرفوعة أمام المحاكم بشكل أثار حملة قوية في الصحافة البريطانية التي نشرت قصصا عن حصول المحامين على مبالغ هائلة في قضايا التعويض عن الإصابات، خصوصا مع انتشار ثقافة المقاضاة للحصول على تعويضات وتزايد إعلانات المحامين الذين يروجون لخدماتهم ويسعون لإغراء الناس للتقاضي «المجاني» وفق آلية «لا فوز.. لا أجر». وفي عام 2006 صدر تقرير برلماني بعنوان «ثقافة التعويضات» بعد أن استمعت لجنة الشؤون الدستورية بمجلس العموم إلى إفادات أشارت إلى أن عدد قضايا التعويض عن «إصابات جسدية أو نفسية» ارتفع من نحو 250 ألف قضية في سبعينات القرن الماضي إلى نحو 733 ألف قضية حاليا.

أما بالنسبة لقضايا القذف والتشهير فإنها وصلت إلى 560 قضية عام 1995 قبل أن تعود وتنخفض إلى ما بين 200 إلى 300 قضية في الوقت الراهن. ويعتبر هذا النوع من القضايا أصعب عادة من قضايا الإصابات الجسدية لأن إثبات الضرر فيه يحتاج إلى جهد كبير خصوصا في ظل اعتبارات حرية التعبير والمصلحة العامة التي تميل المحاكم لأخذها في الاعتبار. وبينما يقول المدافعون عن نظام «لا فوز.. لا أجر» إنه يتيح فرصة العدالة للفقراء ومحدودي الدخل، يقول المعارضون إنه ينشر «ثقافة التقاضي للحصول على تعويض» ويستفيد منه المحامون الذين باتوا لا يخسرون ماليا لأنهم بالأساس لا يقبلون الترافع في قضايا «مجانا» إلا إذا كانوا واثقين بنسبة لا تقل عن 60% من فرصة الفوز، كما أنهم حتى لو خسروا يستطيعون تعويض خسائرهم المالية في القضايا التي يربحونها، لأن نظام «أجر الفوز» يسمح لهم بزيادة أرباحهم بنسبة 100% في القضايا التي يكسبونها ضمن «ترتيب أجر الفوز المشروط». ووفقا لهذا النظام فإن الشاكي لا يتحمل أي تبعات مالية حتى لو خسر، فهو لا يدفع أتعابا لمحاميه في هذه الحالة، كما أن بوليصة التأمين التي ينصح في البداية بالحصول عليها من واحدة من شركتي تأمين متخصصتين تدفع عنه تكاليف الطرف الآخر في حالة خسارته للقضية. ولا يدفع الشاكي أيضا لشركة التأمين التي تحصل على رسوم عالية في حالة كسب القضية. والخاسر الوحيد هو الشركات والمؤسسات التي ترفع ضدها القضايا.

* قضايا ومفارقات

* شهدت المحاكم البريطانية بعض القضايا التي أثارت تعليقات وجدلا، خصوصا في أوساط دعاة تعديل القانون الذين يطالبون بإجراءات لحماية حرية التعبير ومنع استغلال قوانين التشهير.

* في ديسمبر (كانون الأول) الماضي رفضت المحكمة العليا في لندن قضية رفعها قاتل محكوم عليه بالسجن 22 عاما ضد صحيفة «ديلي ميرور» البريطانية، مطالبا بالتعويض على أساس أن الصحيفة وصفته بأنه «مخبر» للشرطة و«مرافق» لزعيم عصابة.

* رفع رجل أعمال أوروبي قضية تشهير في لندن ضد صحيفتي «نيويورك تايمز» و«هيرالد تريبيون» الأميركيتين. وجاء في الوثائق أن 31 شخصا فقط في إنجلترا اطلعوا على المقال في النسخة الإلكترونية للصحيفتين، كما أن عدد «نيويورك تايمز» الذي احتوى على المقال المذكور باع 177 نسخة فقط في إنجلترا ولم يظهر في النسخة الورقية لـ«هيرالد تريبيون» التي وزعت في لندن.

* نظرت المحكمة العليا في لندن قضية تشهير ضد كاتبة أميركية بسبب فقرة وردت في كتاب حوت اتهاما ضد الشاكية. وقيل خلال القضية إن الكتاب المذكور باع 33 نسخة في إنجلترا.

* واجه أستاذ جامعي أيسلندي دعوى قضائية في لندن بسبب خطاب ألقاه أمام حضور محدود وجه فيه انتقادات لرجل أعمال أيسلندي مقيم في بريطانيا. ولم يكن ممكنا إقامة الدعوى على الأستاذ الجامعي لولا أن ترجمة إنجليزية لمقتطفات من الخطاب نشرت على الموقع الإلكتروني لجامعة أيسلندا. وتسلم الأستاذ الجامعي إخطارا بالدعوى القضائية من القنصل البريطاني في أيسلندا، إلا أن محاميه استطاع دحض القضية من منطلق أن الإخطار يعتبر لاغيا لأن القنصل البريطاني لم يطلب من موكله التوقيع على تسلمه رسميا.

المفارقة أن رجل الأعمال الشاكي رفع دعوى ضد الخارجية البريطانية بسبب الخطأ الذي ارتكبته مطالبا بتعويضه. وحكمت المحكمة لصالحه، وقضت بأن تدفع له وزارة الخارجية تعويضا بعشرات الآلاف من الجنيهات إضافة إلى تحميلها أتعاب المحامين.

كيف يبت القانون في التشهير؟

* التشهير في القانون الإنجليزي يحدث إما من خلال الكلمة المكتوبة، ويسمى في هذه الحالة libel أو من خلال الكلمة المنطوقة ويسمى slander، وفي الحالتين يعرض الشخص للمحاكمة إذا رفع ضده المتضرر قضية.

ويكون الشخص تعرض للتشهير في نظر القانون إذا كان الكلام المكتوب أو المنطوق من خلال نشره أو إذاعته غير صحيح ويعرض الشاكي «للكراهية أو الأذى أو السخرية أو الازدراء، أو يحط من قدره في نظر الناس من ذوي العقول السوية، أو يؤثر سلبا على عمله أو شركته أو مهنته أو صنعته».

وعلى الشاكي أن يثبت أن تشهيرا لحق به بسبب الموضوع الذي يشكو منه وأن الموضوع يشير إليه تحديدا وليس فقط موضوعا عاما لا يعنيه مباشرة. وعلى الطرف المشكو منه أن يقدم أمام المحكمة البينات التي تدعم موضوعه أو كلامه، وعليه في هذه الحالة إما أن يثبت أن الكلمات موضع الشكوى صحيحة وتمثل الحقيقة، أو أنها كانت تعليقا موضوعيا قيل بشكل نزيه للمصلحة العامة وليس لغرض شخصي وبدافع الإيذاء فقط، أو أن هذه الكلمات كانت في إطار تصريحات منقولة من كلام قيل في البرلمان أو في المحكمة وبالتالي توجد حصانة فيه، أو إنه قيل في إطار مؤتمر صحافي عام وأن كلام الطرف المتضرر لم يتم تجاهله. ويمكن للمحكمة أن تحكم في صالح الوسيلة الإعلامية حتى لو لم يكن الكلام المنشور أو المذاع صحيحا، وذلك إذا استوفت معايير معينة من بينها المصلحة العامة وبذل جهد كاف في تقصي الأمر قبل النشر وإعطاء فرصة لوجهة نظر الطرف المتضرر ومراعاة أصول الصحافة المسؤولة.