أوسيتيا الجنوبية.. أطلال مدينة

«شكرا لروسيا».. كلمات انتشرت في أرجاء المدينة.. تجاورها أحيانا شعارات «اللعنة على ساكاشفيلي»

أحد المباني وعليه آثار الحرب في أوسيتيا الجنوبية («الشرق الأوسط»)
TT

أوسيتيا الجنوبية إحدى جمهوريات منطقة شمال القوقاز، ترامت أصداء أحداثها عالية إلى ما وراء حدود المكان يوم كانت الشرارة التي أشعلت نيران الحرب في القوقاز صيف عام 2008. ورغم أن هذه الجمهورية ظلت ملء السمع والبصر وفرضت نفسها على كل نشرات الأخبار العالمية، فإنها لا تزال مجهولة بالنسبة إلى الكثيرين جغرافيا وتاريخيا.

أوسيتيا الجنوبية صارت اليوم عنوانا للكثير من الكوارث البشرية والإنسانية التي عصفت بالمنطقة منذ قرون طويلة خلت. وكان الغزو الجورجي الأخير في أغسطس (آب) 2008 خاتمة لسلسة من الأحداث الدموية التي تواصلت لعقود طويلة، وبداية لمرحلة جديدة تتبدى ملامحها في ما يراود أبناء أوسيتيا الجنوبية من آمال في غد مشرق يتوج كفاح سنوات النضال من أجل الاستقلال.

جمهورية أوسيتيا الجنوبية تتمتع بندرة سكانية فريدة النمط، يزيد من فرادته تاريخها الذي طالما انعكست تقلباته العاصفة على حياة ومصائر الكثير من الأعراق والقوميات التي استوطنت هذه المنطقة منذ القدم. لم يبق من سكانها أكثر من سبعين ألف نسمة، يقطن ما يقرب من نصفهم العاصمة تسخينفال الواقعة على بعد أمتار من الحدود مع جورجيا. الوصول إليها محفوف بكثير من الصعوبات والمخاطر بسبب حصار التاريخ والجغرافيا. وقد لمسنا مدى وطأة الحصار الجغرافي يوم اعتزمنا السفر إلى هناك لنجد أن لا أحد يستطيع تجاوز هذا الحصار إلا من خلال النفق الوحيد الكائن في بطن سلسلة جبال القوقاز.

الوصول إليها كان عبر بوابتها الوحيدة من أراضي الشقيقة أوسيتيا الشمالية التي يذكرها الكثيرون بمذبحة أطفال بيسلان في عام 2004. وحسنا فعل أهل أوسيتيا حين تعمدوا إقامة مقابر أطفالهم على مقربة من مطار العاصمة فلاديقوقاز، لتكون شاهدا على واحدة من أبشع جرائم العصر، وناقوس تذكرة يدق أسماع كل زائر لهذه الديار.

عند ناصيتها تطالعك «شجرة الحياة»، وهي النصب التذكاري الذي أقيم عند مدخل المقابر التي تمتد على نحو يدعو إلى الكثير من الشجن وراء بوابة لا تحمل أكثر من كلمتين: «مدينة الملائكة». تداهمك الذكريات لتحملك إلى سنوات سوداوية خلت، سجلت الكثير من جرائم الإرهابيين وقتلة الأطفال ممن كانوا يتغنون بشعارات استقلال الشيشان... والشيشان منهم براء.

يمتد الطريق طويلا صوب جبال القوقاز في اتجاه المعبر الوحيد الذي يصل أوسيتيا الشمالية بالعالم الخارجي.. معبر روك الذي يمتد داخل سلسلة جبال القوقاز ليكون طريق الحياة لمن ينشدون الحياة. تصله بعد طريق حافل بالمغامرات التي لا يخفف من وقع حدتها سوى أجمل إبداعات الطبيعة، ومنها قمم الجبال الشاهقة المكسوة بالثلوج الناصعة البيضاء. تمتد هذه الجبال من الشمال إلى الجنوب لتقف حاجزا طبيعيا بين قارتي آسيا وأوروبا.. تشق السماء.. تعانق السحاب لتبدو بالغة الثراء بمناظرها الطبيعية الخلابة التي يستعيد معها المرء الكثير من مفردات تاريخ المنطقة. ولكم كان غريبا أن تتبدى هذه الجبال متباينة الألوان من الأسود حتى الأبيض الذي تزيده الثلوج بياضا، مرورا بكل ألوان الطيف، فيما تزداد غرابة على ضوء ما احتضنته سفوحها من أشجار برية تشق عنان الفضاء. الطرق الملتوية الضيقة التي يعود تاريخ شقها إلى سنوات الإمبراطورية الروسية تزيد من صعوبة الرحلة. تشحذ الذاكرة وتوقظ ما اختزنته من قصص وحكايات تقول بشجاعة وشهامة أهل القوقاز، وهو ما سبق وأبدع تسجيله عباقرة الأدب الروسي في حينه.

نحو مائة كيلومتر من الذكريات تسلمك إلى نقاط الحدود إلى خارج روسيا الاتحادية عبر بوابتين تفضيان بك إلى مشارف حدود أوسيتيا الشمالية التي تفتح أحضانها ترحيبا بكل زائر تراه صديقا في وقت الضيق. فالقادم من روسيا وعبر روسيا ضيف عزيز طالما انتظروه وينتظرونه بكثير من الشوق. ألم تكن روسيا هي التي أنقذت هذا الشعب الأعزل الصغير العدد يوم داهمته ماكينات الشر في أغسطس 2008؟

وها هي نقاط الحدود تتوالى.. الروسية أولا تتبعها الأوسيتية. تبدو مزودة بكل ما تحتاجه نقاط الحدود في أي مكان، ما كان يعني الخضوع لكل متطلبات الأمن. اختلطت المشاعر مفعمة بالدهشة والترقب، وراحت الأنظار تمسح المكان لتستمتع بكل مفردات طبيعته التي تخلب الألباب. الجداول تنتشر وادعة على مقربة، وخرير مياهها يبدو أقرب إلى الموسيقى التصويرية لمشاهد فيلم رومانسي لا يريد المرء له نهاية.

انطلقنا بصحبة مضيفينا صوب العاصمة تسخينفال. عشرات الأمتار عبر طريق ملتوٍ سلمنا إلى بداية الممر التاريخي الأشهر، «معبر روك»، البوابة الطبيعية والمنفذ البري الوحيد إلى العالم لأوسيتيا الشمالية المحاصرة بحدود جورجيا من الجهات الثلاث. ونغوص في أعماق جبال القوقاز ويلفنا غموض امتدت مشاهده إلى ما يقرب من أربعة كيلومترات هي طول هذا النفق، أو طريق الحياة كما يسميه أهل المنطقة. استغرقتنا أحلام كانت خليطا من مشاهد تاريخ قديم استدعته الذاكرة لاستلهام ما قد يكون عونا لفك طلاسم الزمان والمكان. كانت الشمس في بداية رحلة الغروب. بدا ضوؤها في الأفق ناعما يمسح نصال الجبال التي احتضنت في رفق ما انتشر فوقها من ثلوج. وعند منبت هذه الجبال تصافح الأعين ما يتخللها من جداول تعكس أشعة الشمس اللامعة على نحو يثير الكثير من الشجن والفرح في آن. يتنبه المرء إلى أن الهواء صار غير ذلك الهواء الذي رافقنا حتى ممر روك. قال مضيفونا إن الطبيعة هنا غير الطبيعة هناك. هنا غير.. يكررونها كثيرا. يقولون ذلك في فخر يثير الدهشة والإعجاب. ونتعجل اللقاء بحثا عن إجابات لأسئلة طالما اختزنتها الذاكرة وقضّت المضاجع. رحنا نمطر مضيفينا ببعضها، ومنها ما تناول الكثير من صفحات المجهول. بدأنا بمحاولة معرفة أسباب وجود المدافع التي انتشرت على جانبي الطريق قبل الممر وبعده. خلناها بقايا عتاد عسكري تركته فصائل المقاومة منذ سنوات القتال. اتضح أنها من ضروريات المكان. قالوا إن الحاجة تفرضها لتبديد تراكمات الثلوج على سفوح الجبال المحيطة بالمنطقة خشية تساقطها المفاجئ بما قد يقطع الطريق ويهدد حياة رواده. قالوا إن ذلك يحدث كثيرا. تذكروا يوم سقوطها الذي تسبب في قطع طريق الحياة وتهديد حياة الكثيرين يوم باغتتهم من علٍ لتسد مدخل هذا الممر الجبلي الأشهر.

ونذكر أننا سعدنا حظا بالمرور في لحظات جاءت تالية لتساقط الكثير من أحجار جبال القوقاز التي زادت من صعوبة المرور وهددت السيارات التي شاء حظها العاثر أن تكون على مقربة. كانت الأحجار متباينة الأحجام، ما كان يحدد سرعات تساقطها. تذكرت امرأ القيس وأحد أبيات رائعته الشهيرة:

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا/كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلٍ ولم يمضِ من الزمن الكثير حتى بلغنا مشارف العاصمة تسخينفال. قالوا إن الجورجيين حاولوا تغريبها من خلال إضافة كَسْر «اللام» الأخيرة وإضافة حرف الياء، مثل ما سبق وفعلوه مع سوخوم عاصمة أبخازيا، وهو ما تناولناه في معرض تسجيلنا لوقائع زيارة أبخازيا في العام الماضي. وما دام الشيء بالشيء يذكر، نسارع لنشير إلى القرى الجورجية التي انتشرت على جانبي الطريق تحمل آثار الحرائق والخراب والدمار. هنا ضاعت الحقيقة أو كادت تضيع. فلا أحد يريد تحمل مسؤولية ما جرى لتلك القرى. نذكر أن الجورجيين راحوا يجأرون بالشكوى في صيف العام قبل الماضي بحثا عن مؤيد ومدافع ضد ما وصفوه باعتداءات الأوسيتيين الذين داهموا مساكنهم انتقاما من اعتداءات الجيش الجورجي. والأوسيتيون يقولون إن الجورجيين هم الذين سارعوا بالرحيل هربا من احتمالات الانتقام بعد أن أضرموا النيران في مساكنهم تحسبا لاحتمالات وقوعها فريسة في أيادي الأوسيتيين. الغريب أن هذه المساكن كانت ولا تزال تحمل آثار عز وثراء أصحابها، على النقيض من الأكواخ والمساكن المتواضعة التي انتشرت على مقربة. قالوا إن الفوارق بين أبناء القوميتين الجورجية والأوسيتية كانت كبيرة، وهو ما يمكن أن يكون تفسيرا لبعض العداء التاريخي بين أبناء هاتين القوميتين.

لسنا هنا بقضاة، ولم نكن يوما لندّعي كتابة التاريخ. نريد فقط تسجيل ملامح مأساة شعب ضاع فريسة صراعات الأمس القريب. في شوارع العاصمة التي يصعب على المرء وصفها بالعاصمة، والتي أقفرت من روادها، التقينا بعض الشباب الذين كانوا على ما يبدو في انتظار ضيوف الخارج. وتدفقت القصص والحكايات تسرد بعضا من فظائع الأمس القريب. يكاتيرينا تيبيلوفا وسارمات جوسويف وغيرهما من شباب الجامعة قالوا إنهم يجوبون الشوارع لقتل الوقت وتبادل أحاديث الذكريات، وإن أكدوا عزمهم على المشاركة في إعادة بناء الجمهورية. راحوا يعيدون على أسماعنا الكثير مما سبق وتناقلته وكالات الأنباء والقنوات التلفزيونية التي قُيّض لها متابعة بعض مشاهد المأساة. كانت الشعارات تغطي ما بقي من جدران المساكن التي أقفرت من ساكنيها إلى البلدان والجمهوريات المجاورة. «شكرا لروسيا».. كلمات انتشرت كثيرا فوق الأطلال في مختلف أرجاء المدينة، تجاورها أحيانا شعارات «اللعنة على ساكاشفيلي» الذي تصفه أحيانا بالقاتل وأخرى بالعميل النازي.

تظل روسيا الملجأ والملاذ. روسيا التي يحمل هويتها 97% من أبناء أوسيتيا الشمالية وتبدو لغتها السائدة في الحياة اليومية. كما يظل الروبل الروسي عملتها الرسمية المتداولة منذ زمن الإمبراطورية الروسية. وتبقى وحدات حفظ السلام الروسية ترابط قريبا من المناطق الحدودية وفي أرجاء متفرقة من الجمهورية. وكان من قبيل المصادفة أن تعلن المصادر الرسمية قبل وصولنا ببضعة أيام خبر توقيع أوسيتيا الجنوبية اتفاقية التعاون العسكري التي تسمح لروسيا بمقتضاها نشر وحدات قواعدها العسكرية في أراضيها على غرار ما سبق ووقعته موسكو مع أبخازيا في العام الماضي.

يقولون.. ولِم لا وقد ارتبط الشعبان بأواصر علاقة وثيقة تمتد إلى قرون طويلة خلت؟ وثمة من يقول أيضا إن هذه العلاقات تبدو اليوم أفضل دعم لإصرار أوسيتيا الجنوبية على الانفصال عن جورجيا، وفي طياتها الكثير من حقائق الطرح وعدالة المطلب. وتلك حكاية طويلة سرد علينا بعض تفاصيلها إدوارد كوكويتي رئيس أوسيتيا الشاب الذي كان حتى الأمس القريب مدرسا للتربية الرياضية وبطل جورجيا في المصارعة الحرة، لكنه اختار العمل في السياسة دفاعا عن حقوق الوطن في إطار حركة المقاومة التي حملته إلى رئاسة الجمهورية في ثاني انتخابات رئاسية في أولى سنوات القرن الحالي.

قال كوكويتي إن أوسيتيا طلبت الانضمام إلى الإمبراطورية الروسية في عام 1774 ولم تكن جزءا من جورجيا التي لحقت بأوسيتيا ووقعت اتفاق «جورجي» في عام 1783 مع الإمبراطورية الروسية، ثم عادت وطلبت الانضمام طواعية بكل مقاطعاتها إليها في عام 1801، بحثا عن الملاذ بعيدا عن ملاحقة واعتداءات الإمبراطورية الفارسية. أما عن ضم أوسيتيا إلى جورجيا فقد اقتضتها التقسيمات الإدارية للإمبراطورية الروسية في منطقة القوقاز، وهي نفسها التي فرضت واقع تقسيم أوسيتيا أو الانيا - الاسم التاريخي لهذه المنطقة- إلى «شمالية» كانت مساحتها وتضاريسها الجغرافية تسمح بوجودها كمنطقة مستقلة، و«جنوبية» حالت المساحة والتضاريس دون ذلك ليجري ضمها إلى منطقة جوري الجورجية المتاخمة لها. ولم يكن الشعب الأوسيتي ليعترض لأن الأمر لم يكن يعني أكثر من التقسيمات الإدارية التي تفرضها في الكثير من البلدان المتطلبات الجغرافية والاقتصادية للمنطقة.

واستطرد الرئيس كوكويتي ليقول إن التاريخ الحديث سجل أيضا وقوع المنطقة فريسة للصراعات الحزبية بين المناشفة والبلاشفة في أعقاب ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917 حيث استطاع المناشفة (خصوم البلاشفة في الحزب الشيوعي) انتزاع جورجيا بعيدا عن روسيا وفرضوا سيطرتهم على أراضيها خلال الفترة من 1918 - 1920 دون أن تكون أوسيتيا جزءا من تلك الأراضي. وفي 1921 أعلنت جورجيا عن ضم أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في أعقاب حملة تطهير واسعة لقي خلالها الألوف من أبناء أوسيتيا الجنوبية حتفهم. وجاء ستالين ابن أوسيتيا ليعلن رسميا عن ضم أوسيتيا الجنوبية إلى جورجيا كمقاطعة ذات حكم ذاتي.

وحرص الرئيس كوكويتي على توضيح أن تعداد سكان أوسيتيا الجنوبية خلال تلك الفترة كان قريبا من عدد سكان الجزء الشمالي، بينما لا يتعدى اليوم أكثر من سبعين ألف نسمة في الوقت الذي يناهز فيه تعداد الشمالية ما يقرب من نصف المليون. وقال إن المنطقة طالما عانت من الفقر المدقع رغم جودة أراضيها الزراعية، وكانت الأفقر بين كل المناطق الجورجية. ومضى ليكشف عن أن الرئيس الجورجي الأسبق زفياد جامساخورديا الذي كان أول من أعلن استقلال جورجيا عن الاتحاد السوفياتي السابق في عام 1988 (كان انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991)، استهل فترة حكمه بإلغاء وضعية الحكم الذاتي لأوسيتيا الجنوبية، ما دفع سكانها إلى الاعتراض. لم يتوقف الأمر عند مجرد الاعتراض، فقد سارعت السلطة المحلية لإعلان رفعها مستوى المقاطعة ذات الحكم الذاتي إلى جمهورية ذات حكم ذاتي، مرتضية في نفس الوقت التبعية لجورجيا في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989. غير أن البرلمان الجورجي سارع بإعلان عدم مشروعية القرار وإرسال «تجريدة» قوامها يقترب من خمسين ألفا من المتطوعين الذين داهموا مدينة تسخينفال، ما كان مقدمة للصراع المسلح الذي كانت حدته تتراجع بقدر تراجع حدة الخلافات الداخلية بين القيادات الجورجية التي تحولت إلى مساعي الإطاحة بالرئيس جامساخورديا. وقد استغلت أوسيتيا الشمالية فرصة انشغال هذه القيادات بصراعاتها الداخلية وسارعت بإعلان موافقتها على المشاركة في الاستفتاء الذي أعلنه الرئيس ميخائيل غورباتشوف في مارس (آذار) 1991 لتقصي الآراء حول تأييد بقاء الاتحاد السوفياتي دولة موحدة. وفيما رفضت جورجيا المشاركة في الاستفتاء قالت أوسيتيا كلمتها المؤيدة للدولة الاتحادية بنسبة أصوات تقدر بـ99%. وتقول المصادر الرسمية إن أوسيتيا الجنوبية انطلقت في ذلك من أحكام القانون وبنود الدستور السوفياتي التي تقول بحق الجمهوريات والمقاطعات ذات الحكم الذاتي في إعلان الموافقة أو الرفض على قرارات الجمهوريات الاتحادية السوفياتية بشأن استخدام حقها في الانفصال عن الاتحاد السوفياتي. وحين سقط الاتحاد السوفياتي أعلنت أوسيتيا الجنوبية استقلالها عن جورجيا في استفتاء شعبي أقر أيضا مشروعية طلب الانضمام إلى روسيا الاتحادية استنادا إلى إحكام القانون والدستور.

وحول مدى تغير الأوضاع بعد رحيل جامساخورديا قال الرئيس كوكويتي إن الوضع لم يتغير كثيرا إبان سنوات حكم الرئيس السابق إدوارد شيفارنادزه، وكذلك في عهد خلفه ميخائيل ساكاشفيلي. ولم يكن من الممكن التطرق إلى اسم ساكاشفيلي دون أن تنهال عليه الاتهامات بالدموية والنازية بسبب ما ارتكبه في حق هذا الشعب الذي قال كوكويتي إنه صغير العدد لكنه كبير بإرادته وصموده لما يقرب من عشرين عاما، تعرض خلالها للكثير من الضغوط وقيود الحصار التي شاركت في فرضه عليه روسيا لبعض الوقت خلال سنوات حكم الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين.

وكانت حدة الاشتباكات المسلحة قد تزايدت في وقت شهد تراجع تأييد الأشقاء في أوسيتيا الشمالية ممن تركوا الجنوبيين وحدهم في مواجهة القوات الجورجية المسلحة. غير أن الأمر شهد انفراجة نسبية بعد أن ظهر يلتسين وإن بدا مؤيدا لصديقه القديم شيفارنادزه. فقد عاد ليطرح وقفا لإطلاق النار وافق عليه ممثلو كل من أوسيتيا الشمالية والجنوبية وجورجيا بعد اجتماع ضمهم في داجوميس القريبة من سوتشي الروسية على ضفاف البحر الأسود. ويتواصل مسلسل المقاومة ليؤكد إصرار الجنوبيين على الاستقلال، يحفزهم تصاعد مقاومة كل من أبخازيا وادجاريا التي كانت أيضا تتمتع بالحكم الذاتي. وتخفف قوات حفظ السلام الروسية الكثير من وطأة التوتر القائم ليظل كل عند موقفه حتى وصول ميخائيل ساكاشفيلي إلى سدة السلطة في انقلاب «وردي» يستهل به سلسلة الثورات الملونة في ثلاث من جمهوريات الفضاء السوفياتي السابق. ويعلن ساكاشفيلي عن إصراره على استعادة وحدة الأراضي الجورجية وضرورة عودة الجمهوريات الثلاث ذات الحكم الذاتي - أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وادجاريا - إلى «الوطن الأم». ويستهل الرئيس الجورجي حملته بتجريدة عسكرية استطاع من خلالها استعادة ادجاريا، ما جعل الأمل يراوده في نتائج مماثلة بالنسبة لأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. غير أن شعاراته المعادية لروسيا وإعلانه عن توجهاته صوب الناتو دفعت الأخيرة إلى إعادة التفكير في الحظر الجزئي الذي فرضته على هاتين الجمهوريتين بموجب قرارات قمة رؤساء الكومنولث. قالت بعدم جواز المساس بمواطنيها في كل من الجمهوريتين. ومن المعروف أن الغالبية الساحقة هناك تحمل جوازات السفر الروسية التي لم تعرف غيرها منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. وساعدت الحدود المشتركة في تخفيف الحصار المفروض ليعود الرئيس بوتين ويعلن صراحة في عام 2007 عن الخروج من قرار قمة الكومنولث وتكثيف معوناته لأبناء شعبه في «البلدين».

وليس ببعيد عن الأذهان ما قامت به روسيا دفاعا عن أوسيتيا الجنوبية في أغسطس 2008 ردا على غزو القوات المسلحة الجورجية لتسخينفال. وبالغت موسكو في إهانة المعتدي حين وصلت مدرعاتها إلى مشارف العاصمة تبليسي بعد احتلال جوري، إحدى كبريات المدن الجورجية، والاستيلاء على عتاده العسكري الأميركي وأسرت الكثير من أفراد قواته. وبهذه المناسبة ناشدنا الرئيس كوكويتي خلال زيارتنا الأخيرة لتسخينفال معاودة طرح قضية الأسرى الأوسيتيين الذين لا يزالون يرزحون في سجون ومعتقلات جورجيا وعددهم يقارب المائة، مؤكدا أن أوسيتيا أفرجت عن كل الأسرى الجورجيين الذين كانوا موجودين لديها رغم كل ما ارتكبوه من جرائم في حق العزّل من النساء والشيوخ والأطفال. قالها خلال مرافقته لنا على متن سيارته الرسمية المرسيدس المدرعة التي أصر على قيادتها بنفسه، وكنا في طريقنا لتفقد ما نجحت الجمهورية بمساعدة روسية كاملة في إنجازه ضمن خطة إعادة البناء. طاف بنا الرئيس لنشاهد مدى اهتمام بلاده بالأطفال بوصفهم المستقبل الذي يعلقون عليه الكثير من آمالهم لمسح ومداواة أحزان الآباء والأجداد. لمسنا مدى سعادته بما تحقق من إنجازات، وبهذا الكم الجميل من رياض الأطفال والمدارس النموذجية والمساكن العصرية التي ارتفعت بين الأنقاض لتخفف الكثير من تداعيات المأساة. وكان جميلا أن نلمس مدى تقديره واحترامه لجهد النساء ممن يقدن اليوم معركة البناء وتربية أجيال المستقبل، في وقت تراجع فيه تعداد الرجال بعد سقوط الكثيرين من الشهداء إبان معارك الاستقلال.