دولة «كهوف» وزيرستان

ظلت خارج سيطرة إمبراطورية شبه الجزيرة الهندية وخارج سيطرة أفغانستان وباكستان

وزيرستان أكثر المناطق خطرا في العالم ومعقل معسكرات تدريب المتطرفين («الشرق الأوسط»)
TT

أثارت الاعترافات التي أدلى بها الأميركي ذو الأصول الباكستانية فيصل شاه زاد، المتهم في محاولة تفجير سيارة مفخخة في ميدان «تايمز سكوير» بنيويورك مساء السبت الماضي حول حضوره لدورة تدريب على صنع القنابل في منطقة وزيرستان في باكستان قبل الهجوم، الانتباه مرة أخرى حول منطقة وزيرستان، وفتحت باب الجدل مرة أخرى حول كيفية التعامل مع هذه البؤرة التي لم تعد مجرد ملاذا آمنا لمتطرفي حركة طالبان وتنظيم القاعدة، بل تحولت إلى «المُصدّر الأول» عالميا للإرهاب، و«مركز تدريبي دولي» معتمد لدى الجماعات الإرهابية ينطلقون منه إلى أهدافهم في أنحاء العالم، بما يجعلها تشكل خطرا دوليا كبيرا وهاجسا لدى المهتمين بمكافحة الإرهاب.

موقع هذا الجزء الخطير من العالم، وملامحه التكوينية، وطبيعته السكانية والبيئية كلها معلومات هامة تجيب على السؤال الأكثر إلحاحا عالميا الآن وهو لماذا تم اختيار هذه المنطقة تحديدا لتصبح بؤرة إرهابية، ولماذا ظلت بعيدة عن السيطرة؟

جغرافيا، تقع منطقة وزيرستان ذات الطبيعة الجبلية الوعرة والكهوف المتشابكة المتعددة، في شمال غربي جمهورية باكستان، وعلى حدود دولة أفغانستان. وهي إحدى مناطق «صوبة سرحد»، الإقليم الذي تديره القبائل البشتونية والمعروف بعاصمته بيشاور.

وتبلغ مساحة وزيرستان نحو 11.585 كم مربع، حيث تمتد من الغرب والجنوب الغربي من بيشاور، بين نهر توتشي شمالا ومن الجنوب نهر غومل. وتنقسم وزيرستان إلى منطقتين (شمالية وجنوبية)، ويعد جنوب وزيرستان أكثر تقدما وغنى من منطقة الشمال، كما أن «وانا» (عاصمة الجنوب) من أكثر المدن ازدهارا وتقدما مقارنة بأي مدينة أخرى في وزيرستان.

ويبلغ إجمالي سكان المنطقتين نحو 1.2 مليون، بينهم 500 ألف يقطنون الجزء الشمالي، و700 ألف يقطنون الجنوب. ورغم أن المنطقتين مختلفتان كثيرا فإن اللغة السائدة هي اللغة الوزيرية، نسبة إلى قبائل الوزيريين، ولذلك جاء أيضا اسم المنطقة «وزيرستان».

التركيب السكاني والقبلي لوزيرستان متشابك ومعقد جدا، فسكان المنطقة مكونون من ثلاث قبائل رئيسية، هي: «محسود، ووزير، وبهتاني»، إضافة إلى بعض القبائل الصغيرة. وتعد قبيلة محسود الأكبر والأكثر نفوذا؛ حيث تمثل وحدها 60% من إجمالي السكان، في حين أن قبيلة وزير ثاني أكبر قبيلة في المنطقة ويشكل أفرادها 30% من السكان، تليهما قبيلة بهتاني وبعض القبائل الصغيرة التي تشكل معا 10% من السكان.

وبينما يقيم أفراد قبيلة محسود، في ضواحي جنوب وزيرستان، يسكن أغنياء قبيلة وزير عاصمة الجنوب «وانا»، في حين يتركز أفراد قبيلة بهتاني المنطقة الحدودية في جنوب وزيرستان التي تجاور مقاطعة «تانك».

أفراد قبيلة «محسود» و«وزير» متنافسون تقليديون في كل شيء، حتى في الاندماج وتشكيل الجماعات الإرهابية. فقد شكل أفراد قبيلة وزير الداعم الأساسي لحركة طالبان، وكان من بينهم قادة للحركة حتى مقتل «نايك محمد» وهو قائد طالباني بارز تم اغتياله في غارة أميركية تلت اتفاق سلام بين الجيش والحركة عام 2004.

إلا أنه بعد وفاته انتقلت قيادة طالبان في المنطقة إلى أفراد من قبيلة محسود، تقدمهم ومنهم «عبد الله محسود»، ثم إلى «بيت الله محسود»، وأخيرا «حكيم الله محسود». وهو ما دفع بعض أفراد قبيلة وزير إلى الانضمام للقوات الموالية للحكومة الباكستانية والانقلاب على طالبان.

أما قبيلة بهتاني فيعرف عنها أنها موالية للحكومة، لكنها لا تملك تأثيرا كبيرا في السياسات المحلية. استقلال المنطقة ذاتيا وضعف السيطرة الحكومية عليها، لم يكن وليد اللحظة الحالية ولم يأت نتيجة انقلاب أو ثورة عن نظام معين، بل إنه طبيعة للمنطقة منذ الأزل. فقد كانت وزيرستان منطقة مستقلة تحكمها القبائل منذ عام 1893، ومكثت خارج إمبراطورية شبه الجزية الهندية التي حكمتها بريطانيا، وخارج سيطرة أفغانستان أيضا.

ويؤكد التاريخ أن القوات البريطانية لم تتمكن من إخضاع القبائل لسيطرتها خلال غزوها للمنطقة خلال الفترة بين عامي 1860 و1945، نظرا للمهارة القتالية العالية لرجال القبائل، على الرغم من أن الهجمات القبلية ضد البريطانيين كانت تمثل مشكلة ملحة للوجود البريطاني.

واستمر هذا الوضع حتى مع استقلال باكستان، حيث لم يفرض الزعيم الباكستاني محمد علي جناح، قوة الدولة وقوانينها على وزيرستان بل ترك لزعاماتها القبلية التقليدية تصريف أمورها باستقلالية عن المركز، في مقابل الانضمام الشكلي لدولة باكستان عام 1947، وبالتالي أصبحت وزيرستان جزءا من المناطق الفيدرالية المدارة قبليا في باكستان.

ومع الزمن، تم إلغاء الحظر المفروض على النشاط السياسي في المناطق القبلية، ومنها وزيرستان، وتم تعديل واستحدث قوانين للمناطق القبلية، سمح بمقتضاه حزب الشعب الباكستاني الذي يقود الحكومة الائتلافية بالأنشطة السياسية. وأصبح هناك وجود قوي حاليا في وزيرستان لكل من «جمعية علماء الإسلام» التي تمثل مدرسة «ديوبندي» التي تؤيد أفكار طالبان، وكذلك «الجماعة الإسلامية»، وحزب الشعب الباكستاني، وحزب عوامي الوطني.

ولجنوب وزيرستان مقعدان في الجمعية الوطنية (مجلس النواب)، إضافة إلى مقعد واحد في مجلس الشيوخ. أما شمال وزيرستان فلها مقعد واحد في الجمعية الوطنية.

أما عن تاريخ الحركات الإرهابية وانتشار الفكر المتطرف في وزيرستان، فيرجع إلى سيطرة حركة طالبان على أفغانستان بعد هزيمة السوفيات وبداية ظهور تنظيم القاعدة وانتشار المجاهدين. حيث تأثرت منطقة وزيرستان بذلك، فانتشرت بها المدارس الدينية التي تروج للأفكار الجهادية، وتعاطف الكثير من أبناء القبائل بشكل خاص مع حركة طالبان وأفكارها في تطبيق الشريعة الإسلامية (من وجهة نظرهم).

كل هذا، ومع ضعف السيطرة الحكومية أو انعدامها أصلا، ساهم في تكوين بيئة صالحة لتخريج متطرفين مستقبلا. وبالفعل فمع انهيار نظام حركة طالبان في أفغانستان في أكتوبر (تشرين الأول) 2001، على يد قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، كانت كهوف وجبال وزيرستان الأماكن الأكثر أمانا لفلول حركة طالبان وتنظيم القاعدة، نظرا للطبيعة الجبلية الوعرة في الإقليم، التي لعبت دورا رئيسيا في حماية السكان، وشكلت حواجز طبيعة في صد أي هجوم عليها.

بل ترددت أنباء وبقوة عن وجود أيمن الظواهري الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة» هناك، وربما أسامة بن لادن شخصيا.

ومن أبرز الجماعات المسلحة الرئيسية في وزيرستان، جماعة «بيت الله محسود» التي تعرف أيضا باسم «تحريك طالبان باكستان»، وجماعة «الملا نذير»، وجماعة «جول بهادور». غير أن «بيت الله محسود» تعد الجماعة الأكبر والأكثر شراسة في المنطقة، وتضم ما يتراوح بين 10 و12 ألف مقاتل مدرب، وتمتلك معاقل في الجبال وضواحي جنوب وزيرستان. في حين تضم جماعة «الملا نذير»، التي تعرف أيضا باسم جماعة «طالبان البنجابية»، نحو 600 مقاتل، وتعد «وانا» معقلهم الرئيسي. وقد دعت الولايات المتحدة باكستان مرارا إلى بذل مزيد من الجهد لتكافح التشدد ليس في الداخل فحسب بل أيضا طالبان الأفغانية المدعومة من تنظيم القاعدة وتتخذ من وزيرستان الشمالية مقرا لها وتعبر عناصرها الحدود لمهاجمة القوات الغربية في أفغانستان. وكانت باكستان قد قالت إنها لا تملك الموارد اللازمة لملاحقة جماعات إسلامية متشددة مثل شبكة حقاني التي تصفها القوات الأميركية بأنها واحدة من ألد أعدائها في أفغانستان.

وفي محاولة منها للسيطرة على المنطقة واستئصال الحركات المتطرفة منها، شهدت المنطقة الحدودية بين باكستان وأفغانستان هجمات ضارية من جانب الجيش الباكستاني تدعمه القوات الأميركية في الفترة ما بين مارس (آذار) 2004 وسبتمبر (أيلول) 2006 من أجل تضييق الخناق على الإرهابيين، حيث قامت قوات التحالف بشن عملياتها من الغرب وقام الجيش الباكستاني بشن عملياته من الشرق. كما شرعت إسلام آباد منذ عام 2002 في بناء قواعد عسكرية في وزيرستان، تم استخدامها في عمليات عسكرية منذ عام 2004.

إلا أن معظم هذه الهجمات المتعاقبة فشلت في تحقيق أهدافها، اللهم إلا في مقتل بعض قيادات «القاعدة»، أمثال عبد الرحمن خضر الكندي وحسن معصوم، وذلك بسبب الطبيعة الجغرافية القاسية للمنطقة التي حالت دون اختراقها.

وظل هذا الصراع مستمرا بين الجيش الباكستاني وقبائل المنطقة الموالية لحركة طالبان وتنظيم القاعدة، حتى الآن، رغم توقيع اتفاقية وزيرستان في 5 سبتمبر 2006 في مدينة ميران شاه لوقف القتال، تلتزم بموجبه القبائل بعدم إيواء مسلحين أجانب على أن تبقى متمتعة بحكمها الذاتي خارج سلطة الحكومة الباكستانية.

الأمر الذي فسره مسؤولون ومراقبون دوليون بأنه يعني أن قيادة طالبان و«القاعدة» نالتا ملاذا داخل باكستان بالاتفاق الرسمي مع الحكومة هناك، لأن الاتفاق لا يتضمن أي عقوبات ملزمة.. وهو ما ظهرت نتائجه حاليا في تصاعد للعمليات الإرهابية مرة أخرى في هذه المنطقة تحديدا، وفي تصديرها للإرهابيين كما في حالة مخطط هجوم نيويورك الأخير.

وإلى جانب الحالة الخاصة التي تتمتع بها وزيرستان من ناحية النأي الجغرافي وضعف السيطرة المركزية عليها وتركيبتها القبلية، أشار مسؤولون وخبراء أميركيون وباكستانيون إلى تأثير الضربات الأميركية المتوالية على وزيرستان والمناطق القبلية على الحدود الباكستانية - الأفغانية على زيادة مشاعر الكراهية لأميركا. فمن المعروف أن عام 2010 بالذات كان عام تشديد الضربات الأميركية على قواعد طالبان باكستان، سواء بالتعاون مع الاستخبارات الباكستانية أو بشكل منفرد، ومع أن تلك الضربات أدت إلى مقتل الكثير من قادة طالبان باكستان، إلا أن ذلك لم يعن بالضرورة القضاء على خطرها. ويبدو أن الأثر الفوري لهذه الضربات العنيفة كان زيادة الكره لأميركا، ومن هنا يمكن قراءة مخطط تفجير ميدان «تايمز سكوير».

وفي هذا الصدد قال وزير الخارجية الباكستاني شاه محمود قرشي إنه يعتقد أن هذا الهجوم الفاشل في نيويورك كان للانتقام من الولايات المتحدة بسبب استهدافها أتباع طالبان. وقال «هذه ضربة للرد.. هذا رد فعل.. هذا انتقام... يجدر بنا ألا نكون سذجا. لن يجلسوا ويرحبوا بكم لتقضوا عليهم. سوف يردون. وعلينا أن نكون مستعدين لهذه المعركة». ومن المتحمل أن تثار تساؤلات مجددا بشأن عزم باكستان على التعامل مع المتشددين فيما تواجه مشكلات أخرى من تباطؤ الاقتصاد إلى انقطاع التيار الكهربائي في تلك المناطق مما أضعف شعبية الحكومة. وقال رفعت حسين رئيس قسم الدراسات الدفاعية والاستراتيجية في جامعة القائد الأعظم بإسلام آباد في هذا الصدد «ربما يكون على باكستان الاستعداد لتقديم المزيد من التضحيات واللجوء للقوة بكثافة أكبر مثل عمليات التفتيش والتدمير بشكل أكثر منهجية». وما يثير القلق جدا في مخطط تفجير ميدان «تايمز سكوير» هو التغيير المحتمل في استراتيجية طالبان باكستان من استهداف الدولة الباكستانية حصرا، إلى استهداف دول خارجية. ويقول الخبير في «منظمة أميركا الجديدة» براين فيشمان في هذا الصدد: «ما كان يميز حركة طالبان باكستان في السابق هو استهدافها الحصري للدولة الباكستانية». إلا أن الحركة «أقامت تقاربا وثيقا مع (القاعدة) في باكستان» منذ 2007. ويستخدم التنظيم المتطرف لأسامة بن لادن عامة هذا النوع من الجماعات لنشر آيديولوجيته والتحريض لتنفيذ هجمات بدلا من التنفيذ المباشر وعلى نطاق واسع على غرار ما حدث في 11 سبتمبر. ويشير فيشمان إلى أن «التهديد تغير بشكل كامل. اليوم قوة (القاعدة) لا تكمن في قدراتها العملانية وإنما في إعداد وضم جماعات أخرى».