حب أم مصلحة في «داونينغ ستريت»؟

الزواج الصيفي كان سعيدا.. ولكن متاعبه لم تبدأ بعد

ائتلاف كاميرون وكليغ.. هل يصمد أو يتفكك بسبب الخلافات (أ.ب)
TT

من أجل الاتفاق على الائتلاف الحكومي البريطاني كانت الحلول الوسط هي مفتاح الحل، مما جعل مواقف الحزبين المحافظين والديمقراطيين الأحرار مختلفة عن المعلن أثناء الحملة الانتخابية. تمكن حزبا المحافظين والديمقراطيين الأحرار من التوصل إلى اتفاق بعد خمسة أيام من انتخابات غير حاسمة وأنهيا بذلك 13 عاما من حكم حزب العمال؛ حزب يسار الوسط برئاسة توني بلير ثم غوردون براون الذي خلفه. وسيكون على هذه الشراكة الجديدة التي لم تختبر من قبل، التعامل مع عجز قياسي في الميزانية زاد على 11 في المائة من الناتج القومي، بالإضافة إلى التعامل مع المخاطر الأمنية لبريطانيا ومعالجة الجريمة والبطالة. وسيتولى الديمقراطيون الأحرار خمس حقائب وزارية لقاء دعمهم لحزب المحافظين الذي أتاح تشكيل أول حكومة ائتلافية منذ الحرب العالمية الثانية، أي منذ عهد رئيس الوزراء الأسبق ونستون تشرشل 1945. لكن الحكومة الائتلافية في أي بلد تكون عرضة للخلافات، خصوصا إذا كان طرفا الائتلاف حزبين مختلفين كثيرا من الناحية الأيديولوجية، ويتعين عليهما معالجة قضايا شديدة الصعوبة، مثل خفض الإنفاق العام لكي تخفض العجز القياسي في الميزانية الذي وصل إلى أعلى معدل له منذ الحرب العالمية الثانية، ومواجهة أسوأ ركود بريطاني منذ الثلاثينات.

وغداة التثبيت «التاريخي» لكاميرون في داونينغ ستريت، كما وصفته الصحافة البريطانية، تصافح كاميرون وكليغ في إشارة رمزية أمام مدخل مقر الحكومة في داونينغ ستريت لدى وصولهما صباح أول من أمس إلى مكتبيهما الجديدين. ورأت وسائل الإعلام في هذه المصافحة «بادرة» تهدف إلى تبديد الشكوك المحيطة بإمكانية صمود الائتلاف بين الحزبين، بينما أشار الكثير من المعلقين إلى التنازلات الكبرى التي اضطر الطرفان إلى تقديمها من أجل تشكيل «الحكومة القوية التي نحتاج إليها» وفق تعبير كاميرون في خطابه الأول أمام مقر رئاسة الحكومة. وأوضح كاميرون في أول خطاب له كرئيس للوزراء «سيكون هذا عملا شاقا وصعبا.. دعونا نبدأ بالأمل.. كليغ وأنا، كلانا زعيم سياسي يريد تنحية الخلافات الحزبية جانبا والعمل الدؤوب من أجل الصالح العام والمصالح القومية. وأنا على قناعة تامة بأن هذا هو أفضل السبل إلى الحكومة الحاسمة الدائمة التي تلزم بلادنا اليوم».

إلا أن الائتلاف القائم حسب خبراء الشؤون البريطانية سيواجه كل أشكال التحديات. ويبدو أن زعيم الديمقراطيين الأحرار نيك كليغ يعرف أن الحكومة الائتلافية ستواجه مشكلات. فقد قال قبل أيام: «ستكون هناك بالتأكيد مصاعب وستحدث مشكلات. لكني سأبذل دوما كل ما في وسعي لأثبت أن السياسات الجديدة ليست ممكنة فقط بل إنها أفضل». ويحتل الحزبان أغلبية مقاعد البرلمان الـ650، وعلى الرغم من خلافاتهما في عدد من السياسات الرئيسية، فإنهما قالا إنهما سيقدمان نهجا جديدا من «الحكومة التوافقية» في بلد معتاد على رؤساء وزراء لهم جميع السلطات وأغلبية برلمانية مريحة. فسياسة الديمقراطيين الأحرار هي أقرب للعمال منها إلى المحافظين. وقد وصفت بعض الصحف المحلية الحكومة الجديدة بـ«ائتلاف الخاسرين»، وقالت الصحف التي تميل إلى اليسار إن «المشكلات تنتظر الائتلاف الجديد» نظرا إلى الاختلافات العقائدية بين الشريكين الجديدين اللذين اعتبرا على طرفي نقيض في الطيف السياسي في بريطانيا. بينما رحبت الصحف التي تميل إلى اليمين بالاتفاق الذي «أنهى حالة من عدم اليقين».

ويقول نيك فلدنغ خبير الشؤون البريطانية وكبير محرري «صنداي تايمز» الأسبق، إن التنازلات الانتخابية حدثت بين الجانبين، وربما الديمقراطيون الأحرار قدموا تنازلات أكثر من أجل الصفقة، إلا أنه أعرب عن قناعته بأن هذه الحكومة لن تستمر أكثر من عام. وقال فلدنغ لـ«الشرق الأوسط» إنه على الرغم من التنازلات فإن الديمقراطيين الأحرار في وضع أفضل من المحافظين، إلا أن هناك اختلافات كثيرة تحت السطح وأن الطلاق بين الحزبين البريطانيين آت لا ريب فيه. وتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لنأخذ موضوع الإصلاحات الانتخابية مثلا: حين كان كاميرون يحلم بأغلبية برلمانية تتيح له تشكيل حكومة مستقرة من دون الاستعانة بحزب آخر لم يكن واردا عنده المساس بالنظام الانتخابي الحالي». وأضاف: «إن حجم التنازلات التي قدمها الديمقراطيون الأحرار المنتمون بشكل تقليدي إلى يسار الوسط، يثير شكوكا في قدرة الائتلاف على (مقاومة امتحان الزمن).. إن الائتلاف بين المحافظين والليبراليين لا شأن له بمصلحة البلاد الحقيقية ولا يتعدى كونه زواج مصلحة حزبية الغرض منه هو التشبث بالسلطة. فقد كان البديل، من جهة المحافظين، هو تشكيلهم حكومة أقلية تنهار في غضون أشهر إن لم يكن أسابيع. ومن جهة الليبراليين فقد كان البديل هو التحالف مع حزب العمال، الذي لم يكن يريد المشاركة في حكومة ائتلافية، وبالتالي لم يكن أمام الأحرار إلا التحالف مع المحافظين للمشاركة في السلطة».

وهكذا صار التآلف مع المحافظين هو أول وربما آخر فرصة تاريخية لأن يتذوقوا طعم الحكم.

وقد اضطر الديمقراطيون الأحرار من أجل التحالف مع المحافظين المعارضين لليورو إلى الحد من تأييدهم لهذه العملة خصوصا، ويعتقد بحسب الصحافة أنهم وافقوا على الامتناع عن الدعوة إلى اعتماد اليورو خلال وجودهم في الحكومة. وفي المقابل، تنازل المحافظون عن مطلب أساسي في برنامجهم يقضي بإصلاح النظام الانتخابي الذي يعتبرونه غير عادل، وقد وافقوا في نهاية الأمر على تنظيم استفتاء بهذا الصدد. كما حددت الولاية التشريعية بخمس سنوات، مما وضع حدا للنظام السابق الذي كان يسمح لرئيس الوزراء بالدعوة إلى انتخابات تشريعية حين يشاء. وأقر وليام هيغ وزير الخارجية الجديد بأن خلافات ستظهر «حتما» لكن «قدرة كليغ وكاميرون على تسوية المشكلات تبشر بالخير». وأضاف: «لا أعتقد أن هذا الائتلاف ضعيف».

ويقول نيك كايبل المسؤول في حزب الديمقراطيين الأحرار إن تشكيل الائتلاف كان ثمرة «اتفاق ممتاز»، مضيفا: «لقد تمت الموافقة على النقاط الرئيسية من برنامجنا». وأشار إلى أن الحكومة محصنة للاضطلاع بـ«المهمة الكبرى» التي تنتظرها في ظل انتعاش اقتصادي لا يزال هشا. وأبرز ما اتفق عليه شقا الائتلاف بحسب خبراء الشأن البريطاني تمثلت في دعم خطة المحافظين لخفض الإنفاق العام بـ6 مليارات جنيه إسترليني (نحو 9.3 مليار دولار) والامتناع عن زيادة مساهمات التأمين القومي بنسبة 1 في المائة، وهو ما كان رئيس الوزراء السابق غوردون براون ينويه في حال استمرار العمال في السلطة. وكذلك تخلى الأحرار عن خططهم الرامية لفرض ما يسمى «ضريبة المنازل الفاخرة» من مليوني جنيه إسترليني (3.1 مليون دولار) فما فوق، وأيضا دعم اتجاه كبح جماح الهجرة من أوروبا. وتخلوا كذلك عن معارضتهم اعتماد غواصات الردع النووي «ترايدانت». ووافقوا على الامتناع عن تقديم مزيد من التنازلات للاتحاد الأوروبي من دون استفتاء شعبي، وعلى رفض اليورو عملة للبلاد. ومن الزواج الصيفي كان سعيدا.. ولكن متاعب الزواج لم تبدأ بعد حب أم مصلحة في «داونينغ ستريت»؟جهة المحافظين فقد وافقوا على مطالب شريكهم في الحكم، ومنها إجراء استفتاء شعبي لإصلاح النظام الانتخابي، ووافقوا أيضا على تحديد الولايات البرلمانية بفترة ثابتة وزيادة عتبة ضريبة الدخل بحيث تكون البداية فوق 10 آلاف جنيه (15.5 ألف دولار). والتراجع عن رفع عتبة ضريبة الورثة إلى مليون جنيه (1.55 مليون دولار).

ويقول الخبراء إن الائتلاف في المقام الأول يأتي «بين ضدين» يبلغ الخلاف الأيديولوجي بينهما حدا يصل إلى أن العمال أقرب إلى المحافظين من الليبراليين في مسائل جوهرية، مثل النظام الانتخابي والاقتصاد وهوية البلاد إزاء أوروبا والدفاع. أما فيما اتصل بالنظام الانتخابي، فعلى الرغم من موافقة المحافظين على استفتاء شعبي لإصلاحه، فهذا لا يأتي لصالح «التمثيل النسبي» الكامل كما يريده الليبراليون ولكن على أحد أشكاله المخففة مثل «الصوت البديل». والمحافظون أول من يعلم أن نظام الانتخاب «الحر المباشر» هو سبب بقائهم أحد العملاقين التقليديين على الساحة السياسية.

من جهته أعرب جاسون بيرك، كبير محرري الـ«أوبزرفر» البريطانية، الذي يشغل حاليا مسؤول الجريدة تحريريا في أوروبا، ومقره العاصمة الفرنسية باريس لـ«الشرق الأوسط» أن الحكومة الجديدة لن تستمر لأكثر من عام. وقال: «إن التنازلات حدثت من الجانبين على الرغم من البعد والاختلافات في وجهات النظر بين الجانبين في كثير من القضايا مثل الهجرة وكيفية التعامل مع أوروبا»، مشيرا إلى أن عددا كبيرا من زعماء أوروبا يشعرون بالقلق من وصول حزب المحافظين، وهو حزب يمين وسط، إلى السلطة «لأن الحزب ينتهج سياسة أقل ودا تجاه الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة من حكومة العمال السابقة». وقال بيرك إن الكثير من التحديات المنتظرة بما في ذلك تحقيق انتعاش اقتصادي والتعامل مع التغير المناخي وضمان تأمين الطاقة، هي تحديات مشتركة في شتى أنحاء الاتحاد الأوروبي وتتطلب رد فعل مشتركا. ونقلت وسائل إعلام بريطانية عن خبراء في الاقتصاد قولهم إنهم يتوقعون زيادة ضريبة المبيعات التي تبلغ حاليا 17.5 في المائة. ووعدت الحكومة الجديدة بوضع ميزانية طوارئ في غضون 50 يوما. وقال كاميرون إن حكومته تتسلم أسوأ إرث اقتصادي في العصر الحديث. ومن القوانين الأخرى التي من المتوقع أن تكون على أجندة الحكومة البريطانية قريبا خطة لفرض ضريبة على البنوك وتشكيل لجنة لبحث إمكانية فصل أعمال التجزئة المصرفية عن البنوك الاستثمارية وخطط لمنح بنك إنجلترا المركزي نفوذا أكبر بصفته جهة مراقبة مالية.

أما على صعيد السياسة التعليمية، فقد تعهد حزب المحافظين بتحسين مستوى التعليم من جهة، وإعطاء الكثير من الصلاحيات لأهل الطلبة في إدارة المدارس. وفي المجال الاقتصادي يقترح الديمقراطيون الأحرار تغييرا ضريبيا جذريا يتعلق بضريبة الدخل ويقترحون إلغاء ضريبة الدخل على أول 10 آلاف جنيه إسترليني يجنيها المواطنون لتكون بعد ذلك تصاعدية تضاف إليها ضرائب تفرض على أصحاب المباني والمنازل التي تزيد قيمتها على مليوني جنيه.

كما استمر الديمقراطيون الأحرار بسياستهم التعليمية التي كانت قد زادت من شعبيتهم في الأعوام الأخيرة وتعهدوا بالعمل التدريجي على إلغاء رسوم التعليم الجامعي ولكن على الأمد الطويل. وبالنسبة إلى الردع النووي، فعلى الرغم من تخلي الليبراليين عن معارضتهم له، أوضحوا أنهم سيلقون بعين فاحصة على تكلفته الباهظة التي تتجاوز 30 مليار جنيه (نحو 46 مليون دولار) سنويا، ولن يسمحوا بوصولها إلى هذه الآفاق. وفي السياسة الخارجية يصعب تصور موقفين أكثر تباعدا بين الطرفين إزاء أوروبا. فبينما يخطب الليبراليون ودها، يتحاشاها المحافظون. ومن المتوقع على نطاق واسع أن يحرص كاميرون على أن يثبت لأعضاء حزبه المتشككين في التوجه الأوروبي أنه سيدافع بشدة عن المصالح البريطانية داخل الاتحاد الأوروبي. لكن مسؤولين أوروبيين يرون أنه «رجل عملي سيكسبه التعاون مع بقية دول الاتحاد أكثر من الدخول في عراك مع شركائه الجدد».

والحقيقة أن البريطانيين عموما يرون أن الانسجام بدا واضحا بين الزعيمين البريطانيين الجديدين. وقالت صحيفة الـ«غارديان» البريطانية: «بعد علاقة رومانسية سريعة، جاء اليوم الكبير»، في إشارة إلى المؤتمر الصحافي الذي أطلق خلاله أول ائتلاف حكومي في بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية. وأضافت: «لقد بدا الأمر وكأنه حفل زفاف مدني. إن مؤتمرا صحافيا مثل هذا يمكن أن يعتبر غير قانوني في 45 ولاية أميركية». أما صحيفة «الصن» فقالت: «لقد كان هذا أسرع زواج في التاريخ السياسي، وبالأمس طلب من الشعب أن يباركه». وامتلأت الصفحات الأولى من الصحف بصور للزعيمين المتحالفين. ووصفتهما الـ«غارديان» بـ«الزوجين السعيدين في رقم 10»، بينما أشادت صحيفة «ديلي مايل» بما وصفته «الحب الكبير في رقم 10»، بينما عنونت صحيفة «إكسبرس»: «إنه الحب». وعلى الرغم من نبرة التفاؤل التي سادت في معظم الصحف فإن عددا من الصحف بدت أقل تفاؤلا وتوقعت أن يتهاوى «زواج المصلحة» بسبب التحديات التي يواجهها. وقالت صحيفة «اندبندنت» إن «العرض بين ديفيد ونيك كان مثيرا للإعجاب، ولكن سيكون من الصعب أن يستمر»، بينما رأت الـ«غارديان» أن «الزواج الصيفي كان سعيدا، ولكن متاعب الزواج لم تبدأ بعد».