القاضية التي يهمس لها أوباما

كاغان رغم ذكائها وإيمانها القوي بنفسها كانت متواضعة واجتماعية وتربت في جو يساري يهودي مثقف

TT

كتب مايكل بارون في صحيفة «واشنطن اكزامينار» اليمينية الأميركية تعليقا على اختيار الرئيس الأميركي باراك أوباما للقاضية إلينا كاغان كثالث امرأة قاضية في المحكمة العليا التي تفسر الدستور، قائلا: «كانا يتهامسان في الكلية». عنوان فيه غمز ولمز، وفيه إشارة إلى أن أوباما وكاغان تزاملا مرتين، وذلك عندما كانا طالبين في كلية القانون في جامعة هارفارد، وعندما كانا أستاذين في كلية القانون في جامعة شيكاغو.

وزاد غمز اليمينيين والمحافظين لأن أوباما، عندما أعلن اختيار كاغان وصفها بأنها «صديقتي». وقال واحد منهم هو رش ليمبو، مقدم برنامج «تعليقات إذاعية»: «عندما ينظر أوباما إلى وجهه في المرآة، يرى كاغان». هل يقصد أنه أسود وهي يهودية؟ بالتأكيد، قصد أن الاثنين ليبراليان ومن أقليات. فمن هي هذه السيدة؟ ولماذا اختارها أوباما؟ في سنة 1960، ولدت كاغان في نيويورك، وكان والدها محاميا، ووالدتها مدرسة في مدرسة حكومية. ولدت في عائلة كانت تعيش حياة مريحة، وفي منطقة مريحة في نيويورك وهي ويست سايد، أو الطرف الغربي.

وعلى الرغم من أن صحف الإثارة في نيويورك تعارض الرئيس أوباما والحزب الديمقراطي، تحمست لأنه اختار «بنتا نيويوركية». وكتبت صحيفة «نيويورك ديلي نيوز» افتتاحية عنوانها «ويست سايد جلوري» (فخر الطرف الغربي).

ويشير «الطرف الغربي» إلى فيلم أميركي مشهور (إنتاج سنة 1962) اسمه «ويست سايد ستوري» (قصة الطرف الغربي). وعلى الرغم من أن الفيلم عن قصة حب، عادت الشهرة إلى اسمه في الأسبوع الماضي، لأن كاغان ولدت وعاشت في ويست سايد. وهو الطرف الغربي من نيويورك الذي يقع غرب حديقة سنترال بارك، ويعتبر منطقة سكن برجوازية.

لكن، اختلطت كاغان ببقية سكان نيويورك خلال قرابة عشرين سنة قضتها في مدارسها، وخاصة عندما درست الثانوية في مدرسة «هانتر كولدج» في الحي نفسه.

وقالت غيل كاتز، ابنة عمها التي تربت معها في الحي نفسه: «كانت حياتنا خليطا من غنى وفقر، وذلك لأن نيويورك مدينة يختلط فيها الفقراء والأغنياء. صار المترو رمز حياتنا. نستقله إلى المدارس والجامعات والمكاتب، ونختلط مع كل أنواع الناس».

وأضافت: «هكذا تربت إلينا، وهي تريد الحرية والعدل. كما تريد حرية التنقل على الرغم من أنها بنت، وعلى الرغم من الزحمة والفوضى والجرائم. وهي في سن مبكرة، نمت فيها حاسة العدل، لإحساسها بأن الذين أقل منها مستوى يحتاجون إلى من يساعدهم».

وفي تلك السن المبكرة، شاهدت إلينا أكثر من نصيبها من الجرائم. خاصة عندما كانت تمر بفندق صار اسمه «ميردر اوتيل» (فندق القتل)، وذلك لأنه، خلال ثلاث سنوات، قتل فيه عشرة أشخاص. حتى تطوع والدها المحامي، ونظم حملة قانونية انتهت بإغلاق الفندق.

بعد إعلان اختيار كاغان قاضية في المحكمة العليا هذا الأسبوع، اتفق زملاؤها وزميلاتها السابقون في مدرسة «هنتر كولدج» على شيء واحد، وهو أنهم لم يفاجأوا.

وقالت سوزانا جونسون: «وسط عدد من الطالبات الذكيات، كانت إلينا هي الأذكى». وقالت جوستين اداماك: «عندما كنا كلنا لا نعرف ماذا نريد أن نكون في المستقبل، وكنا نقول إننا مجرد طالبات في المرحلة الثانوية، قالت إلينا إنها تريد أن تدرس القانون، وتصير محامية. وعندما كنا نخاف أو نتردد من مواجهة أساتذتنا، كانت إلينا تبدو وكأنها تقف على مستوى واحد معهم».

وربما أهم دليل على أن إلينا كاغان، في ذلك الوقت، كانت تعرف ما تريد أن تكون في المستقبل هو صورتها في كتاب المدرسة الثانوية السنوي المصور، فقد ارتدت عباءة قاض. وكتبت تحتها عبارة كان قالها فلكس فرانكفورتر، وهو قاض في المحكمة العليا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية: «ليست الحكومة إلا نوع من الفن».

وقال زملاء وزميلات المدرسة الثانوية إن كاغان، على الرغم من ذكائها وإيمانها القوي بنفسها، كانت متواضعة واجتماعية. وكتبت صحيفة «نيويورك ديلي نيوز»: «تربت في جو يساري، يهودي، مثقف». ويبدو أن شقيقها مارك شاركها ذلك، لأنه، عندما كان يعمل في مترو نيويورك، اشترك في تنظيم الفرع المحلي لاتحاد نقابات العمال، الذي لا يزال واحدا من أكثر فروع الاتحاد نشاطا.

وفي سنة 1977، تركت إلينا نيويورك وذهبت إلى جامعة برنستون في ولاية نيوجيرسي القريبة، حيث نالت، سنة 1981، بكالوريوس في التاريخ، بدرجة تفوق. منذ ذلك الوقت، ظهرت ميولها الليبرالية، وكان موضوع ورقتها الرئيسية لنيل البكالوريوس: «الاشتراكية في نيويورك مع بداية القرن العشرين». وكانت رئيسة تحرير صحيفة الجامعة «ديلي برنستونيان». ومن برنستون ذهبت إلى أكسفورد. وفي سنة 1983، نالت ماجستير قانون من هناك. وهناك أثبتت، مرة أخرى، قدرتها على القيادة. ليس فقط في تنظيمات طلابية، أو في قاعات الدراسة. ولكن حتى في فريق التجديف، الذي اشتهر، ولا يزال، في منافسات سنوية مع جامعة كامبردج. لم تجدف، ولكنها، لأنها قصيرة الحجم، كانت تصدر الأوامر للذين يجدفون، وذلك حسب عادة قديمة بأن يصدر الأوامر شخص قصير حتى لا يحجب رؤيا المجدفين والمجدفات.

ومن أكسفورد إلى هارفارد، حيث نالت الدكتوراه في سنة 1986. وهناك كانت رئيسة تحرير الدورية القانونية «لو ريفيو». بعدها بسنوات قليلة، صار أوباما الذي يصغرها بسنة واحدة رئيسا لتحرير الدورية نفسها. كانت أول امرأة تفعل ذلك، وكان أول أسود يفعل ذلك.

أيضا، كان جفري توبين، مذيع في تلفزيون «سي إن إن»، زميلها في هارفارد. وقال: «كانت ذكية، وهزلية، وتثق بنفسها كثيرا». وأيضا كان جفري روزين، محرر الشؤون القانونية في مجلة «نيو ريبابليك» زميلا لها. وقال: «كانت أكثر اهتماما بقضايا الناس والقانون. وليس فقط القانون من أجل القانون».

بعد الجامعة، جاءت كاغان إلى واشنطن حيث عملت مع قاضي المحكمة العليا الأسود ثيرغود مارشال. وتطابق ذلك مع ميولها الليبرالية، وعطفها على الأقليات. كان مارشال طيبا وودودا في التعامل معها. وأشاد بآرائها التقدمية منذ أن كانت في المدرسة الثانوية، وخاصة دفاعها عن حقوق السود. وكان يتندر عليها ويسميها «شورتي» (قصيرة، لأنها كانت قصيرة القامة، وبعد أن سمع دورها في فريق التجديف في أكسفورد).

بعد ذلك عملت محامية في واشنطن. وكانت محامية لشركة «واشنطن بوست»، مع غيرها. وتذكرها ال كامين، الصحافي في الصحيفة، وقال إنها كانت «تعرف ما كانت تفعل». ومن واشنطن، إلى شيكاغو. عادت إلى العمل الأكاديمي سنة 1991، في جامعة شيكاغو، حيث قضت خمس سنوات.

في السنة نفسها، كان أوباما أكمل دراسة القانون في جامعة هارفارد، وبدلا من المجيء إلى واشنطن للعمل مع قاضي المحكمة العليا، كما يفعل كثير من خريجي القانون في هارفارد، ذهب مباشرة إلى كلية القانون في جامعة شيكاغو. قضى أوباما أكثر من عشر سنوات هناك. وقضت كاغان خمس سنوات.

وتفارقا سنة 1996، عندما تركت كاغان الجامعة، لتعمل مستشارة قانونية في البيت الأبيض في عهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون. وبقي أوباما في شيكاغو، أستاذ جامعة، وناشطا في خدمة السود، ومتحمسا للعمل السياسي.

وفي سنة 2000، مع مجيء الرئيس الأميركي جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض، عادت كاغان إلى العمل الأكاديمي، في كلية القانون في جامعة هارفارد. وبعد سنتين، اختيرت أول امرأة عميدة للكلية.

وعندما كانت أستاذة في جامعة شيكاغو، كتبت عن مواضيع مثل: «حرية التعبير والتعبير عن الكراهية»، و«الرأي الخاص والهدف العام»، و«دور الحكومة في تأمين الحرية». وبعد أن عادت إلى هارفارد، عميدة لكلية القانون، كتبت كتاب «إدارة الرئاسة» عن سنواتها في البيت الأبيض. وفي هارفارد، اشتهرت بكسب حب الطلبة والطالبات، وقدمت لهم خدمات اجتماعية كثيرة، وزادت حجم الكلية.

ووصفها ريتشارد برادلي في كتاب «هارفارد رولز أميركا» (هارفارد تحكم أميركا) بأنها: «ذكية إلى درجة أنها تؤمن إيمانا قويا بآرائها الشخصية. لكنها، في الوقت نفسه، تعرف أن العمل مع آخرين يستوجب التنازل والتسامح والتوافق». وأضاف: «هذه امرأة سياسية. وأنا أقول ذلك في حسن نية مؤكد».

لم يكن الكتاب عن كاغان. كان عن لورنس سامرز، رئيس جامعة هارفارد عندما كانت كاغان عميدة كلية الحقوق هناك. قبل هارفارد، كان سامرز وزيرا للخزانة في عهد الرئيس كلينتون. وعلى الرغم من أنه نجح في الوزارة، واجه انتقادات كثيرة في هارفارد، ومنها أنه لم ينصف البروفسيرات. واتهم بالتفرقة ضد النساء. خاصة عندما تحدث علنا عن قلة كفاءات النساء في هارفارد. وكانت كاغان واحدة من نساء ورجال تصدوا له.

وفي هارفارد أيضا، أثارت كاغان أكثر من ضجة عندما عارضت جهود البنتاغون لتجنيد طلاب من الكلية. وعندما دافعت عن حقوق المثليين جنسيا في القوات المسلحة. وصار واضحا أن علاقتها مع العسكريين، مثل علاقة كثير من المثقفين الليبراليين، ليست طيبة.

وفي سنة 2008، عندما فاز أوباما برئاسة الجمهورية، اختارها مدعية عامة.

ويوم الاثنين، في حفل كبير في البيت الأبيض، أعلن أوباما اختيارها، وكانت تقف إلى يساره، ووقف نائبه جوزيف بايدن إلى يمينه. ووصف أوباما كاغان بأنها «صديقتي»، وقبلها على خدها الأيمن، بينما اكتفى بايدن بمصافحتها.

وأشار أوباما إلى أنها كانت أول امرأة عميدة لكلية القانون في جامعة هارفارد. ووصفها بأنها «رائدة»، وتهتم بالجوانب الاجتماعية للقانون. وأنها «ممتازة، ومستقلة، ومحايدة وعطوفة على القانون». وقال إن هذه تشبه صفات جون ستيفنز، قاضي المحكمة العليا الذي أعلن، قبل شهرين، تقاعده، وستخلفه كاغان.

وردت كاغان، وشكرت أوباما، وقالت إن القانون «ليس رياضة ذهنية، أو كلمات مكتوبة، ولكنه الذي يؤثر على حياة الناس». وصارت كاغان ثاني اختيار لأوباما في المحكمة العليا. ففي السنة الماضية، اختار سونيا سوتومايار، من أصل لاتيني، لعضوية المحكمة. وهي أيضا من نيويورك، وأيضا ليبرالية.

وقال مراقبون وصحافيون في واشنطن إن أوباما، عندما فاز برئاسة الجمهورية، كان يريد اختيار كاغان وزيرة للعدل. لكنه، في آخر لحظة، فضل اختيار أول وزير عدل أسود، وهو ايريك هولدر.

وقالوا إن أوباما اختار أكاديمية ليبرالية لسببين:

أولا: لإعادة التوازن في المحكمة بعد أن كان الرئيس السابق بوش الابن اختار قاضيين يعتبران من المحافظين.

ثانيا: لتستطيع الأكاديمية كاغان مواجهة رئيس المحكمة جون روبرتز، المحافظ والمشهور بذكاء في المداولات القانونية.

هذا بالإضافة إلى أن كاغان عمرها 50 سنة، وهذا عمر صغير نسبيا في المحكمة العليا التي يبلغ متوسط عمر القاضي فيها 70 سنة، التي يبقى فيها القاضي حتى يموت أو يعجز عن العمل. يعني هذا أن كاغان ربما ستظل عضوا في المحكمة 30 سنة قادمة.

هذا بالإضافة إلى اعتقاد أوباما بأن المحكمة العليا تحتاج إلى مزيد من النساء، خاصة الليبراليات. والآن صار عددهن 3. ويظل في المحكمة 6 رجال، منهم اثنان معتدلان، وأربعة محافظون.

وقبل ثلاثين سنة، اختار الرئيس رونالد ريغان أول امرأة لعضوية المحكمة، وهي ساندرا اوكنور التي تركت المحكمة قبل عشر سنوات بسبب سوء صحتها.

لكن هذه أول مرة منذ أربعين سنة يختار فيها رئيس أميركي مرشحا أكاديميا، وليس عضوا في الهيئة القضائية. وكان الرئيس نيكسون اختار اثنين. وقال في ذلك الوقت إن المحكمة العليا يجب ألا تكون كلها ممارسة قانونية، وأنها تحتاج إلى تفكير أكاديمي، قائلا: «تستفيد الولايات المتحدة أكثر من وجود جدل ومناظرات في محكمتها العليا، وليس فقط تطبيق القوانين. كلما تتجدد نظرتنا للقانون، نضع قانونا متجددا، من دون التأثير على حياد القانون». ويبدو أن أوباما يريد الشيء نفسه في المحكمة العليا.

وقالت صحيفة «واشنطن بوست»: «لأن كاغان لم تكن قاضية، لن يقدر الذين سيعارضونها على التنقيب في قراراتها القضائية في الماضي. لن يقدروا على أن يقولوا إنها حكمت بكذا في القضية كذا يوم كذا». لكن أضافت الصحيفة: «سيؤثر غياب خبرات قضائية على رأي الناس في المحكمة، وهي إنما لتفسير القانون، وليس للنقاش حول القانون».

ولاحظت صحيفة «نيويورك تايمز» أن كاغان ستكون من «مفكري الساحل الشرقي»، في إشارة إلى مثقفي الولايات الشرقية وخريجي جامعاتها مثل هارفارد وبرنستون وييل وكولومبيا. وقالت إن اختيارها سيزيد أسهم هؤلاء في المحكمة العليا، لكنه سيجعل الولايات الغربية والوسطى تحس بأنها لا تمثل في المحكمة.

وأشار تلفزيون «سي بي إس» إلى أن كاغان مثلية الجنس. وقال إنها إشاعة انتشرت في الإنترنت. بالإضافة إلى إشاعة أخرى بأنها وأوباما كانت تربطهما علاقات غرامية، إن لم تكن جنسية، وذلك خلال سنوات جامعة هارفارد، وسنوات جامعة شيكاغو، وأن كاغان كانت تتمنى لو أن أوباما تزوجها، بدلا من ميشيل.

وساهمت في الإشاعات مواقع سوداء في الإنترنت، احتجت على أن أوباما اختار «صديقته اليهودية، ولم يختر امرأة سوداء للمحكمة العليا».

وتزاملت هذه المواقع مع مواقع جمهورية ومحافظة، غمزت بسبب كلمة «صديقتي» التي استعملها أوباما في وصف كاغان. وغمزت عن «صداقة أسود ويهودية». على أي حال، سارع البيت الأبيض، ونفى هذه الإشاعات. بل وأرسل خطاب احتجاج إلى تلفزيون «سي بي إس». وقالت صحيفة «واشنطن بوست» إن البيت الأبيض تعمد هذه «الخطوات الاستثنائية حتى يغلق الباب مبكرا أمام أي إشاعة، وحتى لا تتطور الإشاعات».

كاغان غير المتزوجة التي ليس لها أولاد تهوى لعب الكوتشينة، ومشاهدة منافسات كرة البيسبول، وفريقها المفضل هو ميتز في نيويورك. وعندما أعلن أوباما اختيارها، تندر بأنها تشجع ميتز، بينما تشجع زميلتها قاضية المحكمة العليا من نيويورك فريق يانكي. وقال أوباما: «من قال إنه لا توجد تعددية في المحكمة العليا؟!».