وجه موريتانيا.. الناعم

أول وزيرة خارجية عربية ابنة «أبو الدبلوماسية الموريتانية» تطمح لكسر «الصورة النمطية» عن النساء.. ووقفت في طابور مطار القاهرة

TT

عندما لمست قدماها أرض نيويورك، المدينة التي تعيش في ضجيج دائم بلا توقف، لتمثل بلدها موريتانيا في الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، كان الدبلوماسيون يحاصرونها في كل حدب وصوب من المبنى الأممي، رغبة في التقاط صورة تذكارية مع سيدة قادمة من الجانب الآخر من المحيط الأطلسي. السيدة التي ترتدي الزي الموريتاني التقليدي «الملحفة»، القادمة من بلد معروف بتمسكه الشديد بأعرافه وقيمه خاصة تجاه المرأة التي تعيش تحت وطأة مجتمع ضاغط، وهامش الحرية عنده محدود، حيث لا يسمح للمرأة بالمشاركة في مجلس ذكوري، ولا السفر وحدها.

هذه الصورة هي التي دفعت، ربما، الإعلاميين والدبلوماسيين والفضوليين أحيانا إلى الاهتمام البالغ بالناها بنت مكناس وزيرة خارجية موريتانيا. حيث لم يكونوا يتوقعون أن تلك الصورة التي تكونت في ذهنهم للمرأة العربية «القابعة في البيت» يمكن أن تنمحي في لحظة من الزمن بحضور امرأة عربية تمثل بلدها في محفل رجالي عالمي.

وقد أثار تعيين بنت مكناس على رأس هرم الدبلوماسية الموريتانية الكثير من الشد والجذب في الوسط الديني بموريتانيا؛ ما بين خطب للجمعة هنا وفتاوى دينية هناك تنتقد سفر المرأة، من غير التصريح باسمها، بحجة منافاته للقيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية من جانب، ومتساهل في الأمر من جانب آخر، وهو ما وجدت فيه وزيرة الخارجية السند الشرعي لتولي مهامها غير عابئة بالتصريحات والانتقادات المناوئة لتولي منصبها.

اضطلعت بنت مكناس بمهامها الدبلوماسية الجديدة معتمدة في عملها على الإرث الدبلوماسي الثقيل الذي خلفه والدها (أبو الدبلوماسية الموريتانية) حمدي ولد مكناس، الذي أمسك أكثر من عقد من الزمن بدفة الدبلوماسية الموريتانية بنجاح، حين كان مهندس علاقات موريتانيا مع محيطها العربي وتربطه الكثير من العلاقات الودية مع زعماء وسياسيين عرب كبار. كما يرجع له الفضل في تعريف موريتانيا بأفريقيا، وذلك ما دفع عمر بونغو رئيس الغابون إلى احتضانه وتعيينه مستشارا له، من أجل الاستفادة من تجربته الغنية، بعد إطاحة العسكر به إثر سقوط أول حكم في البلاد 1978 برئاسة الراحل المختار ولد داداه.

وإذا كان والد بنت مكناس أبا لدبلوماسية موريتانيا «الوليدة»، فإن ابنته الناها وزيرة الخارجية تعتبر الواجهة الخارجية لـ«موريتانيا الجديدة»، الشعار الذي رفعه الرئيس الحالي لموريتانيا محمد ولد عبد العزيز، بعد الانقلاب الذي أطاح بالرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله في 6 أغسطس (آب) 2008. ويعني هذا الشعار «كلمة السر» المثقلة بالدلالات السياسية بالنسبة للسياسيين الموريتانيين الموالين للرئيس ولد عبد العزيز، حيث تبنى كل سياساتهم انطلاقا من ذلك، ويعتبرونه الضمانة الأساسية إلى القضاء على كل أشكال الحكم في الحقب الماضية التي أثبتت فشلها في حكم موريتانيا، وانتهاج حكم مختلف، يحصن البلاد من المطبات التي تعوق التنمية والاستقرار، حسب رأيهم.

جسدت وزيرة الخارجية هذا الشعار في علاقات موريتانيا الخارجية، مما خلق ديناميكية جديدة تؤسس لشراكة حقيقية وفاعلة مع «الأشقاء والأصدقاء»، تتوازن مع مراعاة الثوابت الموضوعية لعلاقات تعاون بناء، في إطار الاحترام المتبادل وسيادة القرار. وقد تميزت دبلوماسية بنت مكناس بالتريث والأناة، وبكون قراراتها تطبخ على نار هادئة، إلا إذا كان الأمر يتعلق بسيادة أو مصلحة بلدها، فذلك «أمر لا مساومة فيه» كما تردد دائما في كل مناسبة.

ولدت بنت مكناس 1965، في وسط سياسي معروف في موريتانيا، تولى والدها حقيبة الخارجية بعد استقلال موريتانيا بثماني سنوات 1968، وتلقت تعليمها الأساسي والثانوي في المدارس العمومية بنواكشوط، لتحصل على شهادة البكالوريا (شعبة العلوم الطبيعية)، لتلتحق بكلية الطب بجامعة الشيخ آنتا جوب بدكار. لكن الفتاة اليافعة سرعان ما غيرت رأيها، حيث بدأت هجرتها نحو الشمال باتجاه أحد المعاهد التحضيرية للمدارس الكبرى بباريس، وأدارت ظهرها لدراسة الطب متجهة للدبلوماسية.

ويقول سانغوت عثمان، نائب رئيس حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم والعضو بمجلس الشيوخ في البرلمان الموريتاني، حول بداية الطريق السياسي لبنت مكناس لـ«الشرق الأوسط»: «إن الناها انتخبها الحزب بعد ثمانية أشهر من وفاة والدها حمدي ولد مكناس في 15 سبتمبر (أيلول) 1999 عقب انعقاد مؤتمر استثنائي باتفاق أغلب أعضاء المكتب التنفيذي، ولم يشذ عنه إلا عضوان». ويضيف سانغوت أن اختيار الناها لرئاسة الحزب لم يأت من فراغ، بل لكونها كانت قريبة من أبيها في العمل الحزبي، وعلى دراية تامة بما يجري فيه، رغم أن والدها رفض أن تتقلد منصبا في حياته.

ويؤكد سانغوت أن الناها عندما أمسكت بقيادة الحزب في مايو (أيار) 2000 حافظت على نهج والدها في توجهات الحزب الليبرالية، لكن أعطته دفعة نوعية، حيث كان الحزب في عهد والدها لا ينتمي إليه من المنتخبين غير رئيسي بلديتين (عمدتين)، ولا يملك أي مقعد في البرلمان، ومنذ أن أمسكت الناها دفة القيادة أصبح الأمر مختلفا، فقد ارتفع عدد رؤساء البلديات (العمد) من اثنين إلى 12 عمدة، ويملك الحزب في التمثيل البرلماني 3 نواب وعضوين في مجلس الشيوخ.

ويعتبر نائب رئيس حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية أن حزبه الذي تأسس في يونيو (حزيران) 1993 من أعرق الأحزاب الموريتانية، ويمتاز بأنه الحزب الوحيد الذي يشهد استقرارا ولم يشهد تمزقا، مثل ما شهدته سائر الأحزاب السياسية الموريتانية، التي شهدت هزات وصراعات بين أقطابها، وظل صامدا في وجه كل العواصف السياسية التي شهدتها موريتانيا.

أما خلفية الحزب المعارضة والليبرالية فقد جاءت من أن حمدي ولد مكناس والد الناها انضم مطلع تسعينات القرن الماضي إلى صفوف المعارضة السياسية لنظام الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، وكان ضمن قادة الجبهة الموحدة للتغيير التي أسست فيما بعد حزب اتحاد القوى الديمقراطية، الإطار الأبرز للمعارضة. وبعد فوز ولد الطايع في انتخابات 24 يناير (كانون الثاني) 1992 الرئاسية بنسبة 66% بدأت تغييرات تطرأ على الساحة السياسية الموريتانية، وكان حمدي ولد مكناس أحد أبرز قادة حزب اتحاد القوى، إلى جانب رئيسه أحمد ولد داداه، لكن عام 1993 كان فاصلا في تاريخ الحزب الذي سيعرف على مدى السنوات اللاحقة انقسامات حادة.

فقد أنشأ ولد مكناس حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم، رفقة مجموعة من رفاقه السابقين في «الاتحاد»، وظل الحزب الجديد يدور في فلك المعارضة. وطيلة عقد التسعينات ظل حزب ولد مكناس محافظا على مكانته في ساحة سياسية مضطربة، لكنه لم يحقق مكاسب شعبية كبيرة، واعتقل رئيسه ونفي إلى داخل البلاد في عام 1995 إثر إضرابات شهدتها البلاد عرفت بـ«أزمة الخبز».

وفي عام 1998 أعلن حزب ولد مكناس تأييد الرئيس السابق معاوية ولد الطايع، وأصبح حمدي ولد مكناس وزيرا مستشارا في الحكومة، وهو المنصب الذي شغله حتى وفاته في عام 1999.

رغم مرارة فقد الوالد، فإن الحظ ابتسم لـ«الناها»، فقد كانت الوريثة الوحيدة لوالدها في الحزب والوزارة، واختارها أعضاء الحزب رئيسة له، ثم اختارها ولد الطايع وزيرة مستشارة في رئاسة الجمهورية. وهو المنصب الذي ظلت تشغله حتى الإطاحة بولد الطايع في انقلاب عسكري في الثالث من أغسطس 2005.

وقد شكلت الإطاحة بولد الطايع أبرز حدث شهدته موريتانيا منذ انقلاب العاشر من يوليو (تموز) 1978 الذي أطاح بأول حكم مدني. وأجمعت قوى المعارضة على الإشادة بعزل الرئيس السابق على أيدي أقرب مقربيه، لكن قوى الموالاة لولد الطايع أيدت لاحقا وبقوة الإطاحة بالرئيس ولد الطايع، وكانت ضمنها الناها بنت مكناس وحزبها الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم.

وفي مقابلات صحافية أجريت معها نهاية عام 2005 ومطلع عام 2006، انتقدت بنت مكناس بشدة سياسات ولد الطايع، واعتبرت أن موريتانيا بحاجة إلى الدخول في فصل جديد من تاريخها يضمن الرقي والازدهار في جو من الحرية والديمقراطية. وقرر المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية، الذي أطاح بولد الطايع تحت رئاسة العقيد اعل ولد محمد فال إجراء انتخابات برلمانية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2006 وانتخابات رئاسية في يناير 2007.

ثم خاض حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الانتخابات البرلمانية (التشريعية)، وتصدرت رئيسته الناها بنت مكناس قائمة مرشحيه في العاصمة نواكشوط، وفازت بسهولة بمقعد ضمن عدة مقاعد حصل عليها الحزب في موريتانيا، لتدخل قبة البرلمان لأول مرة، وتواصل مشوارها السياسي من هناك.

وكان حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية من أبرز داعمي الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله في انتخابات 2007، لكن سرعان ما تخلى عن دعم ولد الشيخ عبد الله بعد تعيين الحكومة الأولى التي كان يديرها الزين ولد زيدان، بحجة أن الحزب لم يجد من «الكعكة» ما يتناسب مع جهده وثقله الانتخابي، وذهب مغاضبا للرئيس السابق ولد الشيخ عبد الله، وأعلن تخليه عنه في مؤتمر صحافي، ثم انضم إلى فريق البرلمانيين الذي قام بحجب الثقة عن الحكومة التي تولى رئاستها الوزير السابق يحيى ولد محمد الواقف حتى سقوط النظام صبيحة 6 أغسطس 2008.

وواكب الحزب حقبة «معركة الاعتراف» بشرعية النظام الجديد، وبذلت الناها مجهودا في سبيل الاعتراف به، ووظفت علاقاتها المؤثرة من أجل كسر الحصار عن الحكم الجديد، حتى توصلت الأطراف السياسية الموريتانية إلى اتفاق في دكار يقضي بتنظيم انتخابات رئاسية تشارك فيها جميع الأطراف المتنازعة، وهكذا تمت الانتخابات الرئاسية ونجح فيها الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز بنسبة 52%، وتم تعيين بنت مكناس وزيرة خارجية موريتانيا في أول حكومة لولد عبد العزيز بعد الانتخابات.

وكانت المفاجأة الكبيرة لتعيين بنت مكناس، مثلما كتبت الصحافة الموريتانية، هي في كون المرأة التي توصف أحيانا بأنها خجول وهي تتدثر بملحفتها في أروقة القرار ومنتدياته أعطت لموريتانيا ما يبحث عنه رئيسها الجنرال الشاب الذي لبس البذلة المدنية في نهاية المطاف، وهو «الوجه الجديد العصري».

وبذلك السلاح الفعال جلبت بنت مكناس بدبلوماسيتها الهادية معظم وزراء خارجية أوروبا الغربية إلى نواكشوط حيث اعتادوا أن يجعلوا من الرباط آخر وجهة مغاربية، ثم لم يمض وقت يسير حتى جلبت بنت مكناس العرب وزراء ومستثمرين لتفوز بلقب «سلاح موريتانيا الناعم».

إلا أنه ليس كل القضايا على مكتبها استثمارات وتعاون وفتح صفحات جديدة، ففي موريتانيا اليوم قضايا معقدة وخطيرة. من بينها الهجرة غير الشرعية وخطر «القاعدة» مثلا، والتنسيق بين موريتانيا والبلاد العربية والإقليمية في هذه الملفات الصعبة. وفي هذا الصدد قالت في مقابلة أخيرة «نحن نعلم أن موريتانيا بشكل أو بآخر ربما تكون ممرا للهجرة السرية نحو أوروبا، وهذه أيضا مسألة تؤرق أوروبا وفرنسا بشكل خاص وإسبانيا، ونحن نعلم أن إيطاليا عقدت اتفاقات مع ليبيا بهذا الخصوص.. هناك اتفاقات مع دول للحد من هذه الظاهرة. أظن أن الحل النهائي يكمن في محاربة السبب الأول وهو الفقر والجهل. فإذا كان هناك طرح يسعى لمحاربة الفقر فنحن متأكدون أن ظاهرة الهجرة السرية ستتراجع أو تزول في يوم ما». أما حول «القاعدة» وخطرها فقد قالت «لا توجد مراكز تدريب لـ(القاعدة) ولا خلايا على الأراضي الموريتانية. لكن طبعا هناك تسلل لعناصرها من دول مجاورة، ونحن نسعى للحد من هذه الظاهرة الخطيرة، ونحن مستعدون للتعامل مع أي دولة تود مساعدة موريتانيا والدول التي تواجه هذا المرض الخطير من أجل القضاء عليه ومن أجل ضمان أمن المواطنين في هذه المنطقة».

ورغم المنصب والنفوذ، فإن بنت مكناس تتعامل مع نفسها كشخص عادي، ففي إحدى مهامها الدبلوماسية الأخيرة توجهت للقاهرة ووقفت في طابور القادمين، وعندما فحص ضابط الجوازات جواز سفرها فوجئ بأن أمامه أول وزيرة خارجية عربية، إذ أصرت على الوقوف في الطابور وسط الركاب المسافرين على طائرة «مصر للطيران» المتجهة إلى دمشق، ورفضت دخول صالة كبار الزوار، وقامت بإنهاء إجراءات سفرها بنفسها ووسط الركاب‏.