تحولات السياسة التركية: مصالح أم أهواء؟

أنقرة تطور رؤية لمستقبل الوضع في المنطقة.. من موريتانيا إلى فاس ومضيق هرمز وإسطنبول

السياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط لها شعبية في الشارع (رويترز)
TT

قد يكون الكلام عن «إدارة تركيا ظهرها للغرب»، الذي وصفه رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان بـ«الدعاية القذرة» موضع نقاش، غير أنه من المؤكد أن تركيا الجديدة بقيادة حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإسلامية قد أدارت وجهها نحو العرب بعد الخيبة الواضحة في كلام قادتها من عرقلة انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي الذي عملت تركيا من أجله منذ عام 1959 ولم يتحقق لأسباب يلمح أردوغان إلى ارتباطها بحقيقة أن تركيا هي «دولة شعبها مسلم».

وإذا كان كلام أردوغان عن «الشعب المسلم» صحيحا من حيث الواقع، فإن الجديد فيه هو صدوره عن رأس هرم السلطة التنفيذية في دولة علمانيتها مقدسة منذ أن أرساها مصطفى كمال باشا الملقب بـ«أتاتورك» أي «أبو الأتراك»، الذي كان صاحب نظرية «الشعب التركي» وقائد التحول عن «السلطنة العثمانية» ودولة الخلافة الإسلامية. فقد رسم أتاتورك مسارا عن الحداثة والانبهار بالغرب على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، وأوصى الأجيال المستقبلية للشعب التركي أن «ينظروا إلى الغرب أكثر مما يتقيدون بالتقاليد والماضي إن أرادوا تحقيق التنمية والرخاء والتقدم».

فقد ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة نهائيا عام 1924 وأعلن تركيا الجمهورية فتولى رئاستها، حتى وفاته عام 1938م، وقد تمكن من استبدال الأعراف القومية العلمانية بالمبادئ الإسلامية واستبدل الكتابة في تركيا من الأحرف العربية إلى الأحرف اللاتينية مديرا وجه تركيا بالكامل عن المنطقة العربية التي حكمتها «السلطنة العثمانية» نحو 400 سنة.

التزم الأتراك نصيحة «الأب» وأضحت علمانية الدولة من ثوابت الدستور غير القابلة للتعديل، فبنت تركيا دولة قوية جيشها هو الثاني بعد الولايات المتحدة في الحلف الأطلسي والثامن في العالم، وهذا الجيش نفسه كان «حارس العلمانية» يتدخل لإصلاح ما يرى أنه المسار الخطأ، وإعادة عربة السياسة التركية إلى مسارها. غير أن تحولا دراماتيكيا بدأ يظهر منذ مطلع القرن الـ21 بوصول الأحزاب الإسلامية إلى السلطة عبر الانتخابات التشريعية، التي استطاعت تثبيت سلطتها بعد تغيير اسمها أكثر من مرة نتيجة الحظر الذي كانت تفرضه المحكمة العليا. واستطاع أردوغان بعد انفصاله عن مرشده نجم الدين أربكان أن يضمن استقرارا في السلطة واستقر في موقعه في رئاسة الحكومة، حاملا مساعده عبد الله غل إلى مركز رئاسة تركيا.

ويبدو أن تركيا «الأردوغانية» تتبنى حاليا نظرية المفكر الأميركي صامويل هنتنغتون الذي وصف في كتابه «صراع الحضارات وإعادة تأهيل النظام الدولي» تركيا بأنها «إحدى الدول الإسلامية الست الكبرى التي تملك قدرات كامنة وفعلية في قيادة العالم الإسلامي»، معتبرا أنه «من الأفضل لتركيا وبدلا من الاستجداء والانتظار خلف أبواب الاتحاد الأوروبي، أن تقوم بتطوير وتنمية نفسها بوصفها دولة تقع ضمن مجموعة الحضارة الإسلامية وفي الوقت ذاته حديثة وديمقراطية وأن تتحول بين الدول الإسلامية إلى دولة كبيرة وحديثة».

وقد قاد وزير الخارجية التركي الجديد أحمد داود أوغلو (أي أحمد ابن داود باللغة التركية) عملية التحول بنجاح لافت، ويقول أحد العاملين في وزارة الخارجية التركية إنه منذ وصول داود أوغلو إلى الوزارة «لم نعد نهدأ، فلا يمضي شهر إلا ولدينا مؤتمر أو مبادرة»، مشيرا إلى أن «داود أوغلو يتجه بوضوح شرقا لتعزيز علاقات بلاده بالعالم العربي والدول المحيطة»، مشيرا في هذا الإطار إلى مؤشرات عدة على سياسة عدم تحدي الجيران وخفض التوترات ومنع أسباب الصراع مع الدول الجارة، وهو ما سماه داود أوغلو بنظرية «صفر مشكلات»، وأبرزها العمل على تسوية مشكلة الأكراد وإقامة علاقات مع أرمينيا - وهي من المحرمات الكبرى - وتفعيل العلاقات مع روسيا بالإضافة تنشيط السياسات الإقليمية التركية في الشرق الأوسط وقيام تركيا بدور الوساطة بين سورية وإسرائيل.

ويقول باحثون في الشأن التركي إن تجربة حزب العدالة والتنمية منذ عام 2002، نجحت في جعل النظام السياسي في تركيا نموذجا قيد البحث تحت عنوان «النموذج التركي» الذي يقوم على 3 مبادئ هي: الديمقراطية والعلمانية والإسلام. ويرى هؤلاء أن هذا النموذج يمكن أن يشكل خريطة طريق للإسلاميين عن الكيفية التي يستطيعون من خلالها التعامل مع الأوضاع الداخلية في بلدانهم عبر الواقعية والبراغماتية والاعتدال. كما يمثل نموذجا للديمقراطية الإسلامية المعتدلة التي تبحث الولايات المتحدة عنها وتسعى إلى تعميم تجربتها.

ويرى الدكتور بول سالم، مدير مركز «كارينغي» للأبحاث والدراسات الاستراتيجية أن تركيا «فهمت كيف تكون ديمقراطية فاعلة في الشرق الأوسط، وكيف تجعل الإسلام السياسي معتدلا، وتمكنه من أن يكون حزبا عاديا، كما فهمت كيف تمارس النشاط الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين، وكيف تجمع بين الإسلام والعلمانية، والعلم، والفردية، والجماعات ذات المصالح المشتركة كلها في المجتمع نفسه في الشرق الأوسط»، معتبرا أن القرن الحالي قد يكون قرن تركيا لأنها الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تتجه إلى المستقبل. مشيرا إلى أن تركيا «هي الوحيدة التي تقترح نظاما أو مروحة من العلاقات في الشرق الأوسط تبدو معقولة بالنسبة إلى الجميع».

ويرى سالم أن الكثير مما حدث في السياسة الخارجية التركية والإقليمية يعكس تغير المصالح التركية، وليس أهواء حزب ما. ويقول: «النمو الاقتصادي في تركيا، على غرار النمو الاقتصادي في الصين، يتوقف الآن على استقرار بيئته بأكملها. وذلك يعتمد على قيام علاقات جيدة مع الجميع في تلك البيئة لأنها، أي تركيا، تحتاج إلى النفط والغاز، وإلى نقل النفط والغاز، وإلى التجارة والتصدير مع أكبر عدد ممكن من البلدان».

أما داود أوغلو فهو يتبنى نظرية مختلفة، إذ إنه يرى في التقارب التركي - العربي عودة للتاريخ إلى مجراه الطبيعي، «وقد أثار خلال مؤتمر عربي - تركي من أصل 3 عقدت في إسطنبول في أسبوع واحد، ليرسم أمام الحضور المذهول عرضا لرؤية تركيا لمستقبل الوضع في المنطقة من موريتانيا إلى فاس (المغرب) ومضيق هرمز وإسطنبول»، مشددا على أن السدود التي أقيمت في وجه الانفتاح التركي في المنطقة بدأت بالسقوط، وأن تركيا سوف «تهتم» بكل مشكلات المنطقة. معتبرا أن «الجدران (بين تركيا والعالم العربي) بدأت تنهار وستسير المنطقة بخطى ثابتة وفق رؤية جديدة عنوانها التعاون والتكامل السياسي والاقتصادي، ما يجعل منها حوضا مشتركا آمنا ومستقرا ومزدهرا». مشددا على «أن تحقيق ذلك، يقتضي إيجاد حل جذري للقضية الفلسطينية، ففلسطين كانت ولا تزال المحور الأساسي لأمن المنطقة». وأكد أوغلو، أن «تركيا معنية بكل قضايا المنطقة، وستهتم بجميع تفاصيلها».

أما أردوغان فقد نأى بخطابه عن «أتاتورك» مفضلا الحديث عن السلطان محمد الفاتح، الذي كان أول من دخل القسطنطينية والسلطان سليم الأول الذي قاد حملة التوسع العثماني شرقا، إذ توجه أردوغان في خطاب علني رد فيه على أردوغان «الدعاية السوداء في الصحافة الإسرائيلية والصحافة الغربية التي تتلقى الدعم من إسرائيل» بالقول «إننا لن ننحني لهذه الدعاية وليس من شبهة عندنا في وضوئنا لكي نشتبه في صلاتنا»، موضحا أن الحملة ضده في بعض الصحافة التركية هي ذاتها في الصحافة الإسرائيلية «فقط اللغة اختلفت». وقال «إذا سكتنا على الظلم فسوف تصطك عظام السلطان محمد الفاتح والسلطان سليم الأول».

ورغم أن سلطة حزب العدالة والتنمية أصبحت مهددة باقتراب الأحزاب العلمانية منها قبل نحو سنة على الانتخابات التشريعية العامة الصيف المقبل إلى معدلات تنبئ بالخطر، فإن المواجهة الأخيرة مع إسرائيل حشدت رأيا عاما داعما للحكومة من شأنه أن يساعد أردوغان في سياسات التحول التي يقودها. ويقول أحد الإعلاميين، أعرب العاملون في تركيا عن أن الشعب التركي كان موحدا بالكامل وراء حكومته بعيدا عن الاصطفافات السياسية «لأن المواجهة بالنسبة إليه كانت قومية».

ولا يزال الشارع التركي محافظا على علمانيته إلى حد كبير، مع الكثير من الملاحظات على أداء أردوغان من قبل هؤلاء العلمانيين الذين أخذوا عليه منعه الخمور في منطقة للمقاهي في القسم الآسيوي من مدينة إسطنبول ورأوا فيه «اتجاها للأسلمة». وينفي كبير مستشاري الرئاسة التركية أرشاد هورموزلو لـ«الشرق الأوسط» اتجاه بلاده في هذا المنحى، منطلقا من أن «علمانية الدولة التركية لا يمكن أن تتغير»، جازما بأن بلاده لا تتجه نحو الأسلمة. مشيرا إلى أن تركيا تقوم على أسس ثابتة لا يمكن أن تتغير، وأنها لا تزال ماضية في إجراءات السعي للعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي. إلا أنه لا يمكن لأحد أن ينكر الاتجاه الإسلامي الواضح والمتنامي في الدولة العلمانية التي تذخر عاصمتها الاقتصادية إسطنبول بالكثير من المآذن الشاهقة الارتفاع، التي تشكل معلما لافتا لكل من يزورها. وعلى الرغم من أن يوم الجمعة هو يوم عمل عادي، فإن دوائر الدولة أصبحت تغض النظر عن ذهاب الموظفين لأداء صلاة الجمعة، وكان وزير المال التركي محمد شمشك (محمد برق) قد قطع حوارا مع «الشرق الأوسط» لأنه تأخر عن موعد الصلاة.

الاتجاه التركي نحو العالم العربي يسير بخطى ثابتة، وقد أظهرت نتائج الاستطلاع الذي أجرته المؤسسة التركية للدراسات الاقتصادية والاجتماعية (TESEV) أن وجهات النظر العربية حول تركيا أصبحت إيجابية إلى حد كبير في السنوات الأخيرة. وهذا الاستطلاع الذي جاء بعد عملية التوغل الإسرائيلية في قطاع غزة، تلاه استطلاع آخر أجري قبيل حادثة «أسطول الحرية» في سبع دول عربية هي: مصر وسورية ولبنان والأردن وفلسطين والعراق والمملكة العربية السعودية، وأظهرت نتائجه أن صورة تركيا قد أخذت ترتفع مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، وذلك للمرة الأولى في تاريخها منذ «وقيعة لورانس بين العثمانيين والعرب». وفقا لبيان صدر عن هذه المؤسسة.

وكشفت نتائج الاستطلاع عن أن مواقف حكومة العدالة والتنمية الإيجابية تجاه القضايا العربية كانت السبب الرئيسي وراء تحسن صورة تركيا لدى العرب، وقد بدأت هذه المواقف برفض البرلمان التركي للطلب الأميركي باستخدام قواعده العسكرية في تركيا لضرب العراق، ثم موقف أردوغان في منتدى دافوس من إسرائيل في حربها على غزة.

وفي المقابل، لا يبدو الجانب التركي ساعيا لفرض نفسه كمنافس للدور الإيراني، بل أظهر الطرفان تنسيقا كبيرا وتقاسما لافتا للأدوار، جعل أحد قادة «14 آذار» في لبنان يقول «قضية العرب الأولى (فلسطين) أصبحت في عهدة الفرس والترك». ويقول هورموزلو «إن إيران بلد كبير، وجار مهم جدا بالنسبة إلى تركيا»، مشيرا إلى أن «بلاده لا تبحث عن تبادل للأدوار مع إيران».

أما الباحث اللبناني والأستاذ الجامعي الدكتور طلال عتريسي فلا يرى بدوره «تعارضا بين الدورين»، ويقول: «إن الإجماع العربي على تقدم الدور التركي وعلى تراجع الدور العربي لا يمكن أن يدفع تلقائيا إلى الاستنتاج بأن على العرب (الاستفادة من تركيا) للتوازن مع إيران. فما يفكر فيه بعض العرب ليس بالضرورة هو ما تفكر فيه تركيا. وما تعتقده تركيا مصالحها الاستراتيجية وما يشغل بالها حول دورها المستقبلي لا يستند إلى مخاوف العرب ورغباتهم، ومشكلة تركيا الاستراتيجية ليست إيران ولا حتى إسرائيل، بل ربما كانت مشكلتها هي تركيا نفسها. ومن يمكنه القول إن تركيا حريصة على علاقاتها العربية أكثر من حرصها على علاقاتها مع إيران؟ وإذا كان المثل العامي يقول (إن القرعة - الصلعاء - تتباهى بشعر أختها) فإن الأمر لا ينطبق على علاقات الدول ومصالحها». ويعتبر عتريسي أن الرهان العربي على دور تركي «لاستعادة التوازن» في مواجهة الدور الإيراني «غير مفهوم وغير منطقي»، مشيرا إلى أنه «ومن المعلوم أن تركيا لم تتحدث يوما عن دعم المقاومة في فلسطين أو في لبنان. ولم تشكك في شرعية وجود إسرائيل (...) ولم نسمع يوما انتقادا تركيا للدور الإيراني في العراق».

موضحا أن استراتيجية «صفر مشكلات» بالنسبة إلى تركيا تنطبق على إيران مثلما تنطبق على إسرائيل. إلا أن إسرائيل هي التي تدفع تركيا بعيدا عنها... فكيف يمكن في هذه الحال «الاستفادة» من دور تركي للتوازن مع الدور الإيراني إذا كانت العلاقات التركية - الإيرانية هي علاقات ممتازة؟

أما حزب الله اللبناني الذي وصف أمينه العام السيد حسن نصر الله أردوغان بـ«الطيب» فلم يكذب أو يؤكد شائعة انتشرت عن دعوة رسمية وجهها أردوغان لنصر الله لزيارة تركيا. وهي زيارة إن تمت، فمن شأنها أن تكون علامة فارقة في الوضع السياسي في المنطقة. أما في تركيا فلم يصدر أيضا أي نفي، لكن مصادر تركية مطلعة أبلغت «الشرق الأوسط» أن لا شيء جديا في هذا الخصوص.. حتى الآن.