الحرب الطويلة

إعفاء ماكريستال خطوة جديدة في مسار تطبيق الاستراتيجية نفسها

الجنرال ستانلي ماكريستال في شرق أفغانستان («نيويورك تايمز»)
TT

شهد شهر يونيو (حزيران) محطات مهمة في الحرب الدائرة في أفغانستان، من دخولها فترة زمنية مهمة إلى إعفاء القائد العام للقوات الأميركية وقوات حلف الشمال الأطلسي «الناتو». فيوم 7 يونيو الجاري شهد دخول الحرب في أفغانستان شهرها الـ104 منذ انطلاقها في أكتوبر (تشرين الأول) 2001، لتصبح أطول حرب تخوضها الولايات المتحدة في تاريخها. وكان طول فترة حرب فيتنام 103 أشهر قبل أن تنتهي بطريقة يعتبرها الكثيرون هزيمة وأدت إلى فترة من الانعزال الأميركي، تركت بصمتها على المجتمع الأميركي والفيتنامي لعقود طويلة. ومن جهة أخرى، أدت أزمة سياسية وإعلامية مثيرة إلى إعفاء الجنرال ستانلي ماكريستال من مهامه أول من أمس وإقالة القائد الذي استطاع أن يحسن العلاقات بين القوات الدولية والأفغان بعد قرابة 9 سنوات من الخلافات والتوتر.

وبينما يرى البعض أن هذه التطورات تدعو إلى مراجعة السياسة الأميركية في أفغانستان وتحديد هدف محدد لها، تعتبر الإدارة الأميركية أن الاستراتيجية غير قابلة للتعديل في الوقت الحالي بل تحتاج إلى المزيد من الوقت لإثبات نجاحها. وعند إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما في خطابه إعفاء ماكريستال وتعيينه قائد القيادة الوسطى الجنرال ديفيد بترايوس ليحل محله، أول من أمس، أكد أوباما أن «هذا تغيير في الشخصيات وليس في السياسة». والتغيير في الشخصيات الذي نتج بسبب «غضب» أوباما الذي وصفه عدد من مساعديه بعد قراءته لبروفايل نشرته مجلة «رولينغ ستون» عن ماكريستال وذكرت فيه انتقادات الجنرال لأوباما وكبير مستشاريه، بما في ذلك تعبير ماكريستال عن «إحباطه» بعد لقائه الأول بأوباما الذي اعتبره «غير متواصل» مع الأمور في أفغانستان. وعند وصول عدد «رولينغ ستون» إلى الأسواق اليوم، حيث إنها لم توزع حتى صباح اليوم رغم نشر المقال على موقع المجلة الإلكتروني، سيكون ماكريستال قد أنهى مهامه وعرف بـ«الجنرال الشارد»، وهو عنوان البروفايل.

وتعتبر شخصية بترايوس عكس شخصية ماكريستال من حيث الانضباط والعلاقات القوية مع القيادات في واشنطن. إلا أن بترايوس كان قد عارض أوباما عندما كان الأخير سناتورا ويطالب بسحب القوات الأميركية من العراق. وقال الكاتب في مجلة «تايم» جو كلاين: «هناك علاقة شائكة بين بترايوس وأوباما، لا ننسى هذا»، مشيرا إلى مواجهة كلامية بين الرجلين خلال عام 2006 حول إرسال قوات إضافية إلى العراق. ولكنه أضاف أنه «لا يوجد شك بأن بترايوس يجسد العقلية العسكرية الأميركية»، كما أن عملهما سويا منذ تولي أوباما منصبه كقائد عام للقوات المسلحة حسنت تلك العلاقة.

وكان بترايوس قد شارك مع ماكريستال في استشارة أوباما عندما خاض الرئيس الأميركي شهورا طويلة من مراجعة الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان العام الماضي، لينتهي بقرارات طالب بها ماكريستال وبترايوس مثل إرسال 30 ألف جندي أميركي إضافي إلى أفغانستان والعمل على استقرار البلاد بدلا من حصر المهمة الأميركي بسياسة مكافحة التمرد، الأمر الذي طالب به نائب الرئيس الأميركي جو بايدن. وقال أوباما خلال خطابه حول استقالة ماكريستال: «إنني اعتمدت على خدمته، خاصة في المساعدة على تصميم وقيادة استراتيجيتنا الجديدة في أفغانستان».

وكان العام الأول من رئاسة أوباما قد تركز على دراسة استراتيجية جديدة لتغير مسار الحرب التي تعتبر الاهتمام الخارجي الأول للرئيس الأميركي، على أمل أن يحصد عامه الثاني نتائج إيجابية لتلك الاستراتيجية. إلا أن النتائج حتى الآن مقلقة للرئيس الأميركي، حيث قتل 46 جنديا أميركي خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، بينما انخفض تأييد الشعب الأميركي للحرب لأدنى مستوياته منذ هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وأظهر استطلاع للرأي أجرته قناة «سي إن إن» الأسبوع الماضي أن 54 في المائة من الأميركيين غير راضين عن التطورات في أفغانستان، بينما فقط 41 في المائة من الأميركيين يؤيدون الجهود في أفغانستان.وكانت نسب التأييد للحرب قد انخفضت بنسبة 6 في المائة عن شهر مايو (أيار) الماضي. وسيكون على بترايوس إحداث تحسن ملحوظ في استقرار المدن الأفغانية من أجل إبقاء الدعم في المدن الأميركية للجهود العسكرية.

وبالإضافة إلى تخطي فترة زمنية مهمة، شهد هذا الشهر مقتل عدد من الجنود الأميركيين ليفوق عدد الجنود الأميركيين المقتولين في الحرب الألف جندي، مما يزيد من الضغوط على الجيش الأميركي. وبينما خسر الأميركيون 50 ألف جندي في فيتنام، ولا يتوقع أحد أن يصل عدد الضحايا الأميركيين هذا العدد، إلا أن التغطية الإعلامية المتواصلة لأعداد القتلى الجنود تزداد مما يزيد من الضغط الداخلي على أوباما. وهناك مخاوف أميركية من أن تلك الضغوط ستتصاعد مع استعداد بعض حلفاء الولايات المتحدة الانسحاب من أفغانستان العام المقبل، في مقدمتهم كندا التي ستسحب قواتها بحلول 2011. وأكدت مصادر أميركية أن العلاقات مع الحلفاء كانت في ذهن أوباما عندما أقال ماكريستال بسبب تصريحاته في مقال «رولينغ ستون» حول على لقاء مع وزير فرنسي واستيائه من التعامل معهم، في وقت تحتاج واشنطن إلى دعم حلفائها وخاصة من حيث إرسال المزيد من القوات الأجنبية. واختيار اللفتنت جنرال البريطاني نيك باركر لقيادة القوات الأجنبية في أفغانستان إلى حين وصول بترايوس هناك وتولي مهام القيادة دليل آخر على الجهود الأميركية لإشراك حلفائها في قيادة العمليات في أفغانستان.

وأوضح مصدر أميركي مطلع على الملف الأفغاني لـ«الشرق الأوسط» أن الاستراتيجية الحالية في أفغانستان لن تعدل بسبب التغييرات في القيادة، مؤكدا أن أوباما هو القائد العام وهو الذي وضع الاستراتيجية التي سيطبقها بترايوس، فور مصادقة الكونغرس على ترشيحه لهذا المنصب. ويعتبر مراقبون أن اختيار بترايوس لحل محل ماكريستال أكبر دليل على أن الاستراتيجية لن تتغير بشكل ملحوظ، خصوصا أن الجنرالين متفقان حول السياسات التي يجب اتباعها هناك. وعندما أعلن أوباما قراره قبول استقالة ماكريستال، حرص أوباما على القول إن القرار «لم يأت بسهولة»، مضيفا: «على الرغم من صعوبة فقدان الجنرال ماكريستال فإنني أؤمن بأن هذا هو القرار الصائب من أجل الأمن الوطني». وكانت الخلافات الأميركية الداخلية قد أثارت تساؤلات حول إمكانية نجاح الاستراتيجية الأميركية خصوصا مع تزايد الفجوة بين القادة المدنيين والعسكريين. وشدد أوباما على أنه سيقوم «بكل ما هو ضروري للنجاح في أفغانستان وجهودنا الأوسع لضرب وتفكيك وهزم (القاعدة)».

ومنذ توليه منصبه كقائد للقوات الأميركية وقوات «الناتو» في أفغانستان في يونيو 2009، اشتهر ماكريستال لدعمه سياسات محددة تعتبر أساسية لمكافحة التمرد. وأول تلك السياسات، والتي جعلت المسؤولين الأفغان يثنون عليه في مقدمتهم الرئيس الأفغاني حميد كرزاي، هي حماية المدنيين الأفغان وجعل ذلك هدفا من بين أهداف القوات الأميركية. ويعتبر إعلان سياسة حماية المدنيين الأفغان والتقليص من عدد ضحاياهم في إطار كسب تأييد الأفغان للمهمة الأميركية ومهمة الحكومة الأفغانية، ولكن جلب بعض الانتقادات لماكريستال من بعض الجنود الأميركيين الذين وجدوا أنفسهم يواجهون مسألة حول طريقة تصرفهم في ساحة القتال. وأشارت مجلة «رولينغ ستون» إلى هذه القضية في البروفايل عن ماكريستال، مشيرة إلى «حيرة» بين بعض الجنود من هذه السياسة، لكن أثنى عليها أوباما خلال مؤتمر صحافي مشترك مع كرزاي في واشنطن الشهر الماضي، قائلا «لا نريد أي ضحية، ضحية واحدة أكثر من الذي نتقبله».

ونشر «معهد الخدمات المشتركة الملكية» (روسي) للدراسات الحربية في لندن تقريرا هذا الأسبوع عن «تأثير ماكريستال»، قائلة إنه كان جوهريا في تغيير مسار الحرب في هلمند، الولاية الجنوبية لأفغانستان التي تعتبر معقلا لقيادة «القاعدة» ومناصريها. وأضاف التقرير أن عملة «مشترك» التي خاضتها الولايات المتحدة مع القوات البريطانية والأفغانية في منطقة نادي العلي في هلمند في فبراير (شباط) الماضي نجحت بسبب «الصبر الاستراتيجي» الذي روج له ماكريستال، بالإضافة إلى كسب تأييد المدنيين بعد انخفاض الحوادث العنيفة بنسبة 15 في المائة. وعلى الرغم من أن الطريق ما زال طويلا لإعلان «النجاح» في هلمناد فإن تغيير المسار وكسر السيطرة الكاملة لطالبان على الولاية يعتبر محطة في سير الحرب.

وخلال جلسة استماع في الكونغرس قبل أسبوعين، عبر بترايوس أيضا عن تأييده لقيادة ماكريستال وطريقة محاربته. ولكن أثيرت تساؤلات كثيرة في تلك الجلسة أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي عن قرار أوباما إعلان موعد يوليو (تموز) لبدء سحب القوات الأميركية الإضافية من أفغانستان، وهو جزء أساسي من استراتيجية أوباما الجديدة ضمن العمل على تولي الأفغان مسؤولية متزايدة لأمنهم للسماح بسحب القوات الأميركية تدريجيا. وشدد بترايوس خلال جلسة الاستماع على أن هذا الانسحاب «مبني على شروط»، مضيفا أنه سيقدم النصيحة للرئيس الأميركية خلال الأشهر المقبلة حول ما إذا كانت تلك الشروط قد استوفيت قبل تطبيق انسحاب القوات الإضافية الأميركية من أفغانستان بحلول الصيف الماضي. ويعتبر السناتور جون ماكين، المرشح السابق للرئاسة وأبرز أعضاء لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، من بين كبار المعارضين لتحديد موعد انسحاب.

وعلى الرغم من تحديد أوباما موعدا لبدء سحب القوات، أكد بترايوس أن هذه «عملية» على مراحل عدة، ولا تعني بدء الانسحاب من أفغانستان. ومن الواضح للكثير من المسؤولين الأميركيين أنه لا يوجد موعد قريب في الأفق لإنهاء الحرب في أفغانستان التي باتت تعتبر «الحرب الطويلة» التي قال الجنرال بترايوس عام 2008 إنها ستستغرق سنوات من أجل هزم «القاعدة». وبينما كان وصف بترايوس هذا للحرب ضد «القاعدة» والشبكات الموالية لها قد جاء عند تولي بترايوس القيادة الوسطى للجيش الأميركي، يجد بترايوس نفسه في موقع مختلف تماما بعد اختيار الرئيس الأميركي باراك أوباما له لقيادة القوات الأميركية والدولية في أفغانستان. وبينما ينتظر بترايوس تأييد الكونغرس لهذا التعيين والمصادقة عليه، على بترايوس أن يتأقلم مع فكرة عودته إلى ساحة القتال بعدما كان قد أنهى عمله في العراق عام 2008 ليتولى منصب القيادة الوسطى بعيدا عن القتال اليومي الجاري، إن كان في أفغانستان أو العراق حيث كان بترايوس قائد القوات الأميركية في العراق بين عامي 2007 و2008.

وهناك الكثير من الآمال معلقة على ترشيح بترايوس لهذا المنصب على الرغم من أن الاستراتيجية المتبعة الحالية لن تتغير في المستقبل المنظور. وقال عضو لجنة القوات المسلحة الأميركية في مجلس الشيوخ السناتور ليندسي غراهام: «الجنرال بترايوس هو أفضل امل لدينا»، بينما توقع السناتور ماكين مصادقة الكونغرس على ترشيحه سريعا ليتولى مهامه هذا الصيف.

وعندما أعلن أوباما عن ترشيح بترايوس لمهام قيادة القوات الأميركية في العراق، لفت إلى أن موافقة بترايوس على هذا المنصب تأتي بـ«تضحية شخصية كبيرة» من قبل الجنرال لقراره ترك أسرته والعودة إلى ساحة القتال. ولكن هناك ربما تضحية أكبر قد يقدمها بترايوس وهي الاستعداد لخوض سباق الانتخابات الرئاسية لعام 2012. وقد دارت تكهنات لسنوات عدة بأن يخوض بترايوس السباق إلى البيت الأبيض بعدما اشتهر بإنجاح استراتيجية الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في زيادة القوات الأميركية في العراق. وبينما لم يعلن بترايوس عن رغبته في دخول المجال السياسي، إلا أنه حتى الآن امتنع عن نفي تلك التقارير التي تشير إلى طموحاته السياسية.

وتأثير الطموحات السياسية الداخلية على الحرب في أفغانستان أو العكس ليس حكرا على بترايوس، إذ إن هناك جهتين للتفكير الأميركي الرسمي حول الحرب في أفغانستان، واحدة حول واقع الحال في أفغانستان وإمكانية هزم «القاعدة» والشبكات الموالية لها، والثانية حول الوضع الداخلي الأميركي ودرجة تأثير تلك الحرب على تأييد الشعب الأميركي للإدارة الحالية وللحزب الديمقراطي الذي يواجه تحديات في الإبقاء على سيطرته على الكونغرس في انتخابات الكونغرس في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وأفاد استطلاع للرأي نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» وقناة «إن بي سي» أمس بأن 45 في المائة من الأميركيين فقط راضون عن قيادة أوباما للبلاد، وهي الأعلى له منذ توليه الرئاسة. وبينما كان أوباما يتمتع بنسبة تأييد فائقة بنسبة 70 في المائة عند دخوله للبيت الأبيض، يعاني اليوم من شكوك بين 48 في المائة من الأميركيين حول قدرته خوض هذه الحرب. وستكون قدرة أوباما على تنفيذ وعده ببدء سحب القوات الأميركية من أفغانستان بحلول يوليو 2011 معتمدة على استقرار نسبي في أفغانستان خلال الأشهر الـ12 المقبلة، كما أن الموعد سيكون قبل 16 شهرا من إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية وقد تحدد إمكانية كسب أوباما ولاية ثانية في رئاسة الولايات المتحدة. ولكن ما يتفق عليه المراقبون، والساسة خلف الكواليس، أنه من غير المتوقع لـ«الحرب الطويلة» ضد «القاعدة» ومناصريها أن تنتهي بنهاية ولاية أوباما الأولى.