آنا بوند

حرب جواسيس تسترجع أجواء الحرب الباردة

الجاسوسة الروسية آنا تشابمان (أ.ب)
TT

بعد صمت لم يدم طويلا أعقبته تصريحات كانت خليطا بين الإعراب عن الدهشة المفعمة بسذاجة مفرطة وبين التهديدات بطرد أميركيين عملا بمبدأ المعاملة بالمثل، استجمعت موسكو قواها واستردت توازنها بعد أن كادت الصدمة تطيح بالكثير من وقارها إثر إعلان واشنطن عن فضيحة اكتشاف «شبكة تجسس روسية» في الولايات المتحدة. فقد كان اختيار توقيت الإعلان عن هذه الفضيحة بالغ القسوة بعد أن جاء مواكبا لعودة الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف من زيارته للولايات المتحدة، وما صاحب ذلك من تصريحات وردية تعرب عن المزيد من الآمال التي كانت ولا تزال تعلقها موسكو على تحسن العلاقات مع واشنطن، وتصديق الكونغرس الأميركي لمعاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية (ستارت - 2). تسارعت ردود الأفعال لتعكس حقيقة تباين مواقف الكثيرين من ممثلي أجهزة القوة وأعضاء النسق الأعلى للسلطة. وكان ذلك مؤشرا للارتباك الذي أصاب مراكز التفكير لدى الأجهزة المعنية، وما دفع القيادة السياسية إلى التريث في الإعلان عن موقفها الرسمي، مكتفية في البداية بإعلان وزير الخارجية سيرغي لافروف حول أن موسكو تنتظر تفسيرا لما يحدث، وإن تعجل الإعراب عن دهشة تحمل في طياتها ملامح إدانة غير مباشرة، حين قال «إن توقيت اختيار لحظة الإعلان عن هذه القضية اُختير بدقة بالغة». ولم يمضِ من الزمن الكثير حتى راحت موسكو وفي إطار لعبة توزيع الأدوار تطلق بالونات الاختبار التي تمثل بعضها فيما سارع بإعلانه نيكولاي كوفاليوف رئيس جهاز الأمن الفيدرالي الأسبق ورئيس لجنة الأمن بمجلس الدوما، حول أن ما قيل عن اكتشاف شبكة التجسس الروسية «قصة بوليسية رخيصة». وظهر آخرون من رجال الأمن والنيابة السابقين ممن راحوا يعزون ما حدث إلى رغبة البعض في إعادة أجواء الحرب الباردة، ويوزعون الاتهامات يمنة ويسرة دون محاولة من جانبهم في تقصي الحقائق. غير أن موسكو عادت وبعد برهة قصيرة لتعترف بأن بعض المتهمين في هذه القضية مواطنون روس، وأنها سوف تطلب السماح لممثلي قنصليتها بزيارتهم دون تحديد لعدد الشخصيات الروسية في القائمة التي تضم 11 شخصا. وقد تلقف البعض هذا الطلب من منظور اعتباره اعترافا غير مباشر، ومحاولة من جانب موسكو لسرعة الوصول إلى المتهمين، بغية إقناعهم بعدم الإدلاء بأي معلومات أو بيانات، وطمأنتهم بأنها سوف تعمل من أجل تسوية المشكلة، والإفراج عنهم في إطار صفقة، سرعان ما تبدت ملامحها، وأفرج الجانب الروسي بموجبها عن بعض المتهمين ممن يقبعون في سجونه بتهمة التخابر لصالح جهات غربية، ومنهم إيغور سوتياغين رئيس قسم السياسة العسكرية التقنية والاقتصادية بمعهد الولايات المتحدة وكندا المتهم بنقل معلومات نووية إلى الولايات المتحدة، وعقيد الاستخبارات الروسية السابق سيرغي سكريبال المحكوم عليه بالسجن 13 عاما بتهمة التخابر لصالح الاستخبارات البريطانية. وقد بدأت السلطات الروسية بالفعل في نقل عدد من المقرر استبدالهم إلى موسكو استعدادا لتنفيذ هذه الصفقة، حسب تصريحات عدد من محامي المتهمين، بل وشوهد أحدهم وهو سوتياغين أحد أبرز هذه الشخصيات في فيينا يوم أمس الخميس، فيما قيل إن أنا تشابمان تقف في صدارة الشخصيات الروسية التي شملتها صفقة تبادل الجواسيس.

وبغض النظر عن مدى أبعاد القضية وصحة ما تضمنته قائمة الاتهامات من محاولات الحصول على معلومات سرية وغسل أموال وتزوير وثائق وجوازات، فقد احتلت القضية صدارة الصحف والمجلات المحلية والعالمية، ومنها أنا تشابمان التي سرعان ما تحولت إلى رمز صارخ للأنوثة والذكاء وصاروا ينسجون حولها الكثير من الحكايات البوليسية بعد أن أطلقوا عليها اسم «الجاسوسة الحمراء» أو «أنا بوند».

فمن تكون هذه الحسناء «الحمراء»؟

إنها آنا البالغة من العمر 28 عاما ابنة فاسيلي كوشينكو الذي ثمة من قال إنه كان ضابطا في جهاز أمن الدولة «كي جي بي»، بينما يشير آخرون إلى أنه كان أحد سفراء روسيا الذين عملوا في كثير من الدول الأفريقية. ويشير اللقب إلى أن الأب أوكراني الأصل، وقد غيرته آنا إلى لقب زوجها المواطن البريطاني أليكس تشابمان. وقالت تاتيانا شوميلينا زميلتها في الدراسة إبان سنوات طفولتها التي قضتها في فولغاغراد على ضفاف نهر الفولغا، إن والدي آنا كانا يعملان في «السلك الدبلوماسي»، وأشارت إلى أنها التحقت بإحدى المدارس المتميزة لأبناء الصفوة في المدينة. وقالت إنها درست معها لمدة عام واحد لكن وقائع ذلك العام لا تزال باقية في ذاكرتها وستبقى لسنوات طويلة وهي التي لم تصادف مثلها أبدا. وأشارت إلى أنها «كانت شخصية باهرة، علمت كل من حولها حسن اختيار الأزياء التي يرتدونها من دون أن تتشدق يوما بأنها ابنة الوسط الدبلوماسي على الرغم من أن الجميع كانوا يعرفون أنها ابنة سفير روسيا في كينيا وأنها تعيش مع جدتها. كانت تفضل (الجينز)، والـ(تي شيرت) الأسود، وتعشق الموسيقى الغربية، فضلا عن أنها كانت بالغة الذكاء».

وكانت آنا انتقلت إلى موسكو للإقامة في أحد المساكن التي قيل إنها خصصت لسكنى العاملين في أجهزة المخابرات والأمن والخارجية الروسية في رامينكي جنوب غربي العاصمة. وقد تلقت تعليمها العالي حتى عام 2005 في جامعة الصداقة بين الشعوب التي كانت تعرف حتى الأمس القريب باسم جامعة باتريس لومومبا، التي أنشاها الاتحاد السوفياتي السابق لإعداد الكوادر الأمنية والتعليمية لبلدان العالم الثالث. التحقت آنا بما يسمى اليوم «نادي شباب الأعمال» في موسكو الذي يشرف عليه الحزب الحاكم «روسيا الموحدة». قال زملاؤها في هذا النادي إنها عملت لبعض الوقت بعد زواجها من المواطن البريطاني في شركة خاصة لبيع طائرات «Net Jets Europe» في لندن وحتى التحقت بالعمل في بنك «باركليز» قبل الانتقال إلى نيويورك حيث أسست هناك شركة خاصة «Property Finder» لتسويق العقارات في كل من الولايات المتحدة وروسيا. وعن «الرفيقة» آنا، قال ديمتري بوروتشكين رئيس «نادي شباب الأعمال» في موسكو أنها كانت تترأس مشروع «Dom.dot.ru» وكانت إلى جانب جاذبيتها المفرطة تتسم بطباع قوية قادرة على فرض رأيها في مواجهة كثيرين من رجال الأعمال الكبار. غير أن كثيرين من زملائها في ذلك النادي لا يزالون بعيدين عن تصديق ما يقال حول تورطها في شبكة جاسوسية، مؤكدين أنها كانت «سيدة أعمال حتى النخاع»، ولم تكن تهتم سوى بحضور المؤتمرات والندوات الاقتصادية واللقاءات مع المستثمرين ورجال التجارة. لكنهم أكدوا أيضا اهتمامها بلقاء ممثلي الدوائر السياسية الأميركية والأوساط الاجتماعية وهو ما قد يكون سببا في وقوعها في دائرة شكوك الأجهزة المعنية. وقالوا كذلك إنها كان تستعد للعودة النهائية إلى موسكو.

مثل هذه الشخصية تحمل الشيء ونقيضه. ومثل هذه المعلومات تبقي الباب مفتوحا أمام مختلف التأويلات وشتى التخيلات والتصورات. وكانت التصريحات توالت مؤكدة أن المشتبه فيهم ليسوا من رجال السياسة أو الدبلوماسية وأن ما حصلوا عليه من معلومات لا يؤثر على الأمن القومي. بل وقطع البعض؛ ومنهم ميخائيل ليونتيف رئيس تحرير مجلة «لكن» وأحد أبرز الشخصيات الإعلامية القومية، وكذلك أليكسي بوشكوف بروفسور العلوم السياسية في «جامعة العلاقات الدولية» بأن المسألة أشبه بفقاعات الصابون ولا أساس لها في واقع الأمر. وتساءل بوشكوف عن ماهية الهدف الذي كان من الممكن أن يبتغيه هؤلاء المتهمون، مؤكدا أن ما قيل يبدو بعيدا عن المنطق، لا سيما أن أحدا لم يعلن بعد عن تفاصيل الاتهامات الموجهة من الجانب الأميركي. وخلص بوشكوف إلى احتمالات عجز أوباما عن السيطرة على ما حوله ومنها ما يستهدفه شخصيا في الوقت نفسه الذي تساءل فيه عن مدى صحة ما يقال حول هشاشة الصداقة التي يقولون إن بوادرها كانت ظهرت بين العاصمتين مع بداية عهد أوباما. غير أن هناك من قال إن المسألة تبدو أبعد ما يكون عن التجسس وتتلخص في غسل أموال كثيرين من ممثلي الحكومة والمخابرات في روسيا. وقال بارابانوف رئيس تحرير جريدة «ذي نيو تايمز» الناطقة بالإنجليزية في موسكو إن الأمر يتعلق بغسل الأموال، وهو ما حاولت بعض المصادر الصحافية البريطانية والأميركية تأكيده حين اتصلت به في أعقاب الكشف عن الشبكة الروسية، حسب قوله. وأضاف بارابانوف أن التجسس لم يكن سوى غطاء لتهريب الأموال بكميات كبيرة إلى الخارج التي كان تخص بعض رجال الحكومة والمخابرات، مشيرا إلى وجود قائمة بأسماء هذه الشخصيات وأرقام هذه المبالغ. وكشفت لاريسا لاتينينا معلقة إذاعة «صدى موسكو» عن وجهة نظر مماثلة حين قالت إن مكتب التحقيقات الفيدرالي اكتشف شبكة «نصابين» وليست جواسيس دولية قاموا بتهريب أموال الميزانية الروسية تحت ستار تمويل شبكة التجسس. ولعل مثل هذه التوقعات حول غسل الأموال التي أشارت إليها مصادر مكتب التحقيقات الفيدرالي وتأكيد أن عقوبتها تبلغ عشرين عاما في الوقت الذي لا تتعدى فيه عقوبة نقل المعلومات (التجسس) سوى خمس سنوات، تكشف احتمالات صحة ما قاله بارابانوف ولاتينينا وتفسر كثيرا من جوانب نشاط «الفاتنة الحمراء» آنا تشابمان، ولكن نظل بعيدين عن إصدار الأحكام في هذا الشأن.

وكانت الأوساط السياسية والأمنية، بل والاجتماعية، وبإيعاز من عَلٍ، كما يقال، استبقت الأحداث بأحكام صدر بعضها موغلا في التطرف على غرار ما قاله فلاديمير كوليسنيكوف النائب السابق للنائب العام ونيكولاي كوفاليوف الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات، وكلاهما عضو في «الدوما» حول احتمالات أن ترد موسكو بالمثل على الإجراءات الأميركية التي قالا إنها من ترسانة الحرب الباردة. وثمة من يقول إن مثل هذا الشطط في التقديرات يعكس قدر التباين في آراء وتوجهات ممثلي أجهزة القوة في الساحة الروسية مما يعني ضمنا أن الساحة الروسية لم تخل بعد من أنصار الفكر القديم على الرغم من انتسابهم إلى الأجهزة التي يظل فلاديمير بوتين رمزها الأول في النسق الأعلى للقيادة السياسية الروسية. وذلك مما يدفع البعض في موسكو إلى اعتبار أن ديمتري ميدفيديف هو الذي قد يتأثر أكثر من غيره من احتمالات تفاقم المشكلة وهو الذي أعلن أكثر من مرة عن أنه لا يستبعد خوض الانتخابات الرئاسية المرتقبة في 2012. ولذا، فإن ما صدر مؤخرا حول تقدم ميدفيديف عن بوتين في استطلاعات الرأي الدورية التي تجريها «الصحيفة المستقلة» للمرة الثانية خلال عامين أي منذ جاء ميدفيديف إلى عرش الكرملين، يدفع إلى ضرورة التريث وعدم استباق إصدار الأحكام على ضوء ما قاله ألكسندر كونوفالوف مدير معهد التقديرات الاستراتيجية والتحليل حول أن فضيحة التجسس تنال من مكانة ميدفيديف لصالح بوتين الذي يظل صاحب الكلمة المسموعة في أوساط العسكريين ورجال الأمن والمخابرات على عكس ميدفيديف الذي يقولون إنه وقع أسير التوجهات الأميركية وحملات الضغط ضد إيران. ومع ذلك، فهناك من أكد أن الدخان كثير ولا يمكن أن يكون بلا نار. وكان آخرون اعترفوا بصحة ما أعلنته المصادر الأميركية حول أن عددا من هؤلاء المتهمين مواطنون روس قام بعضهم بتزوير هوياته، بينما أشارت بعض الصحف الروسية ونقلا عن مصادر أميركية إلى أن سيرغي تريتياكوف السكرتير الأول السابق في البعثة الروسية لدى الأمم المتحدة ونائب ممثل جهاز المخابرات الروسية في الولايات المتحدة الذي انتقل للعمل في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي في عام 2000 يمكن أن يكون وراء الكشف عن شبكة التجسس الروسية بعد أن عمل لمدة عامين كعميل مزدوج.

ومع ذلك، فالكرة، وكما يقال، تظل اليوم في الجانب الروسي من الملعب في الوقت الذي أكدت فيه بعض المصادر احتمالات تأثر العلاقات الثنائية وتجميد بعض ما توصل إليه الرئيسان من اتفاقات أو الإبقاء عليه طي الكتمان حسب توقعات فيكتور كريمنيوك مدير «معهد الولايات المتحدة وكندا». غير أن ما قاله ميخائيل لوبيموف جنرال الأمن السابق الذي عمل في جهاز أمن الدولة «كي جي بي» حول أن التجسس مسألة طبيعية وسوف تتواصل بقدر استمرار وجود أجهزة المخابرات والاستطلاع في كل البلدان، وأن الولايات المتحدة وروسيا ليستا استثناء، يعني أيضا أن خيوط القضية متشابكة ومعقدة وتحتمل كل النهايات السعيدة وغير السعيدة.

وبغض النظر عن مدى صحة الاتهامات التي كالتها المخابرات الأميركية لموسكو وتداولتها وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، فإنه يبدو واضحا أن توقيت الإعلان عن هذه الفضيحة الذي اختير بعناية ودقة كما قال وزير الخارجية الروسية، يعني في طياته أن هناك من يستهدف النيل من أي من الزعيمين؛ ميدفيديف، أو أوباما، أو كليهما معا. وكانوا قالوا إنه من غير الطبيعي أن تعلن وزارة العدل الأميركية عن هذه القضية التي كشفوا عن أنهم يتابعونها في الولايات المتحدة منذ ما يقرب من عشر سنوات في مثل هذا التوقيت البالغ الحرج في أعقاب مباحثات ميدفيديف مع أوباما وقبيل بدء مداولات التصديق على معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية «ستارت - 2» في الكونغرس الأميركي. غير أن فيدور لوكيانوف رئيس تحرير المجلة الأكاديمية «روسيا في السياسة العالمية» كان أكثر دقة لدى تناوله هذه المسألة حين قال إنه كان أمام وزارة العدل الأميركية خيارات ثلاثة فرضت عليها اختيار الإعلان عن هذه القضية: إما قبل زيارة ميدفيديف للولايات المتحدة، أو خلالها، أو بعد انتهاء الزيارة وعودة الرئيس الروسي إلى موسكو. وكان خيار الإعلان بعد انتهاء الزيارة هو الأخف وطأة على حد تعبيره.

وعلى الرغم من أن المتحدث الرسمي باسم رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين، كان قد سارع بتأكيد أن بوتين لن يتناول هذه القضية في لقائه مع الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، فإنه (أي بوتين) استهل اللقاء بقوله: «لقد جئت إلى موسكو في الوقت المناسب. الشرطة لديكم هناك أفرطت في عربدتها وراحت تزج بالناس إلى السجون. أتوقع جادا ألا يَلحق الضرر بما حققناه خلال الفترة الأخيرة من إنجازات في علاقات البلدين بسبب الأحداث الأخيرة». وبعد صمت لم يدم طويلا توجه إلى ضيفه قائلا: «أُعرب عن أمل كبير في أن يستوعب ذلك كل من يحسن تقدير العلاقات الروسية - الأميركية». غير أن بوتين لم يتلق ردا على ما قاله، وإن أشارت المصادر إلى أن كلينتون رفض التعليق حول هذه القضية، وهو الذي يعمل كثيرون من رجاله السابقين في إدارة أوباما.

القضية إذن ألقت بظلالها على مسيرة العلاقات التي كانت تشهد انفراجة لا بأس بها وإن بدا حرص الجانبين واضحا على احتوائها. فبينما تعمد الرسميون في موسكو عدم تصعيد الموقف والتخفيف من ردود الفعل واقتصرت تصريحاتهم على المفردات التقليدية، انطلقت الأبواق الإعلامية والبرلمانية لتكيل الاتهامات لمن وصفوهم برموز الماضي والحرب الباردة وخصوم تحسن العلاقات مع موسكو. أما ممثلو البيت الأبيض والخارجية الأميركية، فقد اكتفوا بالإعراب عن الأسف مقرونا بالأمل في ألا يترك الحادث آثاره على العلاقات بين البلدين، وأن يتواصل التعاون الناجح مع روسيا، حسب تعبير فيليب جوردون نائب وزيرة الخارجية الأميركية، الذي أشاد بالتطور الملموس في هذه العلاقات على مدى العام ونصف العام الأخير، بل وأعلنت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أن قضية الجواسيس الروس لن تضر بتطور العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. وقالت في مؤتمر صحافي مشترك جمعها مع نظيرها الأوكراني قسطنطين غريشينكو خلال زيارتها الأخيرة لكييف: «بالنسبة لمسألة الجواسيس، فإن التحقيق مستمر، ولن أتناول بالتحديد نتائجه، لكني أود القول فقط إننا نعمل بإخلاص لإقامة علاقات جديدة إيجابية مع روسيا؛ مثل هذه العلاقات تصب في مصلحة الولايات المتحدة»، لكنها أشارت في الوقت نفسه إلى أن الولايات المتحدة ستتخذ الإجراءات الضرورية للدفاع عن أمنها. كما أعلن مارك تونير نائب المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأميركية أن القيادة الأميركية لم تتخذ أي قرار حول طرد أي من الدبلوماسيين الروس العاملين في البلاد.

غير أن هناك في موسكو من لا يزال يصر على أن واشنطن اختارت الطريق الخطأ في التعامل مع هذه القضية. ومن هذا المنظور، استشهدت القناة الثالثة للتلفزيون الروسي، وبإيحاء من الدوائر المعنية، حسبما نعتقد، بدميتري سايمنز خبير العلاقات الدولية الروسي الأصل المقيم في نيويورك، الذي قال إن أوباما الذي نجح في استمالة الكرملين إلى العقوبات ضد إيران وأقنعه بتغيير موقفه الرافض في ما سبق للاستمرار في استيراد لحوم الدجاج الأميركية ودفع ملايين الدولارات لشراء طائرات «بوينغ» الأميركية، لم يستطع أو لم يرغب في الاتصال بنظيره الروسي ميدفيديف لاحتواء القضية وتسوية المشكلة من دون ضجيج. وكشف معلق القناة الثالثة عن أن موسكو سبق أن اعتقلت جاسوسا أميركيا اتهمته بجمع المعلومات الخاصة بأسلحة الصواريخ الروسية وحكمت عليه بالسجن لمدة عشر سنوات، لكن الرئيس السابق فلاديمير بوتين أبدى قدرا كبيرا من التسامح وسلم واشنطن من أرسلته للإضرار بأمن الدولة الروسية.

ومع ذلك، فقد حرص الرئيس ميدفيديف على أن يودع تهنئته بمناسبة العيد القومي للولايات المتحدة كثيرا من الأمل في احتواء المشكلة والمضي قدما نحو مزيد من التقارب. أكد ميدفيديف في برقيته التي بعث بها إلى الرئيس أوباما أمله في استمرار تطور العلاقات الروسية - الأميركية بشكل مطرد وأكثر فعالية. أشار إلى أن المساعي المشتركة أسفرت عن تقدم كبير في تعزيز الاستقرار الاستراتيجي السابق والحد من انتشار الأسلحة النووية. وقال إن ما تحقق من تقدم صار ممكنا بفضل الإصرار المتبادل والتمسك بالحوار المتكافئ والاستعداد لمراعاة مصالح الآخر. وإذ أكد عظيم ارتياحه لنتائج زيارته الأخيرة للولايات المتحدة وأهمية فتح مجالات جديدة للتعاون، أشار ميدفيديف إلى أن محاولات التقليل من أهمية ما تحقق من نجاح على طريق العلاقات الروسية - الأميركية والحيلولة دون استمرار التعاون والشراكة لا بد من أن تلقى الفشل. وأعرب الرئيس الروسي عن يقينه من أن علاقات حسن الجوار البناءة تتفق ومصالح الشعبين والأمن والاستقرار في كل العالم. وأشار إلى أن ذلك يجزم بعدم وجود أية آفاق أو فرصة للنجاح أمام محاولات التقليل من أهمية ما تحقق بين الرئيسين وما أنجزاه في إطار روح الشراكة. وذلك تلميح أقرب إلى التصريح يوحي بكثير من الأمل في تجاوز ما يتناثر على الطريق من أشواك وعقبات.