مشاكسة تونس

مية الجريبي.. المرأة التونسية الوحيدة التي ترأس حزبا سياسيا معارضا في البلاد

TT

هي الأمينة العامة الوحيدة لحزب سياسي تونسي وهي المرة الأولى التي يقع فيها الإجماع على امرأة تونسية لتولي تسيير دواليب حزب سياسي سواء في الحزب الحاكم أو في المعارضة. وهي إلى ذلك، أمينة عامة لحزب سياسي معارض. هي مية الجريبي الأمينة العامة الحالية للحزب الديمقراطي التقدمي.

إذا قابلتها وتجاذبت معها أطراف الحديث تتأكد من أنك أمام امرأة «شبعت» من عوالم السياسة وتمكنت من أروقتها الخلفية. تقنعك بالقليل من الكلام أنها صاحبة رسالة ومستعدة تمام الاستعداد للدفاع عنها، ولكن بطريقة سلمية سلسة لا تعتمد على أي شكل من أشكال الإكراه.. عنيدة، مشاكسة، متمسكة برأيها تدافع عنه بأساليب المحاججة العقلانية المنطقية من دون إكراه.. لا تثور على منتقديها ومخالفيها، وتوفر لهم في المقابل أكثر من مبرر لتلك المواقف، ولكنها مع ذلك توصل إلى محدثها كثيرا مما تريده من دون أن تصدمه برأيها المخالف دفعة واحدة.. آراؤها ومواقفها تلقى الاحترام من داخل الحزب ومن الأحزاب المعارضة الأخرى وربما من شق مهم كذلك من الحزب الحاكم..

التربية الاجتماعية التي نشأت عليها التي كانت تعتمد على الحوار في المقام الأول وإمكانية الاختلاف في المقام الثاني هي التي تفرعت بها بعد ذلك في مجاهل السياسة.. أبوها كان من مناصري الزعيم التونسي صالح بن يوسف الذي وقف موقف الند للند للزعيم بورقيبة إبان الحصول على الاستقلال سنة 1956 وكان من المطالبين بالاستقلال التام عن فرنسا وعدم مسايرة بورقيبة في سياسة المراحل التي كان ينادي بها. وهي التي، حسب بورقيبة، تؤدي إلى تحقيق الأهداف الكبرى ولكن على مراحل.. وربما استوعبت مية الدرس جيدا من الوالد؛ إذ إن بورقيبة قضى تماما بعد الاستقلال على «الجناح اليوسفي» في السلطة كما كان يسمى، وقد شاهدت كل التطورات الممكنة مباشرة ومن خلال متابعة والدها للأنباء الواردة خلال فترة الستينات من كل حدب وصوب..

ولدت الجريبي سنة 1960 في العاصمة التونسية وتربت على قيم السبعينات والثمانينات المطالبة في الأساس بمجموعة من الحريات الفردية والجماعية التي تقود إلى العدالة والمساواة. وقد ساهمت السنوات التي قضتها في الجامعة التونسية بمدينة صفاقس (350 كلم جنوب العاصمة) في احتكاكها بالأجواء الطلابية. وتمكنت من دخول المجلس العلمي للكلية من دون أن تكون منتمية لأي تيار سياسي في الجامعة التونسية وهذا الأمر عادة ما يكون مستحيلا لأن الترشيحات تتم على أساس التوازنات السياسية بين مختلف الأطراف المكونة للخارطة السياسية في أي جزء من أجزاء الجامعة.. تقول مية الجريبي عن تلك الحقبة التي خرجت منها سالمة سنة 1980 - على حد تعبيرها - إن العنف الطلابي يعد مسألة صادمة لها كما عبرت عن ذلك، فالحياة يجب ألا تكون مبنية على العنف، فالاعتماد على الإنصات والحوار والأريحية قد تكون نتائجه أفضل.. وتؤكد أن التجاذب العكسي للتيارات الإسلامية والتيارات اليسارية خلال تلك الفترة أنهى كثيرا من مقدسات الذات البشرية التي انتفى منها كثير من القيم الإنسانية النبيلة.. وتقول مية كذلك: «خرجت من الجامعة التونسية بمبدأين أساسيين؛ أولهما محدودية الأطر التي ينشط فيها الطلبة التونسيون الذين يعاني أغلبهم من التشتت، وثانيهما التوجه نحو الحياة المدنية بالانخراط في أنشطة الرابطة التونسية لحقوق الإنسان».

بعد فترة قليلة كانت الجريبي مشاركة في نقاشات بعث حزب التجمع الاشتراكي في صائفة 1983 التي كان من أهدافها الأساسية تجميع التيارات اليسارية المشتتة والانطلاق من الواقع التونسي بمعنى المناداة بـ«اشتراكية تونسية» تتجاوز التشتت الآيديولوجي الذي طغى على اليسار لعقود من الزمن. وكان التفكير متجها نحو الحصول على وسيلة إعلامية تساهم في بناء حقول من التواصل مع مختلف الأطراف، وهو ما تم بالفعل في ديسمبر (كانون الأول) 1983، حيث بعثت صحيفة «الموقف» التي ما زالت تصدر إلى الآن إلى جانب التنظيم في مجموعة سياسية متناسقة.. وكانت المجموعة التي أطلقت الصحيفة تضم على وجه الخصوص عمر المستيري وسهام بن سدرين وعبد اللطيف الهرماسي وأحمد نجيب الشابي ومية الجريبي وغيرهم من الأسماء الناشطة في المجال السياسي والحقوقي.

عن علاقة الجريبي بصحيفة «الموقف» وصحافييها، يقول إسماعيل دبارة، أحد الصحافيين الشبان، إن الجدية تطبع كل تحركات الأمينة العامة للحزب الديمقراطي التقدمي، ولعل ذلك مرتبط بحجم الالتزامات السياسية للحزب.. ولكن هذا - يقول دبارة - لا ينفي احترامها لكل العاملين في الصحيفة وعدم التدخل المباشر لفرض وجهة نظر معينة على هيئة التحرير وتبدي مع ذلك بعض الملاحظات بكل لطف وتتقصى عما وراء بعض الأخبار من دون أن تتدخل في عمل الصحافيين.

وكانت الأحداث التي رافقت بداية سنة 1984 والمتمثلة في «أحداث الخبز» أكثر من مؤثرة، حيث شهدت إعدامات سياسية كان لها الأثر الكبير على شخصية الجريبي التي وقفت على سبب مهم من أسباب تلك الأحداث المتمثل أساسا في التفاوت بين الجهات.

وعاشت الجريبي التقلبات السياسية الكبرى التي عرفتها الفترة الفاصلة بين 1984 و1987 سنة وصول الرئيس التونسي الحالي بن علي إلى الحكم. تقول الجريبي: «لقد تعاطينا بإيجابية مع التغيير الحاصل في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من سنة 1987، وكنا أول حزب يصدر بيانا سياسيا عبر من خلاله عن استبشاره بالتغيير الحاصل. وفي سنة 1988 تحصل التجمع الاشتراكي على الترخيص القانوني».

وشارك الحزب في الانتخابات التشريعية التي جرت سنة 1989، بعدها تمكنت الجريبي من دخول المكتب السياسي للحزب وأسند لها ملف الإعلام الحزبي وانطلقت حينها في العمل التنظيمي. تقول الجريبي حول هذا الموضوع: «أزعم أنني قريبة من المناضلين داخل الحزب، ولدي فكرة كبيرة عن انتظاراتهم ومشكلاتهم أيضا». لذلك عندما طرح اسم الجريبي لمنصب الأمانة العامة للحزب لم يجد معارضة تذكر، وكان محمد القوماني عضو المكتب السياسي للحزب (الذي انسحب منه) المرشح الوحيد لذاك المنصب. وتقول الجريبي في هذا الشأن: «تمنيت لو أن القوماني واصل معي اللعبة السياسية وقمنا بصراع برامج قدمناها إلى القواعد السياسية ليتم الاختيار على أساسها، ولكن القوماني انسحب من السباق وتركني وحيدة وأجهض بالتالي الفرصة الوحيدة التي يمكن أن نمارس من خلالها الديمقراطية والاحتكام إلى صندوق الاقتراع ليتم الحسم على مستوى داخلي قبل الوصول إلى الحزب الحاكم وبقية الأحزاب المعارضة».

الجريبي كانت سنة 2009 على موعد تاريخي لتترشح كأول امرأة تونسية لمنصب رئاسة الجمهورية بعد أن أقصي الأمين العام السابق للحزب الديمقراطي التقدمي أحمد نجيب الشابي بموجب تعديل دستوري منعه من الترشح لعدم توفر مجموعة من الشروط التي كانت ضرورية لترشحه لمنصب الرئاسة. وكانت أمام فرصة تاريخية لعلها لن تتكرر إلا بعد عقود أخرى من الزمن، ومع ذلك لم تتحمس البتة للعملية وصرحت بأن مسألة الترشح ليست مرتبطة بجنس المرشح بل بمجموعة من الشروط الدنيا لممارسة الديمقراطية والاحتكام الصحيح لصندوق الاقتراع، وأن منصب الرئاسة لن يغريها إذا لم تكن العملية الانتخابية في مجملها قائمة على النزاهة والشفافية وحرية الاختيار. وفسر البعض الآخر هذا الموقف بـ«المودة» التي تربط بين أعضاء الحزب الواحد والمعاناة المعيشة بينهم خلال عقود من الزمن مما يجعل عمليات الطعن في الظهر غير مقبولة وغير منتظرة على الأقل بين الأعضاء المؤسسين للحزب.

عن الجريبي يقول هشام الحاجي عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية المعارض: «لا أحد يشك في التجربة النضالية لمية الجريبي، ولكنها تبقى مطالبة بوضع بصمتها الخاصة على مسار الحزب الديمقراطي التقدمي لأنها لم تخرج من جلباب الأمين العام السابق للحزب»، ويعني بذلك أحمد نجيب الشابي. الحاجي قال أيضا إنها مطالبة بتنفيذ استراتيجية منفتحة على بقية الأحزاب المعارضة حتى لا تبقى بمفردها في واد والبقية في واد ثان.

بكلام فصيح، تؤكد الجريبي من دون ديماغوجية سياسية ملحة على أن تونس قادرة على إنتاج ألف زهرة وزهرة، وهي في حاجة أكيدة إلى الإصلاح السياسي لكي توفر لشعبها حياة سياسية أفضل، فالظروف المتوافرة حاليا في الغاية من الصعوبة والانغلاق وهي تسير في غير اتجاه المشاركة الواسعة، وهي العبارة التي غالبا ما ترددها الجريبي في الندوات الصحافية الكثيرة التي عقدتها. تقول بصريح العبارة: «نحن نؤمن بالتغيير السلمي الديمقراطي ونحتكم من دون هوادة إلى صناديق الاقتراع». وتضيف: «كل العناصر التاريخية والاجتماعية متوفرة في تونس، وبالإمكان في كل الحالات الوصول إلى التحول السلمي لنظام الحكم، ولكن ذلك مرتبط في الأساس بالإرادة السياسية للماسكين بالحكم، ونحن ندرك تماما أن شقا مهما من التجمع الدستوري الديمقراطي، الحزب الحاكم، ما زال يؤمن بعقلية الحزب الواحد على الطريقة السوفياتية التي ذهبت إلى غير رجعة».

ترى كذلك أن عزوف الشباب التونسي عن العمل السياسي بما هو عليه الآن يؤكد أن خللا ما لا يزال حاضرا في العملية السياسية. والمفارقة أن الشباب التونسي من أنشط الشباب في مجال استعمال الإنترنت والتحاور مع شباب العالم، فهو يمارس اليوم السياسة على المستوى الافتراضي، ولكنه بعد سنوات قليلة سيكون جاهزا لممارسة السياسة على أرض الواقع وهو ما يجب أن يكون الجميع جاهزا له ومنذ الآن.

التونسية المتخصصة في علم البيولوجي دخلت السياسة من بابها الكبير ولعلها خبرت تلك العوالم كما خبرت في السابق الأجسام البشرية. تقول إنها تعرفت منذ بداية الثمانينات على الصحافي التونسي حسيب بن عمار في صحيفة «الرأي» وهو الذي أورثها شخصية تؤمن بالحوار وبالروح الديمقراطية ولن تحيد عن هذا النهج خلال الفترة القادمة. الجريبي قضت أربع سنوات في العمل التطوعي لصالح منظمة الأمم المتحدة للطفولة المعروفة باسم «اليونيسيف»، فقد دخلت في تجربة قصيرة بعقد لا تتجاوز مدته الستة أشهر وذلك سنة 1986 وكانت مكلفة بجمع التبرعات لفائدة تلك المنظمة، ومن خلالها اقتربت من الفئات الاجتماعية التونسية، واقتربت منها. وانتمت بعد ذلك إلى جمعية «صوت الطفل» وجمعية «مكافحة السرطان»، كما اشتغلت مع مجموعة من النساء التونسيات تهدف إلى تأهيل نساء الأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة على غرار حي الملاسين وحي التضامن، وهي إلى الآن لا تزال تؤمن بأن المرأة في كل مكان تعد رافعة من رافعات التنمية داخل العائلة، فهي التي تضع مختلف أفرادها على السكة الصحيحة. هذه الحكمة تعلمتها من والدتها التي لم تكن تشتغل ومن والدها الذي كان إطارا بوزارة الفلاحة التونسية، فالمرأة، ممثلة في والدتها، كانت الطرف المعدل للسياسات الاقتصادية داخل العائلة، وقد نجحت في المرور بها إلى بر النجاة، كما تقول الجريبي.

وقد تربت داخل العائلة أختا لخمسة أبناء (4 بنات وطفلان) وكانت مدللة من قبل مختلف أفراد العائلة حتى إنها كانت تهتم بالحديقة الجانبية للمنزل أكثر من اهتمامها بالمطبخ ومكوناته المختلفة، ولكن دلال العائلة قد يكون مختلفا تماما عن الدلال في السياسة الذي قد يكون ضربا من ضروب المستحيل. هكذا هي الدنيا تغدق علينا الدلال فترة، وتبعث لنا بوجع الرأس فترة أخرى.