جواسيس.. مدى الحياة

مركز «نروك» يشرف على توطين الجواسيس الأجانب الهاربين إلى أميركا.. والبعض يشكو من خرقه وعوده

TT

في الأسبوع الماضي، كشف مسؤولون في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) أنها، بالإضافة إلى شهرام أميري، الخبير النووي الإيراني الذي قالت إنه تجسس لصالحها، ونقلته إلى أميركا السنة الماضية (الذي عاد إلى إيران الأسبوع الماضي)، نقلت جاسوسا إيرانيا آخر إلى أميركا السنة الماضية. وقال المسؤولون إن كلا من أميري والجاسوس الثاني نقلا إلى أميركا سرا بعد أن شكا في أن وزارة الاستخبارات والأمن الإيرانية ربما تتابعهما، ثم قالا إنها اكتشفت تجسسهما، وإنهما يتوقعان اعتقالهما في أي وقت.

وقال المسؤولون إنه، بالإضافة إلى الاثنين الذين نقلا إلى أميركا السنة الماضية، نقل ستة جواسيس إيرانيين من إيران إلى أميركا خلال السنوات القليلة الماضية، وإن كل واحد منهم منح مبلغا كبيرا من المال، رصد في حسابه في بنك أميركي من دون أن تتصرف فيه «سي آي إيه». واختار المكان الذي أراد أن يعيش فيه. وقالوا إن أميري منح خمسة ملايين دولار وضعت باسمه في بنك أميركي. لكن، بعد أن عاد إلى إيران، لم يعد المبلغ ملكه، وذلك بسبب قانون مقاطعة إيران الذي يمنع البنوك الأميركية من التعاون مع بنوك إيرانية.

وقال مسؤول أميركي: «بعد أن يأتوا إلى هنا، ونوفي بوعودنا نحوهم، لا نتحمل مسؤولية ما يفعلون». وأضاف: «ليست عندنا متنزهات تقاعد. يختار كل واحد ما يريد».

وقال المسؤول إن أغلبية الذين نقلوا خافوا من اكتشافهم، وإن واحدا منهم «تصرف بغباء» في اتصالاته مع ضباط «سي آي إيه»، وواحدا «بقي لفترة أكثر مما كنا نريد له».

وقالت «واشنطن بوست» إن معاملات «سي آي إيه» مع جواسيسها، إيرانيين وغير إيرانيين، ونقلهم إلى أميركا، يعتمد على قوانين منذ سنوات الحرب الباردة ويشرف عليها مركز إعادة التوطين التابع للوكالة «نروك».

وقال مراقبون وصحافيون في واشنطن إن نشاطات «نروك» تظل سرية. لكن، من وقت لآخر، يكشف بعضها، وإن الإيراني أميري ربما اختلف مع مركز «نروك» ومع قوانين الاستيطان في أميركا، وإن أميري، مثل آخرين قبله، ربما سيكشف بعض أسرار «نروك».

وقال تقرير في مجلة «يو إس نيوز» عنوانه «احلبوهم ثم اتركوهم: جواسيس هربوا ثم قالوا إن أميركا لا تحترم كلمتها»: «عبر سنوات، قدم جواسيس أجانب معلومات هامة إلى أجهزة الاستخبارات الأميركية لا تقدر على جمعها مليارات الدولارات تصرف على أقمار فضائية وسيوبر كومبيوترات».

وأشارت المجلة إلى أن سوق التجسس لصالح «سي آي إيه» زادت خلال سنوات الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي. وزاد نشاط «نروك» لإيواء الجواسيس في أميركا. مثلا:

في سنة 1982، هرب جاسوس روسي، وكشف أن روبرت هانسون، ضابط في «إف بي آي» يتجسس لصالح الروس. وتولت «نروك» ترتيب إعاشته وتوطينه.

وفي سنة 1987، هرب جاسوس تايواني، وكشف برنامجا نوويا في تايوان موجها نحو الصين، وكان سيهدد العلاقات بين أميركا والصين. وأيضا، تولى «نروك» إيواءه وتوطينه.

وقال التقرير إنه، عبر السنوات، تواجه الاستخبارات الأميركية مشكلات في تجنيد جواسيس عرب ومسلمين، خاصة لجمع معلومات عن حماس الفلسطينية، وحزب الله اللبناني، ناهيك بنقل هؤلاء الجواسيس إلى أميركا.

لكن، هناك حالات تجسس ونقل ومساعدة:

في سنة 1983، نقلت وساعدت الفلسطيني عدنان عوض. كان عوض ضابطا في جيش التحرير الفلسطيني، وكان أفشل محاولة لتفجير فندق يهودي في جنيف وتطوع وصار جاسوسا للاستخبارات الأميركية. وقدم معلومات عن محمد رشيد، الذي حاول، في سنة 1982، تفجير طائرة «بان آم» أميركية فوق المحيط الهادي، في رحلة من طوكيو إلى هونولولو.

وفي سنة 1986، نقلت وساعدت عمر القاضي، طيار في الخطوط الجوية الأردنية، وكان مصدر معلومات في حادث خطف فدائيين فلسطينيين لطائرة أردنية وتفجيرها في مطار بيروت سنة 1985.

وفي سنة 1994، نقلت وساعدت خضر حمزة، عالم نووي عراقي كان يتجسس لها عن أسلحة العراق النووية، ثم نقلت عائلته، واستعملته في حملتها حول امتلاك العراق أسلحة نووية، تمهيدا لغزو العراق سنة 2003.

وفي سنة 2000، نقلت مسلمين في شرق أفريقيا كانت لهم صلة بمنظمة «القاعدة»، وقدموا معلومات عن تفجير السفارات الأميركية هناك.

لكن، اشتكى كثير من الذين هربوا، عرب ومسلمين وغيرهم، من أن «سي آي إيه» نقضت كثيرا من العهود معهم. من بين الذين اشتكوا إلى مجلة «يو إس نيوز» الأردني القاضي؛ قال إن «سي آي إيه» وعدته بمليون دولار ووظيفة ممتازة مقابل معلومات عن خطف الطائرة الأردنية، خاصة عن فواز يونس، لبناني تابع لحركة أمل، وقاد العملية. وساعد القاضي «سي آي إيه» على خطف يونس عندما كان في قبرص، وعلى نقله إلى أميركا. لكن القاضي قال: «أوفيت بوعدي، وقدمت معلومات عن فواز يونس، وشهدت ضده في المحكمة. لكن، لم توف الحكومة الأميركية وعدها». وأضاف: «وعدوني بمليون دولار، ومنزل مؤثث، وسيارة، وممتلكات أخرى. بسبب الوعد، تركت وظيفة محترمة في الأردن، ومعاشا، وترقية لأكون الطيار الخاص لجلالة الملك. تركت وطني، وأجلت زواجي، وغيرت اسمي وهويتي، وفقدت حريتي، وعائلتي، وجئت إلى بلد جديد، ولغة جديدة، وثقافة جديدة».

وفي تقرير عن القاضي في مجلة «صالون» على الإنترنت، قال محاميه مارك زيد: «نعم، نفذت الحكومة الأميركية العدالة ضد الخاطف يونس. لكنها لم تنفذ العدالة بالنسبة لشاهدها الرئيسي في قضية يونس». وأضاف المحامي: «يعيش القاضي في خوف وذعر مستمرين».

لكن، قال متحدث باسم «سي آي إيه»: «يبدو أن هناك خطأ في الفهم. نحن لا نقول: (مكافأة مليون دولار)؛ نقول: (مكافأة تصل إلى مليون دولار). وهناك فرق كبير».

وأيضا، اشتكى عدنان عوض، جاسوس تفجير طائرة «بان آم» في المحيط الهادي. وقال إنه قدم معلومات عن محمد رشيد، قائد العملية. وقال: «بلغت سوء معاملة الأميركيين لي أنني فكرت في عدم الشهادة ضد محمد رشيد». في ذلك الوقت، قالت زوجة عدنان عوض الأميركية إنه «شخص غريب وأعيش معه في حذر». وفي وقت لاحق، تعاون عوض مع ستيف أميرسون، صحافي أميركي، في كتابة كتاب عن قصة حياته اسمه «تيروريست» (إرهابي). وذلك مقابل «مكافأة» قال إنه كان يحتاج لها لأن «سي آي إيه» لم توف بوعدها معه بأن يعيش «حياة مريحة في أميركا».

وبالنسبة للعراقي خضر حمزة، فقد وجد بعد هروبه مساعدات من مركز «نروك». وسهلت أميركا تهريب عائلته من العراق، وساعده المركز في نشر كتاب «صانع قنابل صدام» بالتعاون مع جيف شتاين، صحافي أميركي. ثم أسس «مجلس شؤون الشرق الأوسط» في نيويورك. وقدم شهادات أمام الكونغرس تأييدا لغزو العراق. وفي سنة 2004، بعد غزو العراق، اختفى هو، واختفى المركز.

وحسب تقرير في دورية «فورين بوليسي» (سياسة خارجية) التي تصدر في واشنطن، قال ديفيد أولبرايت، عالم نووي أميركي يدير مركز «سيانس آند إنترناشيونال سيكيوريتي» (أي إس آي إس) في واشنطن إن حمزة صار يدير محطة وقود للسيارات في فريدريكزبيرغ (ولاية فرجينيا). وانضم إلى أحمد الجلبي، المعارض العراقي الذي تعاون مع الاستخباراتيين والعسكريين الأميركيين لغزو العراق والإطاحة بالرئيس صدام حسين في سنة 2003. ثم طلب التعاون مع أولبرايت، الذي قال إنه رفض الطلب لأن حمزة «صار يبالغ في أسلحة العراق النووية. صار أكبر مبالغ نووي».

وعلى الرغم من أن الفلسطيني عوض، والأردني القاضي، والعراقي حمزة اكتفوا بالشكوى، كان غيرهم من الجواسيس الهاربين من أوطانهم أكثر شجاعة، وقاضوا «سي آي إيه».

مثل بوريس كارلوف، جاسوس روسي نقلته «سي آي إيه» إلى الولايات المتحدة، ثم اختلف معها، ورفع قضية وصلت إلى المحكمة العليا (التي تفسر الدستور).

وأوضحت وثائق المحكمة أن مركز «نروك»، كما قال كارلوف، لم يوف بكل وعوده له ولزوجته التي جاءت معه إلى أميركا، وأن المركز نقلهما إلى سياتل (ولاية واشنطن) حسب طلبهما. وغير اسميهما، وطلب منهما أن يكونا متقاعدين، اعتمادا على ثلاثين ألف دولار سنويا (2.500 دولار في الشهر).

لكن، بدأ الاختلاف عندما قرر كارلوف أن يبحث عن عمل ليقدر على «الاندماج في المجتمع الأميركي». لكن، قالت «سي آي إيه» إن العمل الإضافي لم يكن جزءا من الاتفاقية. وقاضاه.

ومثل بوريس كورزاك، جاسوس بولندي، أيضا رفع قضية ضد مركز «نروك». وحسب أوراق القضية، وعدته «سي آي إيه» بالجنسية الأميركية له ولزوجته ولولدهما، وبتعليم الولد. وفي وقت لاحق، ترك التعاون مع «نروك»، ووجد وظيفتين له ولزوجته، وحصلا على الجنسية الأميركية، وقالا، تشفيا في «نروك»، إنهما فعلا ذلك من دون مساعدة «نروك».

وهناك جواسيس فضلوا ألا يشتكوا، وألا يرفعوا قضايا، وأن يعودوا إلى أوطانهم: في سنة 1985، هرب الروسي فيتالي يورشنكو إلى الولايات المتحدة بمساعد «سي آي إيه» بعد أن كان يتجسس لها وهو يدير مكتب «سي آي إيه» المضاد داخل الاستخبارات الروسية (كي جي بي). ثم حولته «سي آي إيه» إلى مركز «نروك» لترتيب إقامته، وتغيير هويته، ومكافأته. لكنه، بعد أن اشتكى من سوء المعاملة و«الاستعلاء الأميركي»، وبعد ثلاثة أشهر فقط في أميركا، عاد إلى روسيا.

في الجانب الآخر، كما جاء في تقرير «يو إس نيوز»، تشتكي «سي آي إيه» من جواسيس خدعوها أو حاولوا خداعها. قالت إن بعضهم ليسوا جواسيس، وإن أجانب يدقون على أبواب سفارات أميركية في الخارج، ويقولون إن عندهم معلومات سرية. لكن، كما قال مسؤول في «سي آي إيه»: «يأتون إلينا كل يوم. يريدون أن يبيعوا لنا كوبري بروكلين» (إشارة إلى مثل أميركي عن كذاب قال إنه يملك كوبري بروكلين في نيويورك، ويريد بيعه).

وأيضا، اشتكى المسؤول من الجواسيس الذين ينقلون إلى هنا، وينضمون إلى برنامج «نروك»، ويعتقدون أن البرنامج «ضمان لمدى الحياة». وقال إن جواسيس أساءوا استعمال المكافآت المالية. وسافر بعضهم إلى لاس فيغاس وقامروا بأجزاء كبيرة منها، وعندما خسروا، جاءوا إلى «نروك»، وطلبوا مساعدات أكثر.