فيروز..

لم تغن أبدا لرئيس أو قائد أو زعيم بل غنت للمدن العربية مثل القدس ومكة والشام وبيروت

TT

اعتبرها البعض سيدة «فوق القانون»، وقال آخرون: إن اسمها يجب ألا يلوث «بالكلام على الماديات، لأنها ملائكية الصوت والحضور». بمجرد أن عرف عشاقها بخلافها مع ورثة منصور الرحباني، تداعوا لنصرتها، غير آبهين بالتفاصيل، لأن «فيروز دائما على حق». حملوا صورها في عواصم عربية عدة يوم 26 يوليو (تموز) الماضي، واعتصموا من أجلها ولإعادة إطلاق صوتها الذي قالت إنه «ممنوع من الغناء». «جارة القمر» و«آخر أسطورة عربية حية»، «هي أمنا»، بل «هي لبنان والوطن» هذا ما قاله فيها عشاقها، ليتبين أنها واحدة من أكثر الشخصيات العربية شعبية. فمن هي فيروز؟ وكيف حصدت كل هذه الجماهيرية، على الرغم من أنها لا تتكلم إلا غناء، ولا تظهر إلا لماما، ونادرا ما تقابل الصحافيين أو تلتقي بأصدقاء.

قال أحد الذين يعرفون فيروز عن قرب إنها «تخرج من البيت خطفا، وتفضل الانتقال تحت جنح الظلام كي لا يراها أحد. ترتب مواعيدها وتنقلاتها، كي تصل إلى حيث تريد وتعود بسرعة ودون عوائق». ويضيف هذا العارف بحياة فيروز «بمقدورنا القول إنها تعيش في عزلة، وعلاقتها ليست جيدة عموما بمن حولها من أقربائها، باستثناء ابنتها ريما في الوقت الراهن. ولها صداقات قليلة، وتلتقي بمن تشاء منهم، وهي تنتقيهم بعناية. ثمة مقربون منها وعددهم محدود جدا. يمكن القول إنها إذا صممت على شيء، يصعب أن تغير رأيها، لكنها على استعداد لتقديم تنازلات متى وجدت أن المصلحة تقتضي ذلك».

ويقول أحد الذين عايشوا فيروز وعرفوها عن قرب أيام الأخوين رحباني: «لها شخصية مزاجية وطبع قاس. ليست سهلة المراس، لكنها كانت صبورة وطيعة جدا مع زوجها عاصي، خاصة حين يتعلق الأمر بالعمل والغناء. هنا كانت فيروز تسلس قيادها للرجل الذي عمل على نحت موهبتها، وجعل منها أيقونة في أعين جمهورها، ليس فقط بالعمل على الصوت والأداء، ولكن بتحديد كيفية ظهورها، ومتى تتكلم أو تحتجب». ويكمل رفيق درب الأخوين رحباني: «لم يكن كل هذا يتم بسوء نية من عاصي، بل لأنه كان يعرف بحدسه الفني كيف يصنع النجوم. كان عاصي قاسيا هو الآخر، وله شخصية صعبة ومولعة بإتقان التفاصيل. لذلك فكل الذين يعملون معه، ومنهم فيروز، كان عليهم تحمله. لكن على فيروز كان يقع العبء الأكبر، لأنها النجمة الأولى في الأعمال التي كان يقدمها الأخوان رحباني. ومن هنا جاءت قسوته معها».

يقول عارفون بتطورات العلاقة بين عاصي وفيروز إنها في نهاية الستينات وبداية السبعينات، وعندما كانت نجوميتها في أوجها، بدأت تتمرد على سطوة عاصي، وتظهر تذمرا يصل لحد رفض أمور يفرضها عليها. وأصيب عاصي بانفجار في الدماغ عام 1972، وبات في وضع يعيقه عن الكتابة، وإن استمر في وضع بعض الألحان بمعونة من يكتبها له. ومع ذلك، يقول أشخاص كانوا مقربين من الأخوين رحباني، رفض منصور الكتابة باسمه منفردا، ما دام عاصي موجودا، وبقى يوقع المسرحيات التي يكتبها باسم الأخوين معا. وعرضت أربع مسرحيات بعد ذلك التاريخ كانت نجمتها الأولى فيروز، كما جرت العادة وهي: «المحطة» (1973)، «لولو» (1974)، «ميس الريم» (1975) و«بترا» (1977)، وكانت هذه المسرحية هي الفصل الأخير في حياة فيروز وعاصي، حيث انفصلا عام 1978، وبقي عاصي وحده في رعاية بعض أفراد العائلة والأصدقاء حتى وفاته عام 1986.

بعد انفصالها عن عاصي عام 1978 تعاونت فيروز مع عدد من الكتاب والملحنين وغنت لزكي ناصيف وفيلمون وهبي، لكن أغلب أعمالها بعد ذلك ارتبطت بابنها المبدع زياد الرحباني، الذي قدمها للجمهور بأغنيات جديدة، لها طابع خاص، صدمت البعض، وأغضبت البعض الآخر، لأنها اعتبرت غير لائقة بفيروز وتاريخها. لكن أثبت مرور الزمن أن تلك الأغنيات تصمد بقوة مع مرور الأيام، بل إنها جددت شباب فيروز وجعلتها محبوبة ومنتظرة من الجيل الصاعد، الذي ربما ما كان ليسمعها بالمتعة نفسها لو نسجت فقط على منوال قديمها. ولا تزال فيروز تقدم حفلاتها الغنائية ومسرحياتها بتعاون وثيق مع زياد، على الرغم من صعوبة العلاقة بينهما.

ولدت فيروز، أو نهاد حداد، عام 1933 ويقال 1935، في حي زقاق البلاط في بيروت، لأسرة متواضعة من قرية الدبية في الشوف اللبناني. والدها وديع حداد كان يعمل في مطبعة الصحيفة اليومية باللغة الفرنسية «لوريون لو جور». بدأت دراستها في مدرسة القديس يوسف، ثم نقلها والدها بسبب ضيق الحال إلى مدرسة رسمية. في العام 1947 وكان عمرها 14 عاما، واكتشف موهبتها محمد فليفل، وهو أحد مؤسسي الكونسرفتوار الوطني اللبناني في بيروت، أثناء رحلة بحثه عن مغنين لتشكيل كورال للمعهد، الذي قضت فيه خمس سنوات، تعلمت أثناءها أصول الغناء. ويسود اعتقاد أن فليفل كان له دور كبير في تدريب الخامة الصوتية لفيروز. وبدأت فيروز عمليا حياتها الفنية بعد ذلك كعضو في جوقة الإذاعة اللبنانية، حيث أعجب بموهبتها هناك الملحن حليم الرومي وأطلق عليها اسم «فيروز» لنفاسة صوتها.

وفي الإذاعة تعرفت على الأخوين رحباني، وبدأ تعاونها معهما، حيث وجدت الأغنيات التي أدتها لهما صدى طيبا لدى مستمعي الإذاعة. ومن لبنان سينتقل الثلاثي الشاب، فيروز، عاصي ومنصور إلى دمشق عام 1953، حيث سيكملون تجاربهم الموسيقية، وتقديم أغنياتهم المختلفة عن تلك الكلاسيكية التي كانت سائدة في ذلك الوقت. فهي أغنيات قصيرة تختلط فيها الألحان العربية بشيء من اللحن الغربي.

وبعد ذلك بسنة تقريبا اقترن عاصي الرحباني بفيروز، وكانا قد أصبحا نجمين معروفين، وانتقلا بعد ذلك إلى مصر، حيث ستكون محطة جديدة للفن الرحباني وفيروز، إذ كانت القاهرة حينها تعيش ازدهارها الغنائي والسينمائي. فقد سجل الأخوان رحباني مع فيروز هناك رائعتهم «راجعون» عن فلسطين. وفي عام 1957، قدم الثلاثي «أيام الحصاد» في معبد جوبيتر، لتكون فاتحة أعمالهم في «مهرجانات بعلبك الدولية» لينطلقوا من هناك، كأسطورة فنية. وعرفت تلك القلعة بعد ذلك سلسلة من أعمالهم المسرحية الغنائية، التي أسست فيما بعد، ليس فقط لمسرح غنائي لبناني، وإنما عربي له طقوسه وكيانه وملامحه التي ستبقى علامة مميزة ومحطة مؤسسة.

يقول أحد الذين عاصروا تلك المرحلة: «لقد برز مسرح الأخوين رحباني الغنائي، في الفترة ذاتها التي برز فيها المسرح التجريبي في لبنان على يد رواد كبار، وانحياز مهرجانات بعلبك للغناء، جوبه بكثير من عدم الرضا من قبل التجريبيين الذين لا يزالون يعتقدون أن لجنة المهرجانات أسهمت في إنعاش نوع على حساب آخر، بتقديمها الجماهيري له ودعمه».

رزقت فيروز وعاصي بعد زواجهما بأربعة أبناء (زياد، هالي، ليال وريما). وأصبح زياد فيما بعد الشريك الفني الأهم لفيروز بعد غياب والده. أما هالي فقد أصيب بمرض في صغره شل حركته ولا يزال مقعدا، فيما توفيت ليال شابة يانعة. وتحولت ريما أصغر أولاد فيروز إلى أقرب الناس إليها، لا، بل هي التي تدير أعمالها بشكل رئيسي اليوم، وتساندها في حفلاتها، وتصدر عنها البيانات، حتى يمكن القول إنها باتت الناطقة باسمها، في ظل الغياب شبه التام لفيروز عن المقابلات الصحافية.

ويعتبر زياد الرحباني الشريك الثاني والأهم لفيروز بعد الأخوين رحباني. فمعه أصدرت ألبوم «معرفتي فيك» الذي لقي نقدا كبيرا بسبب اختلاف نمط أغنياته عما اعتاده الناس من فيروز، ثم «كيفك إنت» و«فيروز في بيت الدين 2000»، الذي تضمن تسجيلا حيا لإحدى حفلاتها.

فيروز مع زياد صارت أكثر تمردا منها مع عاصي. فكلماته تظهر المرأة قوية، عصية، ساخرة من الرجل في كثير من الأحيان. لكن لم ينتبه الجمهور كثيرا لهذا التبدل الجوهري في المضمون، فقد تركز النقد على بعض الكلمات والعبارات والألحان، دون أن ينتبه عشاقها إلى أنها مع زياد حملت لواء المرأة العصرية، التي لا تسكت للرجل أو تهادنه، وإنما تراه في كثيرا من الأحيان ضعيفا، مرتبكا، ويحتاج لنصحها ومساعدتها.

عانت فيروز كثيرا. ويقال إن هذه السيدة التي منحت السعادة والأمل والحبور للعرب جميعا بصوتها الحالم الأثيري، لم تتمكن من أن تمنح نفسها السعادة ذاتها، فالمشكلات العائلية التي بدأت مع مرض هالي ولم تنته بوفاة عاصي الدرامي، ورحيل ابنتها ليال، كلها كان لها وقع قاس على فيروز. وتعترف هذه المغنية الأسطورة في الشريط الأقرب إلى الوثائقي الذي سجلته ابنتها ريما، بأن غياب عاصي عن حياتها كان له أعمق الأثر عليها. فقد كان شريفا نبيلا، وهو الذي كان يقرر فيما يخص كل صغيرة وكبيرة في حياتها، وهي تفتقده عندما تتخذ أيا من قراراتها. والذين يعرفون عاصي، يقولون «إنه أيضا أحب فيروز حبا لا يوصف. وإنه بعد انفصاله عنها، تحدث كثيرا عن تلك العاطفة الجياشة التي ربطته بها، وربما كان لا يظهرها لها بالقدر الكافي بسبب طبيعته الصارمة، ومزاجه السلطوي». وهكذا يمكن القول إن قصة حب جارفة ربطت هذين الهرمين، لكن أحدا منهما لم يدرك عمقها قبل أن يخسرها.

تألقت فيروز مع عاصي ومنصور في الأغنيات، كما على المسرح. وكذلك في السينما بعدد قليل من الأفلام، لكنها بقيت محفورة في ذهن الناس. فمن منا لا يتذكر «بنت الحارس» أو «بياع الخواتم» أو حتى «سفر برلك». وعرف الرحابنة الثلاثة، بمواقفهم السياسية بقدر أنفهم من السياسة. ويسجل لفيروز أنها لم تغن أبدا لرئيس أو قائد أو زعيم، وأنها غنت للمدن العربية، بأحلى الكلمات وبحنجرة لا تضاهى، فتغنت بالقدس ومكة والشام وبيروت. وعلى الرغم من الظروف الأليمة التي مر بها لبنان، بقيت فيروز رمزا وطنيا يستمع له كل الأفرقاء وكأنه صوتهم، وحلمهم، ومستقبلهم، حتى قيل إن فيروز هي الرمز اللبناني الجامع الوحيد الذي بقي للبنانيين بعد الحرب، خاصة عندما غنت في وسط بيروت بعد أن وضعت الحرب الأهلية المقيتة أوزارها. واعتبر عشاقها أنها أنهت بصوتها مرحلة العنف وأعلنت بداية ميلاد جديد للبنان.

لكن على الرغم من حذر فيروز من الانزلاق إلى أفخاخ السياسة، جوبهت بنقد شديد عندما قررت الذهاب إلى سورية لتقديم مسرحيتها «صح النوم» عام 2008 بعد انقطاع طويل. وبسبب الانقسام السياسي العنيف بين فريقي «8 آذار» (حزب الله وحلفاؤه)، الذي أيد ذهابها بحماسة، وفريق 14 آذار (الذي يقوده رئيس الوزراء سعد الحريري)، الذي هاجمها بقوة، وبدا أن فيروز تميل لجانب دون آخر. لكن منصور الرحباني ظهر كمساند قوي لها في تلك الفترة وأيد ذهابها وغناءها في دمشق.

وعلى الرغم من الخلافات بين فيروز ومنصور في حياته، التي كانت تظهر بين الحين والآخر، فلم تنقطع علاقتها به كليا. ولكنها توترت بشكل كبير بعد حفلاتها السورية لمسرحية «صح النوم» ثم تقديمها في الشارقة. وإثر وفاة منصور، بدا أن شعرة معاوية قد قطعت بين فيروز وورثة منصور. لكن عشاق فيروز هبوا لنجدتها، وسجلوا في كل العالم العربي مواقف تؤكد أن السيدة لها في قلوب الناس مكانة ليست لإحدى مطربات العرب الحاليات. وإذا كان لهذه المحنة الفيروزية من إيجابية واحدة فإنها أظهرت بوضوح أن فيروز وما كتبه الأخوان رحباني، ليس إرثا يعتبره اللبنانيون استثنائيا ويشكل جزءا مهما من ضميرهم فقط، وإنما هو إرث يعتبره العرب، ملكا قوميا لهم لا يريدون له أن يهتز أو تعصف به رياح الأذى. ولذلك فإن غاية ما يطالب به عشاق فيروز اليوم، وما أكثرهم، هو أن تسحب النزاعات الرحبانية من التداول، وتبقى في الكواليس، وأن يترك لهم الحلم الفيروزي ناصعا مشعا بهيا، كآخر مكان للحلم يمكن أن يلجأ إليه عربي بات لا يجد ملجأ يأوي إليه غير صوت فيروز، آخر معاقل الجمال في عالم العرب.