لعبة الصين في إيران

العقوبات الغربية مهدت الطريق أمام بكين لعقد صفقات تجارية مع طهران ثاني أكبر مستهلك لمنتجاتها

علما الصين وإيران على طاولة في السفارة الإيرانية ببكين حيث عقد كبير المفاوضين الإيرانيين سعيد جليلي مؤتمرا صحافيا يتعلق بالنشاط النووي الإيراني (رويترز)
TT

في الوقت الذي نجحت فيه الولايات المتحدة في إصدار عقوبات جديدة ضد إيران بسبب طموحاتها النووية، وانضمت إليها أوروبا وجميع الشركاء الآخرين لإيران تقريبا، لا يبدو أن الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم وأكبر دولة من حيث تعداد السكان، ترغب في الامتثال لهذه العقوبات. فهي تنظر بعين الاعتبار إلى احتياجاتها من الطاقة وغيرها من المصالح التجارية والجغرافية السياسية.

لدى الصين أسباب كثيرة للتباطؤ في التجاوب مع العقوبات الاقتصادية. فأولا تريد حماية نفاذها إلى النفط والغاز الإيراني، وحماية قدرتها على الاستثمار في إيران، التي تعد الآن ثاني أكبر مصدر للنفط والغاز بالنسبة إلى الصين وثاني أكبر مستهلك لمنتجاتها. وقد وقعت الصين اتفاقيات مع إيران تصل قيمتها إلى عشرات المليارات من الدولارات للسماح لها بامتيازات النفاذ إلى قطاع النفط والغاز الإيراني. وستتردد بكين، التي تغازل الشراكة مع إيران التي تمتلك رابع أكبر احتياطيات في العالم من النفط وثاني أكبر احتياطي للغاز الطبيعي، في تعريض هذه الشراكة للخطر.

وتستهدف العقوبات الجديدة صناعات النفط والغاز الطبيعي، التي تعد العمود الفقري للاقتصاد الإيراني، إضافة إلى التجارة الخارجية والخدمات المالية. وتحظر هذه العقوبات أي استثمارات أوروبية جديدة في قطاع الطاقة، وأي صادرات إلى إيران تشمل المعدات الأساسية والتكنولوجيا اللازمة لتكرير النفط أو استكشاف وإنتاج الغاز الطبيعي.

وأعلن وزراء الخارجية في دول الاتحاد الأوروبي القيود الجديدة عقب شهر من فرض العقوبات الأميركية على إيران. وفي الشهر الماضي، صادق مجلس الأمن الدولي على الجولة الرابعة من العقوبات الدولية على إيران بسبب برنامجها النووي السري. وقدمت الصين، وهي عضو في مجلس الأمن الدولي، دعمها بصورة غير واضحة.

وفي مذكراته التي نشرت في الآونة الأخيرة، أقر سفير الصين لدى طهران هوا ليمينغ بأن نشاطه الدبلوماسي في إيران بعد أن أصبحت الصين أحد مستوردي النفط من هذه البلاد في مطلع تسعينات القرن الماضي، كان خاضعا تماما لسياسات الطاقة. وبدافع تلبية احتياجاتها في مجال الطاقة، بدأت الصين سلسة من المشروعات الاستثمارية في إيران، وبدأت بصورة تدريجية ملء الفراغ الذي خلفته الشركات الغربية التي أجبرت على مغادرة إيران بفعل العقوبات الدولية.

وساعدت الشركات الصينية في إيران، التي يتخطى عددها حاليا 100 شركة، على تشييد مترو الأنفاق في طهران ومحطات طاقة ومصانع لصهر المعادن ومصانع بتروكيماويات. وتمتد العلاقات الصينية الإيرانية لآلاف السنين. وبدأت الشراكة الحديثة بين الدولتين في سبعينات القرن الماضي، في ظل حكم شاه إيران، واستمرت بعد ذلك مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ومهد الانقسام بين الصينيين والسوفياتيين في ستينات القرن الماضي، إضافة إلى مخاوف الشاه من أزمات السوفياتيين في إيران والخليج، الطريق للتقارب بين الصين وإيران. وتعزز هذا التقارب أكثر فأكثر بفعل شعورهم التاريخي المشترك كإمبراطوريتين قديمتين خضعتا للإذلال من الغرب. ومنذ عام 1858 حتى عام 1860، استولت روسيا على مساحات شاسعة في سيبيريا من الصين، في حين أنه خلال القرن التاسع عشر قسمت قوى أوروبية الصين وإيران.

وفي الفترة الراهنة، وعلى مستوى عملي، تمهد الصين طريق الحرير الجديد للطاقة مع إيران بهدف تحقيق أهداف سياستها الخارجية، التي يدفعها أمن الطاقة واتخاذ احتياطاتها ضد الهيمنة الأميركية على مصادر الطاقة في الخليج العربي. ويبدو أن العقوبات الجديدة تفتح فضاء جديدا للشركات الصينية لتوسيع استثماراتها في دولة ينظر إليها الكثير من الدول الغربية على أنها دولة مارقة.

وقاد ذلك البعض إلى الاعتقاد بأن موقف إيران الذي يتسم بالتحدي تجاه الغرب مستمد إلى حد ما من ثقة جديدة بأن الصين تحل محل الشركاء التجاريين التقليديين لطهران. وقد أصبحت الصين الشريك التجاري الرئيسي لإيران، حيث بلغ حجم التجارة بين البلدين 21.2 مليار دولار مقارنة بنحو 14.4 مليار دولار قبل ثلاثة أعوام. وقبل خمسة عشر عاما، كان حجم التبادل التجاري بين الصين وإيران 400 مليون دولار فقط.

وعلى الورق، لا يزال الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لإيران، لكن إذا تم أخذ السلع الصينية التي تستوردها إيران عبر دولة الإمارات العربية المتحدة في الحسبان، فإن الصين بالفعل تتفوق على الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن. وبحسب تقديرات طهران، ستصل التجارة الصينية مع إيران إلى 50 مليار دولار خلال الأعوام القليلة المقبلة، وما يسرع هذه العملية من دون شك هو انعدام المنافسة الغربية.

ومهدت العقوبات الغربية الطريق للشركات الصينية لعقد الصفقات التجارية مع إيران، حيث تمد هذه الشركات إيران مباشرة بنحو 7.9 مليار دولار، أو 13 في المائة من وارداتها، وفقا للبيانات الرسمية.

وقال راجا رام موهان، المحرر الهندي السابق والخبير في الشؤون الصينية «في حين تنتشر الكثير من الشركات الأوروبية التي تقوم بالنشاط التجاري في الصين، أصبحت الصين أحد المستثمرين الكبار في الاقتصاد الإيراني. واستثمرت الصين ما يقدر بنحو 40 مليار دولار في قطاع النفط والغاز الطبيعي الإيراني عام 2009. ومع احتمال ارتفاع الطلب على النفط في المستقبل، فليس من المحتمل أن تتخلى بكين عن هذه العلاقة». وبحسب موهان فإن «لدى الصين نمطا راسخا من استخدام المفاوضات لتأجيل الإجراءات الأكثر شدة». وحاول الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش ثلاث مرات حشد الدعم الصيني لفرض عقوبات أكثر صرامة على إيران، فقط لجعل الصين تستخدم مشاركتها لتقليل فاعلية «القرارات الناتجة».

ولا تحتاج الصين إيران فقط للمحافظة على تدفق النفط من الخليج العربي، لكن أيضا بوصفها عقدة في طريق الحرير الجديد للطاقة الذي يربط الخليج العربي وبحر قزوين وآسيا الوسطى بالصين. وفي هذه الشبكة الآسيوية لأمن الطاقة، تحتاج الصين إلى سلسلة من خطوط الأنابيب، بما في ذلك خط الأنابيب بين إيران وباكستان والوصلة الداخلية بين إيران وتركمانستان، والتي تحتوي على وصلة برية مباشرة بين إيران والصين، وذلك بهدف تجنب مضيق ملقا، الذي تجوبه دوريات البحرية الأميركية. وفي شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2009، أعلنت تركمانستان أنها ستبدأ في مد الصين بالغاز الطبيعي عبر خط أنابيب جديد. ويبدو أن طريق الحرير الجديد للطاقة يأتي على غرار طريق الحرير القديم، مع الممرات البرية والبحرية.

وعلاوة على ذلك، تعد الصين متفائلة بشأن احتمالات توصل إيران إلى تصنيع قنبلة نووية، لأن لديها نظرة أكثر واقعية لما يعنيه هذا التطور. ويعرف قادة الصين أنهم لم يحصلوا على الكثير من النفوذ الجغرافي السياسي عندما اختبروا السلاح النووي الصيني عام 1964، وأن كون الصين دولة نووية لم يمكنهم من فرض إملاءاتهم على تايون أو فيتنام أو كوريا الجنوبية أو كوريا الشمالية أو أي دولة أخرى أو ابتزازهم. والعامل الذي قاد صعود الصين إلى وضع القوى العظمى هو التنمية الاقتصادية، وليس ترسانة الأسلحة النووية المعتدلة التي تمتلكها، وتعرف بكين أن الشيء نفسه ينطبق على إيران النووية. وفي حين أن الصين قد تفضل ألا تصنع إيران أسلحة نووية، فإنها لا ترغب في دفع ثمن كبير لمنع حدوث ذلك.

وتطورت استراتيجية الصين في الخليج العربي والمتمثلة في التحالف مع إيران أثناء الحرب بين إيران والعراق في الفترة من 1980 حتى 1988. وعلى غرار موقفها الحالي تجاه إيران، حافظت الصين على الحياد، في حين صوتت ضد قرار مجلس الأمن الدولي بفرض العقوبات على إيران، وقالت إن العقوبات تعزز الصراعات.

كما أمدت الصين إيران بالأسلحة؛ ففي عام 1982، اتهم مسؤولون أميركيون الصين وكوريا الشمالية بتوريد 40 في المائة من الأسلحة الإيرانية، وبحلول عام 1987 ارتفع هذا الرقم إلى 70 في المائة. وفي عام 1986، بدأت إيران الهجوم على السفن الكويتية المحايدة. وأشارت صور الأقمار الصناعية الأميركية عام 1987 إلى أن إيران تثبت صواريخ سيلكوورم الصينية المضادة للسفن على طول مضيق هرمز.

وردت الولايات المتحدة على ذلك بتغيير أعلام السفن الكويتية، ومع ذلك كانت الولايات المتحدة والصين على وشك الدخول في حرب بشأن إيران. ففي شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1987 ضرب صاروخ سيلكوورم ناقلة نفط أميركية تم تغيير علمها. وردت القوات الأميركية على ذلك بضرب وتدمير منصة إنتاج نفط إيرانية في الخليج العربي، وأعقبت ذلك جولة أخرى من الصراع العسكري بين الولايات المتحدة وإيران في أبريل (نيسان) عام 1988 عندما تسبب لغم في إغراق بارجة أميركية. وبعد ذلك كانت هناك هجمات متعاقبة بين إيران والبحرية الأميركية.

وفي الوقت الذي تصاعدت فيه التوترات، أصبحت الصين قلقة بشأن ظهور اعتقاد سلبي بأنها تخوض الحرب بتوفير الأسلحة لإيران وبمساعدة إيران عسكريا لتحدي الولايات المتحدة. وفي النهاية، دفعت المخاوف الصينية الإيرانية من تطور الوضع إلى حرب كاملة مع الولايات المتحدة، إيران إلى قبول القرار رقم 598 لوقف إطلاق النار في يوليو (تموز) عام 1988. وأثناء هذه الحرب، رأت إيران أن الصين شريك جدير بالثقة، وأصبحت الصين محاورا رئيسيا لإيران.

وعلاوة على ذلك، فإن ترك الوعاء الأميركي الإيراني على النار الهادئة (بحيث لا يصل إلى درجة الغليان) يصب في مصلحة بكين على المدى الطويل. وكان الانخراط الأميركي غير الماهر في الخليج العربي وآسيا الوسطى بمثابة هدية استراتيجية ضخمة بالنسبة إلى بكين، ومما لا شك فيه أن بكين وطهران تشعران بالشماتة في حين تريان أن العم سام ينفق تريليونات الدولارات في العراق وأفغانستان مع الحفاظ في الوقت ذاته على مواجهة باردة مع إيران. وعلى الرغم من ذلك، فكلما زاد تخصيص الأموال والاهتمام والرأسمال السياسي لإيران، قل التركيز على جهود الصين على المدى الطويل لبناء النفوذ في آسيا والاضطلاع بالدور الأميركي هناك.

أضف إلى ذلك أن العلاقات السيئة بين واشنطن وطهران تخلق فرصا دبلوماسية واستثمارية أمام الصين. وآخر شيء ترغب فيه بكين هو إيجاد حل سريع للقضية النووية الإيرانية، لأن ذلك قد يمهد الطريق لانفراجة كبيرة بين واشنطن وطهران، مما يقل أهمية بكين ويسمح للاستراتيجيين الأميركيين بتحويل اهتمامهم إلى مكان آخر.

وفي الوقت ذاته، لا تريد الصين اندلاع أي حروب في منطقة الخليج، والتي قد تقود إلى ارتفاع أسعار النفط (على الأقل بصورة مؤقتة)، وتعيد الاقتصاد العالمي مرة أخرى إلى الركود، وتقود إلى عواقب أخرى لا يمكن التنبؤ بها. لذا، تود الصين أن تستمر الولايات المتحدة وحلفاؤها في مواجهة إيران عبر العقوبات الاقتصادية، لكن بصورة بطيئة، بحيث لا ينتهي النزاع مع إيران ويظل استخدام القوة أمرا غير وارد.

لذلك، فإن الاستراتيجية الأمثل بالنسبة إلى الصين هي التباطؤ وكسب الوقت. وهذا المنطق يعني أنها لا ترفض مطلقا الموافقة على فرض عقوبات أكثر شدة ولا تقول «نعم» أيضا. وقد توافق على بعض العقوبات الإضافية في النهاية (ربما بعد موافقة الولايات المتحدة البائسة على ضمان عدم انقطاع إمدادات النفط إلى الصين بعد انقطاعها من إيران)، لكنها لن تدعم أي عقوبات تكون قاسية بالدرجة الكافية لإقناع إيران بإيقاف تخصيب اليورانيوم تماما.

وإلى جانب القيود الجديدة على الشركات الغربية، والتي نتجت من العقوبات الأميركية والأوروبية ودول متعددة مثل أستراليا وكندا، تعد السوق الإيرانية مفتوحة أمام التجارة الصينية بعيدا عن أي منافسة غربية. ونقلت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» عن دبلوماسي أميركي رفض ذكر اسمه قوله إن الصين «لم تقدم أي التزام لتحسين الموقف» عندما تنسحب هذه الشركات القلقة من العقوبات من إيران. وحتى الدول غير الغربية المتحالفة مع الولايات المتحدة وأوروبا بشأن إيران، مثل اليابان، رأت أن الفراغ الذي خلفه انسحاب شركاتها من إيران قد ملأته الشركات الصينية.

وقد تستخدم الصين وسائل أخرى للدخول في صفقات تجارية مربحة مع إيران. وفي الوقت ذاته، لا تحتاج الكثير من الشركات الصينية لأن تكون حذرة في صفقاتها مع إيران، حيث إنها لا تقوم بأي نشاطات تجارية مهما كانت في الولايات المتحدة، ولن تكون خاضعة للعقوبات الأميركية.

ويبدو أن العقوبات تجعل العمليات الاقتصادية الإيرانية غير مريحة، لكنها ليست بأي حال من الأحوال مستحيلة. وفي حين أن إيران قد تحتاج إلى دفع أسعار أعلى لمؤيديها في دول «بريك» (البرازيل وروسيا والهند والصين) للحصول على ورادات الطاقة، من الواضح أن العقوبات لم تبعد الشركات عن إيران. وعلى النقيض، قد تكون الدول التي أيدت العقوبات المحدودة قد فعلت ذلك لأن هذه العقوبات ستفتح أسواقا أكبر أمامها في قطاع الطاقة الإيراني عن طريق إبعاد المنافسين.