مفاوضات الـ 19 عاما

مرحلة جديدة من المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية تبدأ من واشنطن.. والامتحان لأوباما

في الاعلى الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون محاطا بالزعيم الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي السابق اسحق رابين. وفي الأسفل صورة من يوم أمس لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون محاطة بالرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو (رويترز)
TT

قلائل جدا هم أولئك الفلسطينيون أو الإسرائيليون الذين يؤمنون أن المفاوضات التي بدأت بين الطرفين قبل 19 عاما، وتحديدا منذ مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991، ستكلل بالنجاح في الجولة الحالية التي افتتحت في واشنطن، أول من أمس، بمهرجان القمة الخماسية. وعلى الرغم من أن جميع الخبراء من الطرفين، وكذلك المتتبعين من الخارج، يعرفون بالضبط ما هي طبيعة هذه التسوية، دولة فلسطينية على قاعدة حدود ما قبل احتلال 1967 عاصمتها القدس، فإن كثيرين منهم ينظرون بتشاؤم، ويقولون إن 19 عاما أخرى، قد تكون فترة غير كافية لإنجاز هذا السلام. والمراقبون من بعيد، يستصعبون فهم هذه المعضلة ويتساءلون، بحق، هل القادة لا يكتفون بما سفك من دماء في هذا الصراع حتى الآن؟ فقد قتل أكثر من 150 ألف فلسطيني وأكثر من 22 ألف إسرائيلي، وهناك مئات ألوف الجرحى وعشرات ألوف المعاقين وألوف الأسرى، بالإضافة إلى الخسائر المادية والمصاعب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية خصوصا لدى الطرف الفلسطيني. فكم من الضحايا سيقع وأي ثمن سيدفع بعد، حتى يدركوا أن هذا الصراع يجب أن يتوقف فورا ليحل محله السلام؟

قصة هذا الصراع معروفة. في البداية اعتقد العرب أن الحل العسكري هو الحل الوحيد للقضية، بينما بدا الإسرائيليون «مناشدين للسلام»، حيث في الوقت الذي شردوا فيه الشعب الفلسطيني وهدموا غالبية ما بقي لهم من قرى وبلدات، ورفضوا قرارات الأمم المتحدة القاضية بإعادة اللاجئين، كانوا يتهمون العرب بالتخطيط لتدمير إسرائيل والقضاء على اليهود وإلقائهم في البحر. والكثير من العرب زودوا إسرائيل يومها بالمواد التي تحتاجها لترويج هذا التضليل في العالم. وهناك قصة مشهورة عن المعلق السياسي في «صوت العرب»، أحمد سعيد، وهو يصيح متلهفا خلال الأيام الأولى من حرب 1967: «هنيئا لك يا سمك»..! وبعد تلك الحرب، عندما أخذت مشاعر القوة مأخذها في عقول القادة الإسرائيليين، تبادل العرب والإسرائيليون المواقع، فأصبح العرب مستعدين للتفاوض مع إسرائيل وقبل زعيم القومية العربية، جمال عبد الناصر، بمشروع روجرز لتسوية هذا الصراع، ولكن إسرائيل رفضت المبادرات بتبجح ظاهر. بل رفضت الاعتراف بوجود شيء اسمه القضية الفلسطينية. وفي سنة 1972، تساءلت رئيسة الوزراء الإسرائيلية، غولدا مائير، بشكل استنكاري: «أين هو الشعب الفلسطيني؟». وفي حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، دفعت إسرائيل ثمن هذا التبجح. وعندما صدمها الرئيس المصري أنور السادات بزيارته سنة 1977، وافقت على إبرام اتفاقية سلام أعادت من خلالها أرض سيناء إلى مصر وهدمت المستوطنات اليهودية التي أقامتها هناك، ولكنها رفضت تسوية القضية الفلسطينية بإقامة دولة، ووافقت على إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

كانت المرة الأولى التي جلس فيها إسرائيليون وفلسطينيون إلى طاولة المفاوضات، فقط بعد مؤتمر مدريد للسلام، وحتى في هذه المفاوضات كان الفلسطينيون جزءا من الوفد الأردني الرسمي، لأن إسرائيل رفضت الاعتراف بهم ككيان مستقل. وكان ذلك تعنتا إسرائيليا مضحكا، حيث إن المفاوضين الفلسطينيين (د. حيدر عبد الشافي، وحنان عشراوي، ود. صائب عريقات) هم الذين تولوا الحديث عن الموضوع الفلسطيني، وكانوا بعد كل جولة مفاوضات يسافرون إلى تونس لتقديم تقرير عن سير المفاوضات ويتلقون التعليمات حول طريقة الاستمرار.

وقد سخر الإسرائيليون أنفسهم من هذه الطريقة من التفاوض. وعندما سقطت حكومة إسحاق شمير، في سنة 1992، وتبدلت بحكومة إسحاق رابين، انتهزوا الفرصة لمفاوضات مباشرة مع وفد فلسطيني مستقل. ولكنهم فعلوا ذلك بعيدا عن الأنظار، في العاصمة النرويجية، أوسلو، وبشكل سري للغاية.

المبادرة إلى محادثات أوسلو كانت أوروبية، وبدأت باتصالات مع عدد من الموظفين الدبلوماسيين الإسرائيليين والفلسطينيين، بقيادة نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، يوسي بيلين، وعضوي اللجنة المركزية لحركة فتح، محمود عباس (الرئيس الحالي) وأحمد قريع (رئيس الحكومة الفلسطنية الثاني). وقد كان دافعها الأساسي هو وصول محادثات واشنطن الرسمية إلى الباب الموصود. وقد استغرقت المحادثات نحو السنتين، وجرت بسرية تامة، وأسفرت عن اتفاق وقعه في واشنطن كل من ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وإسحاق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بشهادة الرئيس الأميركي بيل كلينتون.

ونص هذا الاتفاق على الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية وموافقة إسرائيل، لأول مرة، على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ومنزوعة السلاح إلى جانب إسرائيل. وحسب هذا الاتفاق، يتم تطبيق بنود إقامة الدولة بالتدريج: انسحاب إسرائيل من قطاع غزة وأريحا أولا، وإقامة سلطة وطنية فلسطينية تتولى إدارة شؤونها، وإجراء انتخابات ديمقراطية للمجلس التشريعي الفلسطيني يشارك فيها سكان الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، ثم الانسحاب من بقية المدن والقرى، جنبا إلى جنب مع التقدم في المفاوضات، بحيث تقام الدولة الفلسطينية في حدود نهائية مع مضي خمس سنوات من المفاوضات.

أوري سفير، أحد المفاوضين الإسرائيليين الأساسيين فيها، يقول إن سرية المفاوضات كانت سببا حاسما في نجاحها. ولكن هناك أسبابا أخرى كثيرة، أهمها أن حكومة رابين أدركت أن حكومة شمير سقطت بسبب عرقلتها مفاوضات واشنطن. فالرئيس كلينتون رفض منحها ضمانات بقيمة 10 مليارات دولار، وهذا أدى إلى مصاعب في سوق الاعتمادات المالية، وأثر على الشارع الإسرائيلي في الانتخابات اللاحقة.

وحكومة رابين لم تكن حكومة أكثرية، وبلغ عدد نواب ائتلافها 56 نائبا فقط. ولكي تحظى بأكثرية في الكنيست اعتمدت على اتفاق «الجسم المانع». فقد أبرمت اتفاقا مع كتلتين عربيتين، الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة (3 نواب، وكانت يومها برئاسة توفيق زياد، أحد شعراء المقاومة الفلسطينية)، والحزب الديمقراطي العربي (نائبان، برئاسة عبد الوهاب دراوشة، وهو الذي بدأ حياته السياسية في حزب العمل الإسرائيلي، ولكنه انسلخ عنه وأقام حزبا عربيا وطنيا). وكانت هذه أول مرة تقام فيها حكومة في إسرائيل يعتمد ثباتها على أصوات النواب العرب. وتحول هذا الاتفاق إلى جسم مانع في وجه اليمين الإسرائيلي القوي.

وقد عجز اليمين عن تأليب الجمهور على حكومة رابين لإسقاطها، ولكنه نجح في إحداث شرخ كبير في المجتمع اليهودي في إسرائيل، خصوصا أنه بعد اتفاقية أوسلو بسنة واحدة تم توقيع اتفاقية سلام بين إسرائيل والأردن. ولكن اليمين، ومن شدة عصبيته وهوسه تمكن من غرس شعارات اتهام بالخيانة لرابين ورفعت صور له تظهره ضابطا في الجيش النازي. واستفاد اليمين كثيرا من العمليات التفجيرية الانتحارية التي نفذتها خلايا مسلحة من «حماس» والجهاد الإسلامي داخل المدن الإسرائيلية، تسببت في مقتل عشرات المدنيين الإسرائيليين. وأنشأ أجواء عدائية للحكومة عموما ولرئيسها رابين. ومن نتائج هذه الأجواء قيام مستوطن يهودي يعمل طبيبا في مستعمرة قريات أربع بتنفيذ مذبحة الخليل، التي قتل فيها 29 مصليا في الحرم الإبراهيمي في 1994 (الجيش قتل 20 فلسطينيا آخرين). وعلى الرغم من أن رابين يعتبر من كبار الجنرالات الإسرائيليين، صاحب الباع الطويل في الحروب ضد العرب، وأنه حاول تعويض اليمين بالمصادقة على عشرات المشاريع الاستيطانية، فقد أتاحت تلك الأجواء فيما بعد (سنة 1995) اغتياله (رابين) برصاصات من مسدس إرهابي يهودي.

وكان رابين وحزبه يراهنان على نجاح تجربة أوسلو، حتى يواصلوا الحكم، وبالتالي مواصلة المفاوضات. ولو سارت الأمور كما هو متفق عليه، لكانت الدولة الفلسطينية قد أقيمت في نهاية عام 1998 وانتهى الصراع. ولكن مسلسلا من الخلل بدأ يظهر خلال الشهور الأولى من المفاوضات.

رابين من جهته، راح يتذمر من عرفات ويتهمه بتضليله وخداعه منذ اللحظة الأولى التي عاد فيها إلى الوطن، لأنه هرب في سيارته ثلاثة من مساعديه المسؤولين عن عمليات مسلحة نفذت في الماضي ضد إسرائيل، وقال إن العمليات التفجيرية تثبت أن عرفات لم يكف عن الخداع، واتهمه بأنه يهادن حماس ويعتقل المشبوهين الفلسطينيين بالمسؤولية عن العمليات في النهار ويطلق سراحهم في الليل. وعرفات يتهم رابين بالتلكؤ في تطبيق الاتفاقات، خصوصا بعد تصريح رابين بأن «المواعيد المقررة في الاتفاقات ليست مقدسة ويمكن تأجيلها».

وعندما قتل رابين، تردد خليفته شيمعون بيريس في إكمال تطبيق الاتفاق، بينما واصل الفلسطينيون الالتزام بالاتفاق وأجروا انتخابات ديمقراطية للمجلس التشريعي. ولم ينفذ بيريس الانسحاب من مدينة الخليل وتورط في العدوان على لبنان (مذبحة قانا). وبدا ضعيفا للغاية في مواجهة العاصفة اليمينية المتطرفة، فسقط في الانتخابات التي جرت في سنة 1996 وفاز مكانه بنيامين نتنياهو.

نتنياهو من جهته تعاطى مع الملف الفلسطيني بطريقة مغايرة.. فقد اعترف باتفاقيات أوسلو، التي عارضها وهاجمها، وكان واضحا أنه لن يطبقها. وكل خطوة خطاها على هذا السبيل كانت تتم بشق الأنفس ورغما عن أنفه ويرفقها باستفزاز يجهض معناها. فقد جرت مفاوضات إسرائيلية - فلسطينية في سنة 1997 أسفرت عن توقيع اتفاقية الانسحاب من الخليل، وأرفقها نتنياهو بافتتاح شبكة أنفاق تحت القدس القديمة، مما أدى إلى صدامات دامية بين أجهزة الأمن الفلسطينية وقوات الاحتلال، فقتل 100 عنصر فلسطيني و19 جنديا إسرائيليا.

وفي 1998، أجريت مفاوضات إسرائيلية - فلسطينية بين نتنياهو وعرفات تحت رعاية الرئيس كلينتون، في واي ريفر، خرجا منها باتفاق على تنفيذ بقية الانسحابات المتفق عليها في اتفاقات أوسلو. ولكن نتنياهو لم ينفذ هذه الاتفاقيات، بحجة استمرار الإرهاب الفلسطيني والتحريض على إسرائيل. ومع أن الأميركيين بدأوا يتبنون الموقف الإسرائيلي من عرفات ويقولون إنه مراوغ وغير صادق، فقد دخل نتنياهو في صدام معهم ورفض الانصياع لرغبتهم في التقدم في العملية السلمية. وقد لمح أحد المسؤولين الأميركيين بإمكانية وقف المساعدات الأميركية لإسرائيل، إذا لم يغير نتنياهو نهجه. فما كان من نتننياهو إلا أن تحدى الأميركيين وصرح بأنه ينوي وضع برنامج للتخلي عن المساعدات الأميركية، فأثار ذلك غضبا عارما في واشنطن، وأرسل كلينتون في غضون ثلاثة أيام وفدا من الخارجية لإجراء محادثات مع الحكومة الإسرائيلية يفضي إلى «التخلص من الدعم الأميركي». وراح نتنياهو يرجو أن لا يأخذوا كلامه بجدية وأن يرجعوا عن قراراهم. لكنهم رفضوا. وبعد شهور من التفاوض، تراجع الأميركيون وبدلا من إلغاء الدعم، قلصوه من 3 مليارات إلى 2.4 مليار دولار في السنة. ومع استمرار الخلافات، سقط نتنياهو في انتخابات 1999 وحل محله في رئاسة الحكومة زعيم حزب العمل، إيهود باراك.

باراك من جهته حاول الدخول فورا في مفاوضات مع الفلسطينيين، ولكنه في الوقت نفسه تعامل في الموضوع كقائد عسكري. فحاول ممارسة ضغوط عليهم بواسطة فتح قناة تفاوض يفضل فيها السلام مع سورية أولا، وبواسطة تنفيذ مشاريع استيطان جديدة في الضفة الغربية. وقد زعزع هذا التصرف الثقة بينه وبين عرفات. وبات الانفجار في العلاقة بينهما مجرد مسألة وقت لا أكثر.

وهنا أيضا، تدخل الأميركيون، وحاولوا تنظيم مفاوضات ماراثونية بين الزعيمين على طريقة مفاوضات السادات وبيغن في كامب ديفيد في أواخر السبعينات. وكالعادة، لجأت تنظيمات المعارضة الفلسطينية إلى عمليات التفجير للتخريب. وهذا زاد من شكوك باراك تجاه عرفات.

في النهاية، أصر باراك على أن التسوية ممكنة إذا وضعوه في غرفة واحدة مع عرفات من دون تحديد للوقت. واعترض عرفات على ذلك وقال إن الظروف غير ناضجة، لكن باراك أقنع كلينتون، وهذا ضغط على عرفات، فالتأمت مفاوضات كامب ديفيد في سبتمبر (أيلول) سنة 2000. وقد دامت المفاوضات 17 يوما، وانتهت إلى الفشل. ويختلف المشاركون في هذه المفاوضات حول أسباب الفشل. الإسرائيلون يقولون إن عرفات هو السبب، والفلسطينيون يتهمون باراك وحتى كلينتون. والحقيقة أن السبب الأساسي يكمن في زعزعة الثقة بين عرفات وباراك. كل منهما رأى أن الآخر مخادع ولا يريد عملية سلام حقيقية.

في إسرائيل قالوا إن باراك قدم عرضا سخيا لعرفات لم يسبق أن قدمه قائد إسرائيلي سابق، فوافق على أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية ووافق على الانسحاب من %97 من الضفة الغربية و%100 من قطاع غزة، واتهموا عرفات بأنه يرفض أن يكون اتفاق السلام هذا نهاية للصراع وللمطالب الفلسطينية، ولكن الفلسطينيين اتهموا باراك بأنه أراد وضع الأماكن المقدسة في القدس تحت إدارة دولية ولا يريد حلا لقضية اللاجئين. وتحيز كلينتون إلى الجانب الإسرائيلي واتهم عرفات بالمسؤولية عن الفشل.

لكن كان ما يعد كامب ديفيد. فقد عاد عرفات إلى الوطن، فاستقبله الفلسطينيون، وخصوصا المعارضة، استقبال الأبطال لأنه «رفض الخنوع». بينما عاد باراك ليسمح لرئيس المعارضة اليمينية، أرئيل شارون، بالقيام بزيارة استفزازية إلى باحة المسجد الأقصى، مما أدى إلى تفجير ما سمي بـ«الانتفاضة الثانية»، التي كانت مسلحة. وخلال ذلك كان قد تحطم ائتلاف باراك الحاكم بدعوى أنه قدم اقتراحات مغامرة تدل على تفريطه في القدس. فحاول تبرير تصرفه بالقول إنه في كامب ديفيد نجح في الكشف عن وجه عرفات الحقيقي. وأطلق مقولته المشهورة: «لا يوجد شريك فلسطيني لإسرائيل في عملية السلام». وأصبحت هذه المقولة تعبيرا إسرائيليا رسميا، يبررون فيه سياستهم الرفضية. وفي مرحلة معينة أدرك باراك وعرفات أن الأمور تفلت من بين أيديهما، فعادا إلى التفاوض في طابا في مطلع 2001، وتقدموا كثيرا في المفاوضات. إلا أنهما لم يتمكنا من إنهاء كل شيء. وفي هذه الأثناء اقترب موعد الانتخابالت المبكرة في إسرائيل. ولم تنفع هذه التبريرات باراك شيئا. وخسر باراك كرسيه في الانتخابات المبكرة لصالح أرئيل شارون، وعاد الليكود إلى الحكم.

شارون من جهته، جعل من أقوال باراك حول انعدام شريك فلسطيني، شعارا أساسيا لسياسته. فلم يعترف بالقيادة الفلسطينية ولم يتعاط معها، إلا تحت الضغط الأميركي. وتجاهل مبادرة السلام العربية، التي تعتبر خطوة تاريخية من العرب أجمعين، وفيما بعد من الدول الإسلامية أيضا التي تبنت جميعها هذه المبادرة. وأصر على استخدام الحرب أداة أساسية في الصراع، حتى بدا أنه يصفي حسابا شخصيا قديما مع ياسر عرفات. فقد حاول شارون اغتياله مرات كثيرة في الماضي ففشل. وفي سنة 1982، قاد شارون حربا على لبنان هدفها تصفية عرفات والقضية الفلسطينية برمتها. وراح يرد على العمليات التفجيرية الفلسطينية المتصاعدة بالاغتيالات، على نفس النمط الذي استخدمه في سنوات الخمسين في غزة والضفة الغربية عندما كان ضابطا في وحدة قتالية خاصة في الجيش الإسرائيلي. ثم أعاد شارون احتلال الضفة الغربية، بما سمي عملية «السور الواقي» وحاصر عرفات في مقر الرئاسة حتى الموت.

الأميركيون واصلوا الجهود للتسوية، ولكن بأسلوب جديد يلائم عقلية الرئيس جورج بوش الابن. فقد أرسلوا الجنرال أنتوني زيني لإجراء مفاوضات ثنائية غير مباشرة بين الطرفين، ثم أرسلوا مبعوثين آخرين يتنقلون ما بين القدس ورام الله وغزة. وتوصلوا في سنة 2003 إلى «خارطة الطريق»، التي تنص على إقامة دولة فلسطينية على ثلاث مراحل: العودة إلى ما قبل الاجتياح، وإقامة دولة فلسطينية مؤقتة، والانتقال إلى التسوية النهائية. ولكن شارون وافق عليها بعد أن قدم 14 تحفظا حولها. ومن جهة ثانية ظل يحاول إيجاد حلول أخرى يلتف بها حتى على خارطة الطريق.

حتى بعد وفاة عرفات سنة 2004 وانتخاب محمود عباس رئيسا، في مطلع سنة 2005، وإعلانه على الملأ عن وقف الانتفاضة وسائر أنواع العنف، لم يظهر شارون استعدادا لتغيير جذري في سياسته. فقد ظل يتجاهل القيادة الفلسطينية. وقد دعا الأميركيون إلى مؤتمر إقليمي في شرم الشيخ، على أمل فتح صفحة جديدة، ولكن مع أول عملية تفجير تقع، تراجع شارون ولم يخض عمليا أي مفاوضات جدية مع الرئيس الفلسطيني. وقد حاولت مجموعة من اليسار الإسرائيلي بالتعاون مع قيادة منظمة التحرير، ممثلة بأمين سر اللجنة التنفيذية، ياسر عبد ربه، فرض تسوية على شارون وأمثاله، فأجرت محادثات إسرائيلية - فلسطينية وخرجت باتفاق سلام تفصيلي عرف باسم «اتفاق جنيف». وقد تمكن شارون من إجهاض هذه المبادرة، عندما طرح بديلا عمليا عنها، فأعلن خطة فصل انسحب بموجبها من قطاع غزة تماما ولكن من دون تنسيق أو اتفاق مع السلطة أو أي طرف فلسطيني، فأخلى المستوطنين اليهود بالقوة، وهدم 21 مستوطنة فيها ثم انسحب من أربع مستوطنات أخرى في شمال الضفة وأعلن أنه يرمي إلى انهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

هكذا، تنصل شارون من عملية السلام ولكنه أثار إعجاب العالم بشجاعته في هدم مستوطنات. ودخل على أثر ذلك في صراع شديد داخل حزبه. فانسحب منه وأقام حزبا جديدا اسمه «كديما» بالتعاون مع مجموعة من حزب العمل. ولكن شارون أصيب بشلل دماغي غيبه عن الساحة السياسية، فحل محله إيهود أولمرت.

أولمرت أيضا يميني متطرف، ولكنه أحدث انعطافا حادا في فكره باتجاه السلام مع الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه تورط في عدة أمور، فاختلف مع الجيش الإسرائيلي ومع المؤسسة القضائية. في بداية حكمه أعلن عن تقليص الموازنة العسكرية خمسة مليارات شيقل (1.2 مليار دولار في حينه)، فجره الجيش إلى حرب لبنان الثانية، ثم اضطر إلى إلغاء اقتراحه السابق، بل إنه اضطر إلى زيادة موازنة الجيش 3 مليارات دولار أخرى.

لقد أدار أولمرت مفاوضات سرية مباشرة مع الرئيس الفلسطيني عباس، وكان أول مسؤول فلسطيني يستخدم لقب رئيس للرئيس الفلسطيني ويرفع العلم الفلسطيني في ديوانه عندما يستقبل عباس. وأجرى الطرفان مفاوضات تفصيلية على مستوى الوفود، الإسرائيلي برئاسة وزيرة الخارجية، تسيبي ليفني، والفلسطيني برئاسة أحمد قريع. وانطلقت هذه المفاوضات في أنابوليس، المؤتمر الذي استضافه الرئيس بوش، وخصصت لها سنة واحدة. وانتهت السنة بشبه اتفاق، ولكن في هذه الأثناء فتحت الشرطة الإسرائيلية تسعة ملفات فساد ضد أولمرت، واضطر إلى الاستقالة بسببها، ليفوز بالحكم بنيامين نتنياهو. ويدير هذا ظهره لما توصل إليه الطرفان.

وتمر سنة ونصف السنة، حتى تبدأ المفاوضات المباشرة بينهما. لنعود إلى نفس المربع: نتنياهو يأتي إلى المفاوضات مكبلا بفكره الشخصي ومعسكره اليميني المتطرف، والرئيس الفلسطيني عباس يأتي وهو معدوم الثقة في نتنياهو ويرمي فقط إلى فضح رئيس الحكومة الإسرائيلية كرافض للسلام واستحقاقاته، وحماس تنفذ عملية تفجير ونتنياهو يستخدمها للتهرب من المزيد من الاستحقاقات بدعوى الأمن. والامتحان هذه المرة هو للرئيس الأميركي، باراك أوباما. هل يقدم على إدارة هذه المفاوضات بإصرار على النجاح كما يقول؟