حَكَم السودان

رئيس مفوضية استفتاء الجنوب لا يؤمن بقيام دولتين في السودان لكنه سيحترم خيار الجنوبيين

TT

هو رجل يجلس فوق فوهة بركان قابل للانفجار في أي لحظة. يقود دفة مركب وسط مياه بحر واسع، ومضطرب الأمواج. هو رئيس مفوضية استفتاء جنوب السودان، البروفسور محمد إبراهيم خليل، وهي المفوضية المسؤولة عن ترتيب وتنظيم عملية استفتاء السودانيين الجنوبيين على حق تقرير مصيرهم مع بداية العام المقبل. وسيختار السودانيون بين «الوحدة»، مما يعني البقاء مع الشمال في دولة واحدة مساحتها مليون ميل مربع، في أكبر البلدان في المنطقة الأفريقية والعربية من حيث المساحة، أو الانفصال عن الشمال؛ وتأسيس دولة أفريقية جديدة تضاف إلى خارطة العالم، فيتحول السودان ديموغرافيا وجغرافيا بعد أقل من 150 يوما إلى دولتين.

استمرار الأمور على ما هي عليه، يعني أنه سيعفي نفسه من المهمة.. كانت تلك العبارة التي قالها خليل من أكثر العبارات التي لفتت الانتباه. وحين أعلن الرجل القانوني والأكاديمي جملته هذه التي كانت مثل «الصدمة»، كان يقصد خلافات مفوضية استفتاء جنوب السودان. إذ تعطل الانقسامات داخل المفوضية الاستعدادات للاستفتاء، حيث لا يوجد جدول للبدء في عملية تسجيل الناخبين المعقدة، والتي وفقا للقانون كان يجب أن تكون قد تمت بالفعل.

وقال خليل إن الأعضاء الجنوبيين الخمسة في المفوضية المكونة من تسعة أعضاء، يصوتون ككتلة واحدة لإعاقة السماح لأي شمالي بشغل منصب الأمين العام، وهو ما قال خليل إنه «مبدأ لا يقبل به». وقد أعادت تصريحات خليل ذاكرة السودانيين 23 عاما إلى الوراء، حين تقدم باستقالته من رئاسة البرلمان السوداني (الجمعية التأسيسية)، وتم ربط الاستقالة بمواقف الرجل «الفكرية» حيث كان يعارض قوانين سبتمبر (أيلول) 1893 التي فرضها الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، وأطلق عليها «الشريعة الإسلامية»، ووصفها رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي بأنها «لا تساوي الحبر الذي كتبت به».

وبعد ذلك تم انتخاب المهدي رئيسا للوزراء بعد أن نال حزبه أغلبية البرلمان في انتخابات عام 1986، وتم اختيار خليل رئيسا للبرلمان. ورغم اتفاق الرجلين حول القوانين، فإن رئيس البرلمان قدم استقالته في مرحلة متزامنة مع مشاركة «الجبهة الإسلامية القومية» في الحكومة برئاسة الدكتور حسن الترابي، وهي التي شاركت في هندسة القوانين المثيرة للجدل.

ويكشف قانوني سوداني مقرب من خليل لـ«الشرق الأوسط»، أن الرجل يوصف «بالعناد وضيق الصدر وقلة الصبر»، وهو ما بدا في أول اختبار عملي له، مع أن المقربين منه وأفراد أسرته يرون أنه «يتميز بالانضباط والدقة والصرامة، وتطبيق المواد واللوائح بانضباط قانوني»، ويصفونه بأنه كان يدير مناقشات البرلمان في عهد الديمقراطية الثالثة بنجاح كبير. ويقولون إن خليل لفت أنظار كثير من أعضاء البرلمان بقدرته الفائقة على حسم خلافات أعضاء البرلمان الدستورية والتنفيذية، وإنه على أتم المسؤولية لمواجهة التحديات والمتطلبات في مرحلة الاستفتاء القادم. ويؤكدون أن خبراته القانونية والنيابية والسياسية جعلته متماسكا، وأن «الهدوء والحكمة والعقلانية سيدة الموقف لديه، ويعرف أن الوقت أصبح ضيقا وقصيرا ولا بد من الإسراع في بدء عملية الاستفتاء».

وهذا المد القانوني والديمقراطي الذي يشير إليه المعجبون به، يرى أعضاء في مفوضية استفتاء جنوب السودان عكسه تماما. يشار إلى أن المفوضية تتكون من تسعة أعضاء تم تقسيمهم مناصفة بين الشمال والجنوب، وكان الرئيس السوداني عمر البشير قد أصدر قرارا في 30 يونيو (حزيران) 2010، يقضي بتعيين البروفسور محمد إبراهيم خليل رئيسا للمفوضية التي تشرف على الاستفتاء لتقرير المصير للجنوب، بعد أن صادق على قرار المجلس الوطني (البرلمان) بالإجماع على تعيين خليل رئيسا للمفوضية.

ودعا البرلمان خليل للعمل على استقلالية تامة ونزاهة في عمل المفوضية، حتى يقرر الجنوبيون مصيرهم الذي يريدونه. لكن سرعان ما واجهت المفوضية صعابا جمة كعادة القضايا السياسية في السودان، وكطبيعة العلاقة بين شريكي السلام في المؤتمر الوطني والحركة الشعبية. فهما في مركب تتقاذفه الأمواج لدرجة إشفاق المراقبين على المصير. ووصلت المفوضية إلى حالة وصفها الأمين العام للحركة الشعبية ووزير السلام في حكومة الجنوب باقان أموم بأنها «مشلولة». ووجه الأعضاء الجنوبيون نقدا قاسيا لرئيس المفوضية، ورأوا في مذكرة بعثوا بها لقيادة الحركة الشعبية أن «خليل شخص يتعامل بطريقة فردية متصلبة. ولولا الوقفة القوية لأعضاء المفوضية من الجنوبيين لأدار البروفسور خليل مفوضية الاستفتاء كضيعة خاصة به ولاتخذ القرارات التي تؤثر سلبا على الاستفتاء، وهو لا يرغب في أن يستمع لوجهات نظر أعضاء المفوضية أو يحترمها». وهو يعتبر نفسه يفهم كل شيء، ويحيط بما لم تستطعه الأوائل، وأن على أعضاء المفوضية أن يستمعوا إليه ويقبلوا ما يتفوه به دون أي رد أو تعليق أو تعقيب أو نقاش.

وفي هذه الأجواء المشحونة، تقلد الرجل المنصب والاتهامات تلاحقه هنا وهناك حتى فترة انزوائه خلال العشرين عاما الماضية، بعد أن كان ناشطا في العمل العام خلال الأنظمة الديمقراطية التي حكمت السودان. وتقلد خلالها عددا من المناصب الدستورية أهمهما وزارتا العدل والداخلية في ستينيات القرن الماضي، ورئيس البرلمان في الثمانينات. وقدم خليل من خلفية قانونية حيث كان أول أستاذ جامعي سوداني يتقلد منصب عمادة كلية القانون بجامعة الخرطوم، وهي أعرق الجامعات السودانية. وتولى المنصب خلفا لأستاذ بريطاني بعد خروج الاستعمار البريطاني المصري من السودان ونيل البلاد استقلالها في عام 1956. وتخرج أساتذة وقانونيون كبار على يد البروفسور خليل، عمل بعضهم وزراء في حكومات مختلفة، وتولوا مناصب مهمة بما في ذلك وزارة العدل مثل محمد علي المرضي، الذي شغل المنصب لعدة سنوات انتهت عام 2008. ومن تلاميذه النابهين أيضا وصديقه في ما بعد، الدكتور أمين مكي مدني.

وشغل مدني منصب وزارة الإسكان لمدة عام خلال حكومة انتفاضة ابريل الانتقالية عام 1985 بعد الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق جعفر نميري في انتفاضة شعبية، والدكتور إسماعيل الحاج موسى، القانوني والسياسي المعروف الذي شغل أيضا وزير الثقافة والإعلام في عهد الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري. كما عمل البروفيسور خليل كذلك في السلك الدبلوماسي، بوزارة الخارجية ردحا من الزمن.

وبعد أن أطاح العميد عمر حسن البشير بنظام الحكم في 30 يونيو (حزيران) 1989، هبط خليل من على خشبة المسرح السياسي السوداني، ثم غادر البلاد في تزامن مع موجة كبيرة شهدت هجرة معظم رموز الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية والإعلامية والأكاديمية المناوئة «للجبهة الإسلامية القومية» التي سيطرت على مقاليد الحكم بانقلاب الجنرال عمر حسن البشير. وحظر النشاط السياسي والإعلامي الحر، وذهب الرجل إلى الصومال وكتب دستور دولة أرض الصومال المستقلة كما هاجر إلى عدد من الدول منها الكويت ثم الولايات المتحدة الأميركية وعمل بعدد من مراكز الدراسات البحثية، مثلما هاجر بعد انقلاب النميري في مايو (أيار) 1969. ولما عاد الرجل من المنفى الاختياري، ذهب في هدوء إلى مكتبه القديم في قلب العاصمة السودانية الخرطوم، واستأنف عمله السابق في المحاماة في صمت، وبعيدا عن الأضواء، وقدم استشارات قانونية لشركات كبيرة. ولكن يبدو أن قدر الحياة العامة سيلازم الرجل طوال حياته، وبعد أن بلغ به الكبر عتيا. فقد وصلته رسالة من الحكومة بطريقة غير مباشرة ولجلس النبض لتخبره بأن المؤتمر الوطني رشحه لتولي رئاسة المفوضية، وأن الحركة الشعبية وافقت على هذا الاختيار، فقال «تم إبلاغي في لقاء مع نائب الرئيس، وأخبرني بأنهم رشحوني وأن الحركة الشعبية وافقت على الترشيح، وبعد ذلك دار حديث عن الصعوبات التي تكتنف المهمة، خاصة ضيق الوقت»، في إشارة إلى ما تبقى من الفترة المحددة لإجراء عملية استفتاء الجنوبيين.

ويقول خليل لـ«الشرق الأوسط» لمعرفة حجم المشكلة لا بد من التذكير بأن الذين تفاوضوا وتوصلوا إلى اتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالي، حددوا في الدستور الانتقالي في المادة «220» أنه يتعين على الهيئة التشريعية القومية أن تصدر قانونا للاستفتاء وتقرير المصير في أوائل السنة الثالثة من الفترة الانتقالية في يوليو (تموز) 2007، مما يبرز ضخامة مهمة الاستفتاء وأنها تحتاج إلى كل هذا الوقت، أي نحو 42 شهرا لاستفتاء دقيق ومنضبط وشفاف ويتصف بالمصداقية التامة، ولا يحتمل أيما نوع من الخلل في الإجراءات. فعنصر الزمن الكافي مهم، وضيق الوقت وضعفه يخلق مشكلات».

ويضيف في مقابلة صحافية أجريت معه بعد تقلده المنصب «الزمن مهم في أي عملية، والقانون حدد مددا خاصة، مثلا الفترة بين نشر السجل النهائي والإدلاء بالأصوات لا بد أن تكون ثلاثة أشهر، وهذه لا يمكن التغاضي عنها لأنها بنص القانون، ويمنح القانون فترات زمنية أخرى لعمليات أخرى كالطعون، ولتقوم بكل هذا وتنشر السجل الأولي للناخبين ليطعن فيه الناس، وتُستوفى بقية الشروط فإن من الضروري التأكد من أن الوقت كافٍ لاستيفاء متطلبات القانون».

ولم تكن العقبة الوحيدة التي تواجه رئيس مفوضية استفتاء جنوب السودان هي قصر المدة الزمنية، ومع أهمية المسألة، واقتراب السودانيين من ساعة الصفر، فإن المناوشات بين خليل وأعضاء المفوضية الجنوبيين كادت تعصف بالمفوضية وبالاستفتاء كله. فقد أثار الجنوبيين قضية أمين عام المفوضية، وهو منصب مهم، ويتحكم في ميزانية وتمويل المفوضية. وكانت الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهي الحزب الحاكم في الجنوب، قد أبدت قلقا من أن الأزمة قد تعرقل الاستفتاء، وهو أهم بنود اتفاق السلام الشامل الموقع عام 2005 الذي أنهى الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب والتي كانت أطول حرب أهلية عرفتها قارة أفريقيا.

ويذكر الجنوبيون خليل بمواقفه الرافضة لمبدأ حق تقرير المصير، ويشيرون إلى أن «رئيس المفوضية عبر في مناسبة أو مناسبتين مختلفتين لأعضائها عن وجهة نظره الرافضة لحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان». وقال إن السبب الذي يدعوه للرفض أن حق تقرير المصير يجب أن يعطى للشعوب المستعمرة. وطبقا للبروفسور خليل، فإن الجنوب ليس مستعمرة لذلك لا يستحق هذا الحق. وقال خليل لأعضاء المفوضية إه كتب ونشر مقالا عن هذا الموضوع في الماضي بين فيه رفضه لأعضاء شعب جنوب السودان حق تقرير المصير.

كما ربط ناشطون بين الرجل ومشروع أميركي قدم قبل مفاوضات السلام الشامل في عام 2002 بني على مقترح نظامين في دولة واحدة، (علماني في الجنوب وإسلامي في الشمال)، وأنه يقف ضد انفصال الجنوب. لكن خليل يقول «أنا لم أدع لدولة علمانية وأخرى دينية، ولا أتمنى أن تكون هناك دولتان من هذا القبيل». ويواصل: «وأنا لست من الناخبين ولن أصوت، ومن اختاروني آنسوا أنني لن أحاول تحوير عمل المفوضية بحيث يؤدي إلى النتيجة التي أتمني أن تحدث، بل آنسوا في أو توهموا التجرد والحياد، والتجرد يعني أن تضع جانبا ما تريد وتتمنى، وأن تعمل بالقانون والدستور وتتيح الفرصة للناخب أن يدلي بصوته بغض النظر عما إذا كانت النتيجة تعجبك أم لا».

ومع أن الأطراف المعنية بإجراء الاستفتاء تواضعت على رئاسة البروفسور محمد إبراهيم خليل للمفوضية، إلا أن ظلالا من الشكوك تحوم حول نجاح الرجل القانوني والأكاديمي في الإمساك بدفة القيادة حتى نهاية الرحلة، وعبور بحور الصعوبات، والوصول إلى الضفة الأخرى، لتنتهي أخطر عملية في تاريخ السودان، حيث تختلط الكثير من الألوان التي ترسم صورة الرجل. فهناك المعجبون الذين يرون في الرجل صفات الدقة والانضباط والصرامة، والذكاء، والدهاء، والخصوم الذين يحولون صفات المعجبين إلى النقيض، ويتهمونه «بالصفوية، والديكتاتورية، وضيق الصدر والتسرع في اتخاذ القرارات». ويشيرون في هذا السياق إلى استقالته من رئاسة البرلمان، وخروجه من حزب الأمة وخلافاته مع رؤسائه مثل محمد أحمد المحجوب رئيس الوزراء في حقبة الستينيات، والصادق المهدي رئيس الوزراء في حقبة الثمانينات، وهو ما يجعلهم يبتسمون في خبث حين يقرأون تهديدات الرجل بتقديم استقالته من مفوضية استفتاء جنوب السودان في مثل هذا الوقت الحرج.

وإن صحت تكهنات خصوم الرجل الذي يمسك بكل مصير السودان بين يديه؛ فإن البلاد كلها مقبلة على الانهيار، وإن صحت آراء المعجبين فإن تلك الصفات ستساعد في إجراء الاستفتاء على قدر كبير من النزاهة والشفافية؛ لكن رغم ذلك فإن عواصف من الغضب ستنتظره في حالتي الانفصال، أو الوحدة.

ووسط هذه المطبات يقول البروفسور خليل لـ«الشرق الأوسط»: «إذا أسفرت النتيجة عن وحدة طوعية فإن ذلك سيكون مهما جدا بالنسبة إلى السودان ومستقبله، وكذلك على المستوى الإقليمي، أما إذا كانت النتيجة هي الانفصال فإن ذلك بدوره سيكون حدثا مهما في تاريخ البلاد وستترتب على ذلك نتائج وتداعيات». ويضيف «ونتيجة الاستفتاء لا تقع تبعاتها أو مسؤوليتها على مفوضية الاستفتاء لأنها هي المنوط بها إجراؤه في حيدة ونزاهة وشفافية، ونتيجة الاستفتاء تتوقف على أداء شريكي اتفاقية السلام الشامل ومعها الدستور، وواجب الحكومة والمعارضة أن تعملا على جعل الوحدة جاذبة، والناخب له القول الفصل للإدلاء برأيه بحرية تامة، والمفوضية مسؤولة عن توفير المناخ الإيجابي المطلوب».

ورغم هذا الموقف الذي يفسره المراقبون بأنه «موضوعي» فإن الأيام الفائتة أوحت بأن الانفعال يسيطر أحيانا على الرجل القانوني، الذي دخل في مشادات كلامية عبر وسائل الإعلام مع عدد من قادة الحركة الشعبية وبينهم الأمين العام باقان أموم الذي وصف المفوضية «بالمشلولة». فسارع بالرد عليه بتوجيه الأسئلة التي توحي بضيقه وتبرمه مثل «أين كان باقان أموم؟».. وماذا فعل السياسيون؟.. ثم عاد ولبس لباس الحكمة ليشدد على أن «المفوضية لن تسمح لأي محاولة للتدخل في مجريات الاستفتاء أو التأثير على أي المستويات».