غجر فرنسا.. مكسر عصا للطامحين في عالم السياسة

تلتصق بهم صور نمطية متجذرة في أذهان الفرنسيين على أنهم كسالى وسارقون ووسخون وعدوانيون

نساء من الغجر مع أطفالهن في مخيم للاجئين بجنوب فرنسا (أ.ف.ب)
TT

في الاجتماع التحكيمي الذي جرى في قصر الإليزيه يوم الاثنين 6 سبتمبر (أيلول)، للفصل في التدابير التي تنوي الحكومة اقتراحها على البرلمان في مشاريع قوانين حول الأمن الداخلي والهجرة، طلب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بدء العمل على إدخال تعديلات «من أجل تسهيل ترحيل الأجانب المقيمين على الأراضي الفرنسية بصورة غير مشروعة بمن فيهم مواطنو بلدان تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي وذلك في عدد من الحالات الخاصة». ولمزيد من الإيضاح، جاء في البيان الرسمي الذي صدر عن الرئاسة عقب الاجتماع الذي حضره رئيس الحكومة فرنسوا فيون ووزيرا الداخلية والهجرة بريس هورتفو وإريك بيسون ووزيرة العدل ميشال أليو ماري، أن عمليات الترحيل يمكن أن تطبق في حال وجود تهديد «للنظام العام أو بسبب انعدام الوسائل التي تتيح (للمهاجر) العيش أو إعاقة حرية التنقل». ولمزيد من الفعالية في تطبيق السياسة الجديدة، طلب ساركوزي إعطاء المحافظين ومديري الشرطة في المناطق صلاحيات لتفكيك المخيمات التي تقام على أراضي الدولة أو الأراضي الخاصة بطريقة غير شرعية وترحيل من يقوم بذلك.

لم يأت البيان المذكور أبدا على ذكر الغجر (الروم بالفرنسية). لكن من الواضح أنهم المعنيون به لأنهم تحولوا منذ أواسط هذا الصيف إلى رمز للسياسة المتشددة التي أخذت الحكومة تنفيذها في الميدان الأمني لا بل إنها تسعى للذهاب بها أبعد من ذلك. وترافق ذلك مع عزم الرئيس ساركوزي إسقاط الجنسية الفرنسية عن الفرنسيين الجدد الذين يعتدون على حياة رجال الأمن وممثلي الدولة ورغبته في الضرب بيد من حديد على كل من يعكر صفو الأمن على كل الأراضي الفرنسية.

غير أن عمليات ترحيل المئات من الغجر إلى رومانيا بالدرجة الأولى وبلغاريا تسببت في جدال حاد في فرنسا وانتقادات شديدة من اليسار الاشتراكي والشيوعي والخضر وحتى صفوف اليمين الحاكم وكادت تتسبب في أزمة سياسية ودستورية حيث أعلن وزيران أساسيان من حكومة فرنسوا فيون، هما وزير الخارجية برنار كوشنير والدفاع هيرفيه موران، عن تحفظهما عليها وهو الموقف الذي التزمته وزيرة الدولة لشؤون المدينة فاضلة عمارة التي تتحدر من أصول مغربية. وانتقد رئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه التوجهات الحكومية التي وصفها رئيس الوزراء السابق دومينيك دو فيلبان بأنها «وصمة عار» على جبين فرنسا. وأعربت الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية عن انتقادات قوية لتدابير وزير الداخلية بريس هورتفو وزميله وزير شؤون الهجرة والهوية الوطنية إريك بيسون. وما حصل داخل فرنسا حصل خارجها حيث نددت المفوضية والبرلمان الأوروبيان ورومانيا وبلغاريا والأمم المتحدة والبابا بنديكتوس السادس عشر وكثيرون غيرهم بنهج باريس الحالي، الذي يستهدف هذه الفئة البشرية من السكان التي درجت منذ مئات السنين على التنقل بين البلدان الأوروبية حيث إنها لا تعرف الحدود ولا الحواجز.

من درج على استخدام وسائل النقل العامة وخصوصا مترو الأنفاق وشبكة الضواحي الباريسية غالبا ما يرى نساء وأطفالا وشبانا يمدون يدهم للتسول بعد إطلاق المعزوفة المعروفة (لا عمل، لا مسكن، لا معونات اجتماعية، لا ثمن للطعام...). وغالبا ما يكون هؤلاء الذين يتكلمون لغة فرنسية ركيكة من الغجر وتحديدا من غجر رومانيا وبلغاريا.

وتلتصق بهذه الفئة من الناس صور نمطية متجذرة في أذهان الفرنسيين العاديين: فهم كسالى وسارقون ولصوص ووسخون وعدوانيون لا بل إنهم لا يترددون في سرقة الأطفال. ويقيم الغجر عادة في مخيمات خارج المدن والقرى لا تتوافر فيها أبسط الحاجات اليومية من كهرباء وماء ومستلزمات صحية وخدمية. ورغم أن القانون الفرنسي يلزم البلديات بتخصيص قطع أرض للغجر، فإن الكثير منها يمتنع عن ذلك بضغط من الأهالي الذين يخافون على أمنهم وأمن أولادهم وعلى قيمة مساكنهم وأراضيهم التي تهبط بشكل حاد بفعل وجود الغجر، ما يدفع هؤلاء إلى استغلال أي قطعة أرض ممكنة وإدخال سياراتهم الكبيرة إليها ونشر خيامهم فيها.

وفي مؤتمر صحافي عقد في وزارة الداخلية الفرنسية في 31 أغسطس (آب) الماضي، كشف وزير الداخلية عن إحصائيات رسمية تفيد بأنه في العاصمة باريس وحدها ازدادت الجنح والأعمال المخلة بالأمن التي يقوم بها الغجر من أصول رومانية بنسبة 259 في المائة في الأشهر الـ18 الأخيرة. وأفاد مدير شرطة باريس بأن نحو 6 في المائة من كل الجنح المرتكبة في العاصمة من فعل الغجر. وبالنظر لسياسة الإبعاد التي تطبقها السلطات الفرنسية، فإن 8300 غجري من أصل روماني وبلغاري أبعدوا من فرنسا في الأشهر الثمانية الأخيرة. وتتأهب باريس، رغم الحملة الداخلية والعالمية والضغوط المختلفة، إلى إبعاد المزيد منهم في حملتين مقررتين ما بين 12 و14 سبتمبر الحالي. وبموازاة ذلك، تتشدد السلطات في عملية اقتلاع المخيمات غير الشرعية التي يشغلها الغجر على الأراضي الفرنسية والمقدرة بـ300 مخيم دمر منها حتى الآن 128 مخيما وأبعد ساكنوها.

ويشكل يوم 27 سبتمبر الحالي موعدا مهما لهذا الموضوع الملتهب إذ أن البرلمان سيبدأ بمناقشة التعديلات المتضمنة في مشروع قانون جاء على ذكرها بيان الإليزيه. وأعلن وزير الهجرة إريك بيسون أن الحكومة عازمة على توسيع الصلاحيات التي تمكنها من تكثيف وتعجيل عمليات طرد الغجر عبر إدخال جنحة إضافية هي تهديد النظام العام من خلال السرقة أو «التسول العدواني».

ولكن لماذا استهداف الغجر من بين كل المجموعات السكانية المهاجرة الموجودة على الأراضي الفرنسية؟

الواقع أن التذمر من الغجر وعمليات الإبعاد ليست جديدة. لكن الجديد هو المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد في فرنسا وإمكانية استغلال هذا الموضوع لأغراض محض سياسية كما استغل موضوع ارتداء البرقع الذي صوت عليه مجلس الشيوخ قبل 3 أيام بعد أن فعل ذلك مجلس النواب في يوليو (تموز) الماضي، ما يعني أن مشروع القانون على وشك أن يتحول إلى قانون في الأسابيع المقبلة. والقصة (الجديدة) انطلقت في 17 يوليو الماضي عندما أطلق رجال الدرك قريبا من قرية سان أينيان الواقعة في منطقة «لوار وشير» وسط فرنسا النار على سيارة يقول الدرك إنها لم تتوقف عند حاجز تفتيش وأردوا سائقها. وتشاء الصدف أن يكون غجريا اسمه لويجي دوكينيه وعمره 22 عاما. ويقول الدرك إن قائد السيارة حاول دهس 3 دركيين. وللانتقام لمقتل لويجي، هاجم ما يزيد على 50 غجريا القرية المذكورة مسلحين بالهراوات والفؤوس والخناجر والأسلحة النارية وعاثوا في البلدة تدميرا معتدين على المحلات والمساكن والأهالي. ولولا تصدي رجال الأمن لهم، لكانوا أنزلوا خسائر أكبر بالقرية وسكانها. وأثارت هذه «الحملة التأديبية» ضجيجا إعلاميا كبيرا.

ورأى كثيرون أن الحكومة سعت إلى «تضخيم» الحادث واستغلاله وتوجيه الأنظار مجددا إلى الموضوع الأمني لإحراج اليسار من جهة، ومن جهة أخرى، صرف الانتباه عن الفضائح التي لحقت بوزير العمل والمالية السابق إريك فيرت وعلاقته بثرية فرنسا الأولى ووريثة إمبراطورية «لوريال» للمستحضرات التجميلية ليليان بتنكور فضلا عن استعادة أصوات اليمين التقليدي التي افترقت عن الحكومة والرئيس ساركوزي بالذات، ما تعكسه استطلاعات الرأي.

واعتبر المراقبون أن تركيز ساركوزي في الأسابيع الأخيرة على الموضوع الأمني كما برز في خطابه في مدينة غرونوبل حيث أعلن أن فرنسا «تخوض حربا وطنية» ضد الإخلال بالأمن واللصوص والمجرمين، هو بمثابة انطلاقة مبكرة لحملة الانتخابات الرئاسية التي ستحل في ربيع عام 2012 والسعي لتركيز الرئيس - المرشح على الملف الأمني لما له من مردود سياسي حيث يعتبر اليمين أقدر على معالجته. وسبق لساركوزي أن ركب الموجة الأمنية في انتخابات عام 2007 وهو ما وفر له النجاح والوصول إلى الرئاسة.

وفائدة التركيز على الموضوع الأمني مزدوجة: فهي من جهة تغطي المواضيع الاقتصادية والاجتماعية حيث لم تحقق الحكومة وعود الرئيس في تحسين القدرة الشرائية وتوفير النمو ومحاربة البطالة وكلها مواضيع يشدد عليها اليسار والمعارضة بشكل عام. ومن جهة أخرى، يوفر هذا الطرح للرئيس الفرصة لسحب البساط من تحت أقدام اليمين المتطرف واستخدام العناوين التقليدية لديه وهي الهجرة والإسلام وانعدام الأمن واجتذاب أصواته بحيث يستطيع توفير دينامية انتخابية قوية تمكنه من الحلول في الموقع الأول في الدورة الأولى والتوكؤ على هذه النتائج للفوز في الدورة الثانية.

تقول فرنسا إن استضافة الغجر ليس مسؤوليتها بل هي مسؤولية مزدوجة تقع من جانب على الموطن الأصلي (أي رومانيا وبلغاريا) وعلى الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى. وصعوبة الموضوع أن انضمام هاتين الدولتين إلى الاتحاد الأوروبي جعل من الغجر مواطنين أوروبيين وبالتالي أعطاهم الحق بالتنقل الحر من أي قيود على كل أراضي الدول المنتمية إليه، وهو ما يحد من فعالية تدابير الإبعاد التي تنفذها السلطات الفرنسية. ولا يخفي المسؤولون الفرنسيون أنفسهم هذه الصعوبة، إذ اعترف وزير الهجرة أن الغجر المبعدين يمكنهم العودة إلى فرنسا وأن كثيرين منهم أبعدوا وعادوا. وتصر باريس، في موضوع الدفاع عن السياسة التي تطبقها على أمرين: الأول، أن عمليات الإبعاد «اختيارية» لا بل إنها تعطي كل غجري 300 يورو وكل قاصر 100 يورو مقابل توقيعه على مستند يقبل فيه إبعاده. والثاني أن إجراءاتها تحترم القانون الفرنسي والقوانين الأوروبية المرعية الإجراء ولا تفتئت على أساسيات حقوق الإنسان. فضلا عن ذلك، فإن باريس تطالب بـ«حلول أوروبية» تقضي بالطلب من المفوضية الأوروبية الضغط على الحكومة بوخارست وصوفيا من أجل أن تستخدما الأموال الأوروبية الممنوحة لهما والمخصصة للغجر لتسهيل بقائهم في مواطنهم الأصلية.

والحقيقة أن غجر فرنسا لا يزيد عددهم على 15 ألف شخص. ولذا، فإن الضجة المثارة حولهم مبالغ فيها من جهة، وهي، من جهة ثانية، تعكس جهلا بالواقع وخلطا للأمور. والسبب في ذلك أن مصطلح «الغجر» يستخدم من غير تمييز للإشارة إلى غجر رومانيا (منطقة بوهيميا) وبلغاريا وعددهم قليل جدا في فرنسا. وهو يستخدم أيضا للتدليل على الغجر الآتين من إسبانيا. وهؤلاء تقدر أعدادهم بحدود المليون شخص. غير أنهم لم يعودوا يطرحون مشكلة بل أصبحوا منخرطين في المجتمع الفرنسي خصوصا في المناطق الجنوبية من البلاد وتحمل غالبيتهم الجنسية الفرنسية. أما الفئة الثالثة من الغجر، فاسمها الرسمي «أهل السفر» وهي مجموعة ديموغرافية تعيش على هامش المجتمع وتؤمن رزقها عن طريق البحث عن الخردة وبيعها. وهؤلاء مواطنون فرنسيون. وما يميزهم عن غيرهم أن لا عناوين دائمة لهم بسبب تنقلهم الدائم من مكان إلى آخر.

وبين هؤلاء وأولئك، اختلطت الأمور بعضها ببعض وتحول الغجر إلى «رمز» للداء الاجتماعي الذي تعاني منه فرنسا و«مكسر عصا» الطامحين من أهل السياسة الذين يرون في رفع الصوت بوجه هؤلاء بابا لكسب الشعبية وتحقيق النفوذ.