إمام نيويورك

الإمام فيصل يمزج بين طبيعة هادئة وعقيدة قوية

TT

انشغل الإعلام خلال الأسابيع الماضية بقصة بناء مسجد بالقرب من موقع هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وسرعان ما تناقلت التقارير الإخبارية اسم الإمام فيصل عبد الرءوف الذي يقف وراء مشروع بناء مركز إسلامي ضخم في نيويورك. ولكن اسم الإمام فيصل لم يبرز بسبب هذه التقارير أو الجدال الدائر حاليا حول المركز الإسلامي، وليس جديدا عليه أن يخوض في قضايا تخص أوضاع المسلمين في الولايات المتحدة والعلاقات بين المسلمين والغرب. إلا أن الإمام فيصل ليس من طبعه أن يسعى وراء الإعلام أو الأضواء من أجل الشهرة، بل فضل غالبا أن يبقى بعيدا عنها على الرغم من شهرته بين كثير من المهتمين بقضايا دور الإسلام والعلاقات بين المسلمين والغرب. وحرص الإمام فيصل على التعاطي مع الإعلام خلال السنوات الماضية ليعطي صوتا موضوعيا في النقاش الدائر حول الإسلام والعلاقات مع الغرب. ويمزج الإمام فيصل بين الهدوء في طبيعته وقوة إيمانه ومعتقداته، مما يجعله عادة قادرا على كسب ثقة وتأييد من يتعامل معه مباشرة. وهناك خصال عدة تجسد شخصية الإمام فيصل، ربما أبرزها أنه من مدينة نيويورك، التي تحتضن الأفكار المختلفة ولها أوجه متعددة، ولكن تبقى لديها طبيعة خاصة. والإمام فيصل من أبرز المدافعين عن الحريات، خاصة حرية العبادة، بالإضافة إلى عمله منذ عقود على توطيد العلاقات بين أتباع الديانات المختلفة في مدينة نيويورك التي عادة ما تعتبر العاصمة الثقافية للولايات المتحدة. وشرح مصطفى تليلي، مؤسس ومدير معهد «الحوارات: العالم الإسلامي والولايات المتحدة والغرب» في جامعة نيويورك الذي يعرف الإمام فيصل منذ أكثر من 8 أعوام، أن «أبرز خصال الإمام فيصل أنه رجل صالح بكل معنى الكلمة، وهذه خصلة أخلاقية مهمة». وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «طبيعة الإمام فيصل هادئة وهو قادر على التواصل مع الآخرين بهدوء واحترام.. فهو يستمع للآخر ولديه رحابة صدر ولكنه في الوقت نفسه شديد في معتقداته وأحيانا يكون عنيدا لأنه واثق من صواب قراراته». ولكنه أردف قائلا: «أحيانا يدفع المرء ثمنا، فقد تعامل الإمام فيصل أحيانا مع القضايا بطريقة صالحة ولكن أيضا بسيطة، فعلى سبيل المثال وضع نفسه بموقف لم يكن مستعدا له في ما يخص بناء المسجد» بالقرب من موقع هجمات 11 سبتمبر. وكان الإمام فيصل من أوائل الذين هبوا للدفاع عن الإسلام والحفاظ على مكانة المسلمين في الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر، مؤكدا أن الذين ارتكبوا هجمات 11 سبتمبر لا يمثلون الإسلام. قال في مقابلة مع قناة «سي بي إس» الأميركية بعد أيام من الهجمات: «لا يوجد مكان في الإسلام للتطرف والإرهاب، هذا أمر بنفس سخافة الربط بين (قائد النازية أدولف) هتلر والمسيحية». ولكن في مقابلة شهيرة مع برنامج «60 دقيقة» أشار الإمام فيصل إلى دور السياسة الأميركية في دفع البعض إلى دعم التطرف، في تصريحات أدت إلى انتقادات واسعة له من اليمين في الولايات المتحدة. إلا أن تصريحات الإمام فيصل حول دور السياسة الأميركية في تفاقم مشكلة التطرف ورفضه لإدانة حركة حماس كـ«منظمة إرهابية» جزء من جرأة الإمام فيصل التي قال أحد المقربين له إنها من أبرز خصاله. وتحدث مصدر مقرب من الإمام فيصل لـ«الشرق الأوسط» شرط عدم ذكر اسمه بسبب الحساسية الإعلامية حاليا حول الإمام. وقال المصدر: «إنه شجاع وجريء جدا وربما هذا ما يجعله رجل اللحظة الراهنة في وقت نحن بحاجة إلى أصوات رزينة وتتمتع ببلاغة أن تناقش هذه القضايا». ولكن تصريحات الإمام فيصل لا تثير جدلا فقط بين أوساط اليمين في الولايات المتحدة، فهناك أصوات محافظة في العالم الإسلامي تنتقده أيضا بسبب تصريحات مثل «إنني يهودي» في حفل تأبين الصحافي دانيال بيرل في فبراير (شباط) 2003. وألقى الإمام فيصل كلمة في حفل التأبين قال فيها: «الرب واحد وإنني يهودي ليس فقط اليوم بل كنت دائما واحدا»، ليضيف أن «إذا كان المسيحي يحب الله بكل قلبه وعقله وروحه وأن يحب للبشر ما يحب لنفسه، فإذن أنا لست فقط مسيحيا بل كنت دائما» مسيحيا. وتابع أن الإسلام مبني على «قول لا إله إلا الله محمد رسول الله، إنه مبني على نفس المبادئ والقيم الدينية والأخلاقية». ويذكر أن الإمام فيصل من أتباع الطرق الصوفية ويشدد على الروحانية في الدين، بالإضافة إلى تطبيق الشعائر الإسلامية. وكانت مثل هذه الخطابات تساعد الإمام فيصل على فتح أبواب للتسامح عادة ما رصدت بعد هجمات 11 سبتمبر وفي نفس المدينة التي عمل فيها الإمام فيصل منذ عقود لحفر مكانة للمسلمين فيها. وجهود الإمام فيصل للعب دور إيجابي بين المسلمين في الولايات المتحدة بالإضافة إلى أن توثيق العلاقات بين المؤمنين في نيويورك ليست جديدة بل تستبق أحداث 11 سبتمبر. فمنذ عام 1983، يؤم الإمام فيصل المصلين في «مسجد الفرح» في منطقة «ترايبكا» وسط مانهاتن في نيويورك. ومن خلال خطبه في «مسجد الفرح»، استطاع الإمام فيصل أن يكسب محبة المسلمين في المنطقة خاصة الشباب منهم الذين ولدوا في الولايات المتحدة. فعند إلقائه خطبة الجمعة، عادة ما يكون صوت الإمام فيصل هادئا وخطابته سلسة، تهدي المصلين إلى الطريق المستقيم وتعطيهم دروسا في الحياة. وعادة ما تكون باللغة الإنجليزية مما يسهل على الأجيال المسلمة المولودة في الولايات المتحدة أن فهمها. ولكن نشاطات الإمام فيصل أوسع من «مسجد الفرح». ففي عام 1997، أسس جمعية «المجتمع الأميركي لتقدم المسلمين» والمعروفة باسم «أسما» (الأحرف الأولى من المجتمع الأميركي لتقدم المسلمين باللغة الإنجليزية). وتهدف الجمعية إلى تحسين أوضاع المسلمين في الولايات المتحدة ودعم تقدمهم في نواح مختلفة من الحياة ومجالات العمل. وتختص الجمعية بوضع برامج لمسلمين وغير مسلمين في الولايات المتحدة للتحاور حول مجالات عدة، مثل التعليم والسياسة والثقافة. كما أنه عضو في مجلس أمناء المركز الإسلامي في نيويورك ويعمل مستشارا لـ«مركز التحاور بين الأديان» في نيويورك. ولدى الإمام فيصل علاقات واسعة مع جهات مختلفة مهتمة بتحسين العلاقات بين الثقافات المختلفة، مثل حضوره «منتدى الاقتصاد العالمي» وبعض اجتماعات «تحالف الحضارات». ولديه علاقات واسعة في دول إسلامية مثل دول الخليج وماليزيا، وقد أثيرت تساؤلات حول روابط له مع جماعات مثل الإخوان المسلمين. وأكد مصدر مقرب من الإمام فيصل أنه «بحكم عمله وجهوده للتقريب بين وجهات النظر، لديه علاقات مع شخصيات مختلفة»، لكنه نفى أن يكون مقربا من الإخوان المسلمين. وفي عام 2004، قرر الإمام فيصل إنشاء «مبادرة قرطبة» التي أصبح رئيسها وتعمل على تحسين العلاقات بين المسلمين وغيرهم من المؤمنين. وشرح الإمام فيصل أن اختيار اسم «قرطبة» يمت بصلة لعهد المسلمين في قرطبة حيث كان يتعايش الجميع بوئام واحترام تحت قيادة المسلمين، قائلا: «اخترنا اسم قرطبة بدقة ليعكس فترة لعب خلالها الإسلام دورا جوهريا في إثراء الحضارة الإنسانية والعلم. قبل ألف عام، تعاون المسلمون واليهود والمسيحيون في خلق مركز مزدهر للحياة الفكرية والروحانية والثقافية والتجارية في قرطبة في إسبانيا». ومن خلال هذه «المبادرة»، ومقرها أيضا نيويورك، يواصل الإمام فيصل عمله على بناء أواصر التعاون بين المسلمين والمسيحيين واليهود. ويؤكد أحد المقربين من الإمام فيصل أنه بالإضافة إلى معرفته العميقة بالدين الإسلامي، عمل الإمام فيصل دائما على معرفة الديانات السماوية وفهم رسائلها من أجل «أن يكون قادرا على أن يوصل رسالة الإسلام ليس فقط للمسلمين بل لجمهور غربي وجمهور غير مسلم». وقدرة الإمام فيصل على التواصل مع الآخرين ليست مبنية فقط على معرفته أو بلاغته في الحديث، بل خلفيته المتنوعة وتربيته في دول عدة؛ حيث ولد الإمام فيصل عام 1948 من أبوين مصريين في الكويت التي عاش فيها قبل الانتقال إلى المملكة المتحدة ثم مصر ثم ماليزيا، فهو يجيد اللغات العربية والإنجليزية والمالايو. وقد انتقل الإمام فيصل إلى نيويورك عام 1965، حيث حصل على بكالوريوس العلوم في الفيزياء من جامعة كولومبيا العريقة، قبل أن يحصل على ماجستير في العلوم أيضا من معهد ستيفنز للتكنولوجية في ولاية نيوجيرسي المجاورة لنيويورك. وعلى الرغم من فخره بخلفيته العربية، فإنه يحرص دائما على التشديد على أنه أميركي، وأنه قادر على أن يكون أميركيا مسلما بغض النظر عن الضجة حول «تصادم الحضارات». وفي كتابه «ما هو صحيح في الإسلام صحيح في الولايات المتحدة» الذي نشر كرد على الكاتب اليميني برنارد لويس المنتقد للإسلام، يؤكد الإمام فيصل على الانسجام بين الإسلام والديمقراطية التي تمثل مبادءها الولايات المتحدة. ويقول إنه يدعمها. وقد نشر الإمام فيصل كتبا ومقالات عدة خلال السنوات الماضية، منها كتاب عن الشريعة وما يجب على المسلمين أن يعرفوه عن الشريعة ليطبقوها في حياتهم. ويعمل الإمام فيصل منذ عدة سنوات على «مشروع مؤشر الشريعة» الذي يجمع فقهاء سنة وشيعة من دول إسلامية عدة لتقييم مدى التزام الدول بالشريعة وخاصة في طريقة حكم قادتها. وقد أثار هذا المشروع تساؤلات بين أوساط عدة، من بينها تساؤلات أثارها تليلي حول «إعلان الإمام فيصل أنه متصوف وروحاني من جهة وتقييم الدول على تطبيق الشريعة من جهة أخرى». ومن يعرف الإمام فيصل عادة ما يتعرف مباشرة على ديزي خان، فهي زوجته ورفيقة دربه في حياته الخاصة والعامة. ومعا، أصبحا وجهين يمثلان الإسلام المتسامح والمنفتح في الولايات المتحدة. فديزي، التي اعتنقت الإسلام بعد أن التقت الإمام فيصل وقبل الزواج منه، تعمل منذ عام 2003 بتفرغ كامل لقضايا المسلمين، بعد أن كانت مصممة ديكور داخلي معروفة سنوات عدة. أصبحت ديزي المديرة التنفيذية لجمعية «أسما» التي أطلقت منها مجموعة «قادة مسلمين ليوم غد»، التي تضم أكثر من ألف شاب وشابة من العالم الإسلامي أثبتوا قدراتهم في مجالات مختلفة. وتؤكد خان أنها عملت على تأسيس هذه المجموعة التي تضم مسلمين من كافة أرجاء العالم يعملون في مجالات السياسة والإعلام والتجارة. كما أنها أطلقت مجموعة «وايز» وهي «مبادرة النساء الإسلامية في الروحانية والسواسية» التي أطلقتها من ماليزيا عام 2006. وفي الفترة الحالية، تبقى ديزي خان بعيدة عن الإعلام، على الرغم من كتابات كثيرة لها في السابق في الصحف الأميركية مثل «واشنطن بوست». كما أن الإمام فيصل أجرى عددا من المقابلات الصحافية الأسبوع الماضي بعد صمت أولي بعد العاصفة الإعلامية حول خططه لإقامة مركز إسلامي بالقرب من موقع هجمات 11 سبتمبر. إلا أن الإمام فيصل أكد مواصلته عمله وسعيه لتقريب وجهات النظر خاصة في نيويورك التي يعتبرها مدينته أولا وأخيرا.

ولفت أحد المقربين من الإمام فيصل إلى أنه «جزء من المجتمع في ترايبكا بغض النظر عن الضجة حول خطط بناء المركز الإسلامي.. وسيبقى جزءا منها». ولم تحل بعد قضية بناء المركز الإسلامي. وقد قال الإمام فيصل في «مجلس العلاقات الخارجية» بنيويورك: «كل شيء على الطاولة، نحن مركزون على حل الأزمة بطريقة تخلق أفضل نتيجة ممكنة للجميع». ورد الإمام فيصل يدل على طبيعته في السعي للتوصل إلى الوسطية والعمل على حل مرض للأطراف المعنية بقضية ما. وفي حين تثار تساؤلات حول عدم قبول الإمام فيصل بنقل مقر المركز الإسلامي الجديد الذي يريد إنشاءه في نيويورك، يجب تذكر أن الإمام فيصل يشعر بأنه من أبناء نيويورك وله حق فيها كغيره من الأميركيين. كما أن الإمام فيصل في كثير من خطبه ورؤيته للعالم يشدد على أهمية العدالة والإنصاف، وربما ينظر إلى قضية المسجد بالطريقة نفسها.

إلا أن الإمام فيصل يعلم حجم التحديات التي أمامه الآن، خاصة بعدما برز كرمز للمسلمين في الولايات المتحدة الذين يحاولون أن يوفقوا بين الهويتين المسلمة والأميركية. وحذر الإمام فيصل الأسبوع الماضي من «شعور بالعزلة بين الأقليات المسلمة، التي نراها في أوروبا أكثر من الولايات المتحدة». وأضاف: «علينا أن نكون فعالين واستراتيجيين بدلا من العمل برد فعل فقط، من أجل ربح اللعبة، يجب أن لا يكون لديك فقط لاعبون في الملعب؛ بل استراتيجيات نضعها معا ونطلقها»، مطالبا بـ«تخطيط استراتيجي» للرد على المتطرفين بشكل عام.