باكستان ما بعد الكارثة

9 ملايين هكتار من الأراضي الزراعية دمرت.. والقطن والأرز والقمح الأكثر تضررا.. وإعادة الحياة إليها تحتاج إلى المليارات

باكستاني يحاول جمع ما تبقى من ممتلكاته في منزله الذي دمرته الفيضانات في قرية زاحيل شرق بيشاور («نيويورك تايمز»)
TT

يقيم سيد أرشاد حسين شاه، وهو مزارع متوسط الحجم، داخل قرية غادي سانديلا، على الضفة اليمنى من نهر السند، وعلى بعد 9 كيلومترات من سد «تونسا» (وهو سد شيد من أجل التحكم في الفيضانات وتوفير مياه لري أراضي المزارعين على كلا جانبي النهر). وقد غمرت مياه الفيضان الذي وقع أخيرا في نهر السند مساحات كبيرة من أرض حسين شاه، التي اعتاد زراعة قصب السكر فيها. ويقع منزله المنعزل على بعد ياردات قليلة من المكان يفيض فيه نهر السند حاليا، بعد أن أتت المياه على 25 فدانا من أرضه خلال الأسبوع الأول من أغسطس (آب). وبعد أن تجاوز سن السبعين من العمر، بات لدى أرشاد معلومات عن المزارعين الذين عاشوا على الضفة اليمنى من نهر السند بالقرب من سد «تونسا».

ويرى أرشاد حسين شاه أن مسؤولية الكارثة البشرية التي تسببت فيها الفيضانات تلقى على عاتق إدارة سد «تونسا» التي تعوزها الكفاءة وتفتقر إلى حسن التدبير. ويقول: «لقد شهدنا فيضانات مماثلة عندما كان بوتو (رئيس الوزراء الأسبق ذو الفقار علي بوتو) يحكم باكستان. ولكن كان المهندسون الذين أُرسلوا في ذلك الوقت إلى هنا أذكياء، ووجهوا مياه الفيضان إلى مناطق بها برك مياه، ومن ثم قللوا من الضغط على السد نفسه، وعلى النطاق الأيسر (وهو سد على الضفة اليسرى من نهر السند يحمي المراكز السكنية في هذه الضفة)».

أسس سد «تونسا» في عام 1958 لهدفين: وهما توفير مياه الري إلى الأراضي على كلا جانبي نهر السند والتحكم في مياه الفيضانات وقت الطوارئ. وترك المهندسون، الذين صمموا السد، الآلاف من الأفدنة تحسبا لمياه الفيضان على كلا ضفتي النهر. عند السد، يحمي الجدار الشرقي (المعروف باسم «الطوق الأيسر الهامشي») مقاطعة موزافارغره التي يصل عدد سكانها إلى 3.5 مليون نسمة. على الجانب الأيمن من السد توجد بركة واسعة تزيد مساحتها على 25.000 أكرا، وتقع بين نهر إندوس و«الطوق الأيمن الهامشي». وتتسم الضفة اليمنى من النهر بالضآلة الشديدة في عدد قاطنيها.

على خلاف الحال مع سكان الحضر من الباكستانيين، تتميز ذاكرة الأفراد الذين يعيشون بتلك المناطق المتنوعة بين شبه الحضرية والريفية بحدة أكبر بكثير. وبدأت إدارة سد «تونسا» تتعرض لضغوط متزايدة من أجل تعزيز «الطوق الأيسر الهامشي» وخلق فجوة في الضفة اليمنى من النهر للحيلولة دون تعرض المراكز السكانية على الضفة اليسرى لأخطار النهر. في هذا الصدد، قال أشرف ريند، الإداري الحكومي المحلي السابق في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «ذهبت لمقابلة مسؤول شؤون الري في سد تونسا في الأول من أغسطس وطلبت منه أن يصنع فجوة في الضفة اليمنى ويعزز الضفة اليسرى للنهر». إلا أن مطلبه لم يلق اهتماما، وظلت إدارة سد «تونسا» من دون حراك.

في اليوم التالي الموافق الثاني من أغسطس خلال فترة بعد الظهيرة، تسبب ضغط المياه في صدوع في جزء ضعيف من «الطوق الأيسر الهامشي»، المعروف باسم «طوق عباس». وإلى الشرق على مسافة 18 كيلومترا تقع مدينة ديرا بن شبه الحضرية، وفي غضون ساعة فحسب غرقت المدينة بأكملها تحت المياه. بحلول المساء، كانت معظم مدن موزافارغره، بما في ذلك كوت أدو ومدينة موزافارغره ومحمود كوت وساناوان وآلاف القرى تحت المياه.

وأخبر مسؤول بارز في سد «تونسا»، «الشرق الأوسط»، رافضا الإفصاح عن هويته، أن عدادات القياس على السد كشفت في الثاني من أغسطس أن قوة اندفاع المياه بلغت مليون كوسيك CUSEC. وأضاف: «في أعقاب تصدع الطوق اليسر الهامشي بدأت العدادات تكشف عن 700.000 كوسيك من المياه عبر سد تونسا، مما يعني أن 300.000 كوسيك من المياه تدفقت نحو المراكز السكانية على الضفة اليسرى من نهر إندوس».

وتشير آراء الخبراء وشهادات شهود العيان إلى أن ما تعرضت له مقاطعة موزافارغره يعد كارثة بكل المقاييس. من ناحيته، أشار نعيم خان إلى أنه «إذا رغبت في تخيل حجم الكارثة، وأؤكد لك أن تدفق المياه في أكبر قنوات باكستان لا يزيد على 8.000 كوسيك. لقد كان الأمر حقا كارثة كبرى». وقد انحسرت المياه عن موزافارغره بعد الأسبوع الثالث في أغسطس، لكن الدمار الذي خلفته وراءها ترك بصمة دائمة على اقتصاد المنطقة الهش فعليا. عن ذلك، قال مين إفتخار، صاحب مطحنة دقيق في كوت أدو، المدينة التي ظلت مغمورة أسفل المياه طوال أكثر من أسبوعين.

ومثلما هي الحال مع غالبية المناطق التي غمرتها الفيضانات بباكستان، تعد موزافارغره منطقة زراعية بصورة أساسية ولا تشهد سوى حركة تجارية بسيطة تتمركز بمعظمها في مدينة كوت أدو وترتبط بالإنتاج الزراعي بالمناطق الريفية. في هذا الصدد، قال أزهر لوند، تاجر محلي في سوق الغلال في كوت أدو: «لقد خسرنا الملايين عندما أغرقت المياه مخازننا، والآن تعرضت معظم المحاصيل للتدمير داخل المقاطعة وبسبب ذلك تراجعت فرص التجارة والربح إلى الصفر تقريبا».

وزارت «الشرق الأوسط» الأراضي الزراعية الواقعة على امتداد نهر إندوس في موزافارغره خلال الأسبوع الثالث من سبتمبر (أيلول) الحالي، وعاينت كيف أن الأراضي التي شكلت ذات يوم معقلا لزراعة قصب السكر والعدس والقمح، باتت خرابا وغطتها طبقة سميكة من الرمال وذلك على امتداد الضفة الشرقية من النهر. في هذا الصدد، أكد ظفر لوند، ناشط سياسي محلي ومزارع، أنه «أصبح من المستحيل زراعة أي شيء هنا حتى توفر الحكومة قروضا ضخمة للمزارعين تعينهم على إزالة طبقة الرمال من على سطح أراضيهم الزراعية».

يذكر أن باكستان تعاني خسائر تقدر بـ250 مليار روبية بقطاعي الزراعة والماشية، وربما تصل تكاليف إعادة الإعمار بعد الفيضانات إلى مليارات الدولارات، حسبما تشير تقديرات الحكومة الباكستانية. وأشار مسؤولون حكوميون التقت بهم الصحيفة إلى أن الفيضانات دمرت محاصيل القطن والأرز وقصب السكر والتبغ التي تقدر قيمتها بمليارات الروبيات.

من جهته، قال جاويد سليم، الرئيس السابق لـ«اتحاد حماية المحاصيل»، إن أكثر من 17 مليون فدان (نحو 9 ملايين هكتار) من الأراضي الزراعية أغرقتها المياه تضم محاصيل أرز وقطن وقصب سكر. كما أتت الفيضانات على أكثر من 100.000 رأس من الجاموس والماعز والأغنام والخيول والجمال والحمير، بجانب 3.000 مزرعة سمكية و2.000 مزرعة دواجن عبر مختلف أرجاء المنطقة المنكوبة. وأضاف سليم أنه «طبقا لأحد التقديرات، فإن خسائر محصول القطن تبلغ وحدها نحو 155 مليار روبية.» داخل البنجاب فقط، تضررت محاصيل قطن مزروعة على مساحة قرابة مليون أكرا ولحق الدمار بمحاصيل بقيمة 86 مليار روبية، حسبما أشار سليم. واستطرد موضحا أن «الحزام الزراعي بأكمله الذي يضم جهانغ وبهاكار وراجانبور ورحميار خان ولياه غمرته المياه». وفقد إقليم السند محاصيل بقيمة 95 مليار روبية على مساحة تتجاوز 100.000 فدان. ويأتي القطن والأرز على رأس المحاصيل المتضررة من الفيضانات. في خيبر بختونخوا، غمرت المياه ما يزيد على 325.000 فدان ودمرت محاصيل تقدر قيمتها بـ29.6 مليار روبية.

طبقا لتقديرات الأمم المتحدة، فإن خسائر القطاع الزراعي الباكستاني تتجاوز بكثير التقديرات الحكومية الأولية. وذكر تقرير صادر عن المنظمة أوردته وسائل الإعلام الباكستانية أن «ما يقدر بـ1.2 مليون رأس من الماشية و6 ملايين من رؤوس الدواجن نفقت بسبب الفيضانات، وربما ينفق المزيد منها بمرور الوقت بسبب سوء التغذية والرعاية البيطرية».

وفي الوقت الذي يحذر مسؤولون أمميون في إسلام آباد من نقص الغذاء بالمناطق المنكوبة، يطرح خبراء محليون صورة أكثر قتامة حول الأوضاع في الفترة المقبلة داخل البلاد. مثلا، أعلنت ستيسي ونستون، المتحدثة الرسمية باسم الأمم المتحدة في إسلام آباد خلال حديث لها إلى «الشرق الأوسط» أن «خط الاستجابة الطارئة للفيضانات الباكستانية في صورتها المنقحة تشير إلى نشاطات بتكلفة 2.006 مليون دولار خلال عام واحد. وبلغت التبرعات التي تلقتها البلاد حتى الآن 434 مليون دولار (21.7% من المال اللازم)، مع وجود تعهدات بتقديم 53 مليون دولار».

من ناحية أخرى، يخشى خبراء باكستانيون من تهديد أكبر ناشئ عن نقص الغذاء في مراكز حضرية باكستانية. من بين هؤلاء ظفر لوند، الناشط السياسي المحلي والمزارع، حيث قال: «انظروا إلى الخريطة وسيتضح لكم أن معظم مناطق زراعة الحبوب الغذائية في البنجاب والسند غمرتها الفيضانات. ومن المحتمل أن يسفر ذلك عن نقص الغذاء في باكستان».

والتساؤل الذي يفرض نفسه: كسف ستتعامل الحكومة الباكستانية مع مشكلة نقص الغذاء؟ وعلى ما يبدو، لا يملك أحد إجابة بعد، وما تزال الحكومة الباكستانية عالقة في محاولة حل مشكلة جمع أموال محليا لتحسين الأوضاع في المناطق المنكوبة، وذلك في مواجهة إدراك عام بأن المجتمع الدولي أبدى بطئا شديدا في الاستجابة لمناشدات المساعدة التي أطلقتها إسلام آباد. وأخبر مسؤول أممي رفيع المستوى «الشرق الأوسط» بأن عجز الحكومة عن جمع أموال كبيرة على الصعيد المحلي يخلق مشكلات أمام المنظمة الدولية بالنسبة لجهودها حث جهات دولية على تقديم تبرعات لضحايا الفيضانات.

ويتمثل الأمر المثير للقلق على نحو خاص تردد الحكومة إزاء إقرار ضريبة الفيضانات المقترحة، حسبما أوضح المسؤول. واستطرد قائلا: «يعجز العقل عن تصديق أننا في الأسبوع السابع بعد وقوع الفيضانات ويزداد الوضع بالمناطق المنكوبة سوء مع كل لحظة تمر، ورغم ذلك لم تتخذ الحكومة الباكستانية بعد قرارا نهائيا بشأن فرض ضريبة على الأثرياء لصالح الفقراء».

وتكمن المفارقة في أنه طبقا لما أوردته وسائل الإعلام المحلية فإنه عندما دعت الحكومة الباكستانية لعقد اجتماع لرجال الأعمال المحليين لحثهم على تقديم تبرعات سخية للمناطق المنكوبة، حضر الاجتماع قليل من كبار رجال الأعمال بالبلاد.

الأسبوع الماضي، أعلنت دول صديقة مضاعفتها تبرعاتها لجهود الإغاثة من الفيضانات وإعادة تعمير المناطق الباكستانية المنكوبة، حيث ضاعفت بريطانيا مساعداتها لتصل إلى 210 ملايين دولار، وأعلنت الولايات المتحدة تقديمها 340 مليون دولار، بينما أعلن الاتحاد الأوروبي تقديمه 350 مليون دولار. كما أعلنت السعودية تبرعها بـ345 مليون دولار. وخصصت إيران 100 مليون دولار لتبرعاتها لباكستان.

وصرح مسؤولون باكستانيون للصحيفة بأنه رغم تعهدات جهات دولية بالمساعدة، فإن الوضع القائم على أرض الواقع يبقى مظلما لأنه من المتوقع ألا تتجاوز التعهدات مجرد أحاديث من دون أفعال، في الوقت «الذي يحتاج السكان الباكستانيون إغاثة عاجلة»، حسبما أكد أحد المسؤولين. وقال لفنتانت جنرال نديم أحمد، رئيس «الهيئة الوطنية لإدارة الكوارث» إن البلاد بها 20% فقط من الغذاء و20% من المياه اللازمين لـ20 مليون نسمة شردتهم الفيضانات بالمناطق المنكوبة.