«الجنسية» مقابل «النفط»

مع اقتراب ساعة صفر استفتاء جنوب السودان.. يتصاعد الجدل حول «المواطنة» وتوقع حالات «بدون» وثلث السكان في مناطق الاختلاط

TT

استيلا غايتانو كاتبة قصصية، وصحافية، وصيدلانية ترجع جذورها إلى قبائل اللاتوكا في شرق الاستوائية بجنوب السودان؛ ولدت بالخرطوم قبل نحو ثلاثين عاما؛ من أبوين جنوبيين لكنها تزوجت بشاب شمالي فأنجبت طفلا يحمل جينات الطرفين.

وفي وقت تعلو فيه أصوات السياسيين حول حقوق المواطنة.. والجنسية، وما إذا كانت ستمنح لجنوبيي الشمال، أو لشماليي الجنوب، قالت استيلا في حزن لـ«الشرق الأوسط»: «ما مصير من لا يريد أن يعيش في دولة المؤتمر الوطني في الشمال، أو الحركة الشعبية في الجنوب؟». اقترحت الكاتبة الشابة أن تتولى الأمم المتحدة مسؤولية مصير ملايين من السودانيين بالسماح لهم بالهجرة خارج جغرافيا المليون ميل مربع، هي مساحة السودان بشماله وجنوبه قبل حصول الانفصال المرتقب.

ويرى سانتينو جون، وهو من ولاية أعالي النيل، ومن قبيلة النوير الجنوبية أن «السودان هو للجميع، فهو بلد يسع كل من يريد العيش فيه بسلام»، وأشار إلى أنه «غير مهموم بحديث الوحدة والانفصال، بقد رما هو مهموم (بالتعايش السلمي)، وحرية الإقامة في الشمال والجنوب»، وروى قصة عمه «الدنقلاوي» من أقصى الشمال معه، وهو يحمل صفة العم، كنوع من الأدب والاحترام لعلاقة قوية ربطت الدنقلاوي بالراحل جون، والد سانتينو، فهي علاقة محبة وود، تجاوز خلالها الاثنان حواجز العرق والدين واللون.

لكن ليس كل جنوبيي الشمال يفكرون بطريقة استيلا وسانتينو، فالجدل مستمر حول «المواطنة»، حيث إن مصير أكثر من مليونين من السودانيين الجنوبيين سيكون معلقا بعد حصول الانفصال خلال استفتاء يناير (كانون الأول).

وانطلقت حمى «الجنسية والمواطنة»، عندما رمى وزير الإعلام السوداني، والقيادي بالمؤتمر الوطني كمال عبيد بقنبلة فجرت كثيرا من التساؤلات، وأثارت المخاوف في نفوس الملايين، عندما قال إن المواطنين الجنوبيين لن يكون لهم حق الإقامة في شمال السودان إذا ما اختاروا الانفصال. وقال عبيد في كلمة في الإذاعة السودانية: «لن يتمتعوا بحقوق المواطنة، والوظائف والامتيازات.. لن يسمح لهم بالبيع والشراء في الأسواق، لن يعالجوا في المستشفيات».

وزاد الطين بلة وزير الدولة بمجلس الوزراء الدكتور محمد مختار، الذي قال لصحيفة محلية، إن «الجنوبيين إذا ما وقع الانفصال لن يحملوا الجنسية السودانية على الإطلاق، وسيفقدون جنسيتهم حال قيام دولة جديدة في الجنوب، ويصبح وضعهم مثل أوضاع حاملي الجنسيات الأخرى ويجب عليهم توفيق أوضاعهم مثلهم مثل بقية الأجانب وسيكون ذلك خلال فترة انتقالية.. وسيترتب على فقدانهم للجنسية فقدان الوظائف في القوات النظامية والخدمة المدنية، مع احتفاظهم بحقوقهم المترتبة على خدمتهم».

وتقول الحركة الشعبية، على لسان نائب الأمين العام ياسر عرمان في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن الدستور السوداني يتيح ويبيح ازدواجية الجنسية، معتبرا أن وجود الشماليين في الجنوب والجنوبيين في الشمال ثروة عظيمة لا تقدر بثمن. وتابع: «بل هي الثروة التي صنعها شعب السودان حيث يرجع تاريخ الارتباط بين الجنوبيين والشماليين إلى آلاف السنين من حضارة وادي النيل القديمة». وتبقى قضية «المواطنة» من أصعب العقبات التي تواجه الشريكين فيما يعرف في ملفات ترتيبات ما بعد الاستفتاء، حيث تشمل الملفات «المواطنة والجنسية»، «الأمن»، «الموارد الطبيعة والاقتصادية»، و«الديون الخارجية والمعاهدات الدولية». وقد بدأ مفاوضو الطرفين جولات من التفاوض حول الملفات الأربعة بمدينة مقلي الإثيوبية والخرطوم وجوبا، ولا تزال المفاوضات مستمرة. ويأتي تعقيد قضية المواطنة، وحساسية الموضوع من أن كثيرين من الجنوبيين يحملون الجنسية السودانية بالميلاد، ومن الصعوبة انتزاعها منهم بالقانون، في وقت يحاول فيه «المؤتمر الوطني» الإمساك بملف المواطنة كورقة ضغط تفاوضية للضغط على الحركة الشعبية، والتي تساوم هي الأخرى بورقة النفط والديون الخارجية. ويرى الخبير القانوني الدكتور محمد عبد السلام خلال ورشة عمل بالخرطوم، أن «قانون استفتاء جنوب السودان لعام 2009، لم يحمل أي إشارة تفصيلية عن قضية المواطنة».

وينوه الخبراء القانونيون بأن قانون الجنسية السوداني؛ يعطي الحق لأي مواطن سوداني في اكتساب الجنسية والجنسية المزدوجة ويعطي حق التجنس بشرط الإقامة لمدة خمسة أعوام، ولا يمكن انتزاع الجنسية السودانية التي منحت بالميلاد، لكن القانون السوداني منح رئيس الجمهورية سلطة سحب الجنسية السودانية من أي سوداني إذا ثبت أنه قد حصل على شهادة الجنسية السودانية بطريق الغش أو بتقديم بيانات كاذبة أو بإخفاء أي واقعة مادية، أثناء أي حرب، يكون السودان مشتركا فيها أو كان مشتركا فيها، أو تاجر مع العدو أو اتصل به أو تاجر مع أي شخص ينتمي إلى أي دولة معادية أو اتصل به، أو كان طرفا في أي معاملة يعلم أنها تمت على وجه يهدف إلى معاونة العدو في الحرب أو كان ذا صلة بتلك المعاملة.

ويجوز للرئيس قبل أن يصدر قرارا أن يقوم بإخطار الشخص المعني كتابة بالأسباب التي اقترح القرار من أجلها، مع إخطاره أيضا بأنه يجوز له أن يقدم طلبا بإحالة الموضوع إلى لجنة تحقيق. لكن المؤتمر الوطني يشدد بأن كل من تنطبق عليه شروط المشاركين في عملية الاستفتاء، سوف يفقد الجنسية السودانية بمجرد إعلان انفصال الجنوب. ويؤكد وزير الدولة بمجلس الوزراء محمد مختار: «نحن لا ننظر لهذا الموضوع كموضوع حزبي. هذه قضية مصيرية ترتبط بمستقبل شعب بأكمله. اجتهدنا في استقراء الآراء كافة وبصور مختلفة، نحن نجتهد في التوصل إلى حلول مُعتمدين على قاعدة شعبية أنتجتها الانتخابات الأخيرة، وأرجو أن أصوب السؤال. ليس هناك جنوبي شمالي، هناك جنوبيون نزحوا بسبب الحرب أو انتقلوا إلى منطقة أخرى داخل الوطن، وآخرون لأسباب اجتماعية أو مقتضيات وظيفية.. جنوبيو الشمال الوحيدون هم دينكا نقوك في منطقة أبيي، الذين اختاروا التوجه شمالا اختياريا في مرحلة تاريخية سابقة ولأسباب سياسية معلومة.. وحتى هؤلاء منحتهم الاتفاقية ضمن بقية سكان المنطقة حق الاستفتاء لتقرير مصيرهم في البقاء ضمن حدود الشمال أو الجنوب».

ويرى مختار أن «الاتفاقية منحت الجنوبيين حق تقرير المصير وأعطتهم فقط حق التصويت، دون بقية مواطني السودان، لتحديد وضعهم وإذا قرّروا الانفصال يصبحون تلقائيا مواطني دولة أخرى ومنحهم جنسية الجنوب سيسقط عنهم تلقائيا الجنسية السودانية، بغض النظر عن مشاركة الشخص في الاستفتاء أم لا أو تصويته للوحدة»، ويضيف «إن احتفاظ الجنوبيين بجنسية السودان سيعني تكرار ذات المشكلة الحالية في المستقبل. والسؤال هنا إذا كُنت تريد البقاء في الشمال والاحتفاظ بالجنسية لماذا المطالبة بحق تقرير المصير والحديث عن الحقوق غير المتساوية للمواطن». وهدد مختار باتخاذ أي خطوات من قبل الخرطوم حال الانفصال قائلا: «طلبنا من الحركة الاتفاق على معالجة ما، لأننا في النهاية إذا ما وقع الانفصال دون الاتفاق على ترتيبات معيّنة يكون لنا حق التصرف وفق رؤيتنا الخاصة بما يحفظ حقوق بقية المواطنين. الحركة الآن تضلل المواطن الجنوبي وتطالبه بالتصويت للانفصال وتمنيه بأنها ستضمن له المواطنة في الدولة الأم وهذه ليست مسألة جديدة، حاولها من قبل دعاة الانفصال في إقليم كيوبيك في كندا والذين أشاعوا في الإقليم أن انفصال الإقليم لا يعني نزع الهوية الكندية من السكان مما اضطر الجهات المسؤولة في كندا لتفنيد تلك الدعاوى مما أثر جذريا فيما بعد». لكن ياسر عرمان يرى «أن الإحصائيات تشير إلى وجود تسعة ملايين شخص من المنتمين للقبائل التي تقطن في شمال السودان تعيش في حزام التمازج المحازي للجنوب، وهنا تأتي قضية قبائل التماس الواقعة على الحدود، ومن أشهرها قبيلة المسيرية التي تنازع قبيلة دينكا نقوك الجنوبية في منطقة أبيي الغنية بالنفط، حيث تمتلك القبيلة ذات الأصل العربي ثروة حيوانية كبرى تقدر بملايين الرؤوس من الأبقار التي تتحرك عبر مسارات معروفة من الشمال نحو الجنوب بحثا عن المرعى والماء في رحلة الشتاء والصيف والخريف».

ويرى مراقبون أن الحديث عن إبعاد الجنوبيين من الشمال، أو اتخاذ إجراءات سياسية بنزع جنسياتهم السودانية، سوف ينعكس سلبا على تحركات أفراد قبيلة المسيرية الرعوية.

وفي ذات السياق يشير عرمان إلى أن أربعة ملايين من المواطنين الجنوبيين يسكنون الحزام الحدودي مع الشمال، وقال: «بالتالي هناك ثلاثة عشر مليون في حزام التمازج وهؤلاء يساوون ثلث سكان السودان»، وأضاف: «إن العلاقة بين الجنوبيين والشماليين أقدم من الدولة السودانية ومؤسساتها، مشيرا إلى أن الشعب السوداني استطاع المحافظة على العلاقات الاجتماعية ونسيجها، مطالبا بضرورة أن يرحب بالشماليين في الجنوب وكذلك الجنوبيين في الشمال حتى في حالة الانفصال».

ومع أن الخبراء الدوليين وضعوا خارطة طريق للتعامل مع قضية «المواطنة» إلا أن الجدل السياسي السوداني ينذر بوجود أزمة قد تفضي إلى «بدون» جدد في السودان. وحسب الخبراء القانونيون فإن انتزاع الجنسية أمر يتنافى مع المبادئ العامة لحقوق الإنسان وإن القانون الدولي حرم انتزاع الجنسية بعد التسعينات من القرن المنصرم، خاصة بعد الحرب بين يوغسلافيا السابقة وكوسوفو، لأن حرمان الأشخاص من جنسيتهم له تأثير على السلم والأمن الدوليين. لكن المخاوف تتزايد كل يوم مع اقتراب ساعة الصفر، والتي تبقت لها أقل من 85 يوما، وهو ما يفسر حركة غير عادية لرحلات من الشمال للجنوب، واضطرار بعض الموظفين الجنوبيين في الشمال لتقديم استقالاتهم من بعض المؤسسات تحسبا لتفادي مخاطر متوقعة قد تصل حد المواجهات العرقية، أو الإبعاد القسري؛ رغم أن الرئيس البشير أكد أن الدولة ستحمي الجنوبيين، وأنهم لن يطردوا من الشمال حتى ولو وقع الانفصال.