الرئيس الذي حصل على نجوميته من «المنجم»

الرئيس التشيلي سيباستيان بينيرا.. رجل قلبه على عماله وعقله عقل سياسي شاطر

الرئيس التشيلي سيباستيان بينيرا
TT

في الأسبوع الماضي، تابع مليار شخص في العالم، كما قالت وكالات الأنباء، عملية إنقاذ ثلاثة وثلاثين عامل منجم كانوا محتجزين تحت الأرض لأكثر من شهرين في قاع منجم في تشيلي. في اللحظة التي خرج فيها آخر عامل، أطلقت 33 بالونة تحمل ألوان علم تشيلي في سماء «هوب كامب» (مخيم الأمل) الذي انتظرت فيه أسر وأصدقاء العمال منذ الانهيار الأرضي الذي احتجزهم على عمق يزيد على ستمائة متر تحت سطح الأرض.

كان هناك رجل ظل ساهرا طوال الليل حتى لحظة خروج آخر رجل من المنجم المنهار.. ذلك هو الرئيس التشيلي سيباستيان بينيرا، الملياردير الذي يصف بأنه «برلسكوني تشيلي»، خريج جامعة هارفارد الأميركية، الذي تابع عمليات الإنقاذ يوما بعد يوم. ومرات كثيرة زار المكان، وكان حريصا على أن يحضر لحظات إخراج العمال، لحظة بلحظة واستقبلهم واحدا واحدا. ووصف الرئيس، قائد فريق الإنقاذ، لويس أورثوا، الذي نظم عملية الخروج، بأنه الذي «اخلص في أداء واجبه كقائد، كونه آخر من خرج». ثم ردد الجميع النشيد الوطني التشيلي، بينما وضع العمال خوذات المنجم على صدورهم. وفي العاصمة سانتياغو، التي تبعد بمسافة ألف كيلومتر تقريبا، جابت السيارات الشوارع مطلقة العنان لأبواقها تحية لإنقاذ حياة العمال. والتف الناس حول رئيسهم المنتخب الذي حصل على نجوميته من «المنجم». وكان قلبه على عماله وعقله عقل سياسي شاطر.

ربما لم يشتهر اسم «بينيرا» مثلما اشتهر اسما «الليندي» و«بينوشيه». كان الأول رئيسا اشتراكيا في تشيلي عندما وقع انقلاب عسكري سنة 1973 بقيادة الجنرال بيونشيه الذي أسس نظاما ديكتاتوريا ورأسماليا. في سنة 1988، أخطأ بينوشيه، وأجرى استفتاء حول نظامه، وعندما سقط، انتهى النظام العسكري فعلا، ووجدت الأحزاب السياسية فرصة للتنافس على الحكم.

خلال عشرين سنة تقريبا منذ ذلك الوقت، ظل التنافس بين حزبين رئيسيين: حزب التغيير (المحافظ) حزب الرئيس الحالي بينيرا، والحزب الاشتراكي، حزب الليندي. وظل الحزبان يتبادلان الحكم فترة بعد فترة. قبل بينيرا المحافظ، كانت هناك ميشيل باشيليه، من الحزب الاشتراكي، أول امرأة تصير رئيسة لشيلي.

بالنسبة لأميركا الجنوبية والوسطى، كان جزء كبير من القرن العشرين هو قرن انقلابات عسكرية. لكن، خلال الثلاثين سنة الأخيرة، عادت الديمقراطية حتى شملت كل الدول، ما عدا كوبا. حتى اليوم، تظل كوبا ظاهرة تناقضية:

أولا: بادرت بالثورات ضد الحكومات الديكتاتورية (عسكرية أو مدنية، وكانت مدنية في حالة كوبا: فولجينكيو باتستا).

ثانيا: هي الآن آخر الدول التي تحكمها ديكتاتورية.

ثالثا: تلعب دورا غير مباشر في نشر الاشتراكية (إن لم تكن الشيوعية) والذي ينظر اليوم إلى خريطة أميركا الوسطى والجنوبية، يرى حكومات اشتراكية في: بوليفيا، وفنزويلا، وإكوادور، والبرازيل. وكلها، بطريقة ما، تعتبر كوبا الرائد، رغم أنها لا توافق على نظام كوبا الديكتاتوري.

تحكم هذه البلاد حكومات اشتراكية ديمقراطية، رغم أن ديمقراطية الرئيس الفنزويلي شافيز يسودها لون عسكري (بسبب خلفيته)، ولون ديكتاتوري (بسبب ممارساته الحالية).

تشيلي تتناوب بين حكومات اشتراكية ومحافظة. لكنها، مثل الأرجنتين، لها طعم خاص. ربما لارتفاع مستواها الحضاري، وربما بسبب الأغلبية البيضاء من أصل أوروبي. ولهذا، ربما تعمد الرئيس بينيرا، بعد إنقاذ عمال المناجم، أن يقول لهم: «لو كنتم في بلد غير تشيلي العظيمة، لما خرجتم أحياء». ربما يقصد عمال المناجم الذين يموتون تحت الأرض في مناجم جنوب أفريقيا، والكونغو، وأنغولا. وربما حتى في الصين، حيث يموت المئات من وقت لآخر تحت الأرض. وركز الرئيس بينيرا على ما سماه «التراث التشيلي». وربما قصد الإشادة بالحضارة الغربية (المسيحية البيضاء). وهذا موضوع مهم لكنه لا يناقش علنا (ربما في دول كثيرة أخرى). نسبة سكان تشيلي من أصل أوروبي هي ستين في المائة، والبقية خليط من الأوروبيين والهنود الحمر، مع نسبة أربعة في المائة من الهنود الحمر الأصليين، وفقط مائة ألف أسود.

ربما مثل الأرجنتين، حيث نسبة البيض تسعين في المائة، ونسبة المختلطين خمسة في المائة، ونسبة السود والعرب والآسيويين خمسة في المائة. لكن، في دولة مثل بوليفيا، يشكل البيض أقل من نسبة عشرين في المائة، والبقية هنود حمر، أو خليط مع البيض، بالإضافة إلى خمسة في المائة من السود. وفي السلفادور يشكل البيض نسبة أقل من عشرة في المائة، ونسبة تسعين في المائة هي «مستيزو» (خليط من البيض والهنود الحمر).

شيء آخر: أغلبية البيض في تشيلي والأرجنتين من شمال أوروبا (بريطانيا وألمانيا وفرنسا) وأغلبية البيض في بوليفيا وكوبا والبرازيل والسلفادور من جنوب أوروبا (إيطاليا وإسبانيا والبرتغال). وفي الأحاسيس غير المعلنة، يميل أحفاد الأوروبيين الشماليين نحو التعالي على أحفاد الأوروبيين الجنوبيين (ربما حتى في أوروبا نفسها) جدود والد الرئيس بينيرا هاجروا من النمسا، وجدود والدته هاجروا من إسبانيا. فهو من الأغلبية البيضاء المسيطرة على الحكم وعلى الاقتصاد وعلى الثقافة.

وكان والده سفير تشيلي لدى بلجيكا ولدى الأمم المتحدة. وهو الطفل الثالث وسط ستة أطفال، كبرت أغلبيتهم وامتهنت التجارة والاستثمار. وبينما صار واحد اشتراكيا، صارت للبقية ميول رأسمالية ومحافظة واضحة. واحد منهم كان أكثر محافظة، وصار وزيرا في حكومة بينوشيه العسكرية اليمينية التي سقطت في سنة 1988.

أما الرئيس بينيرا، فيبدو أنه منذ سن مبكرة أعد نفسه ليكون رئيسا لوطنه. في سن مبكرة، وبسبب تنقلات والده الدبلوماسي، صار أكثر خبرة بالعالم الخارجي. عاش سنوات في بلجيكا، وفي إسبانيا، وفي مدينة نيويورك حيث كان والده السفير التشيلي لدى الأمم المتحدة.

ورغم أنه درس في مدارس أجنبية كثيرة، كانت دراسته الأساسية في الجامعة الكاثوليكية البابوية في تشيلي، حيث حصل على شهادة جامعية في الاقتصاد. ثم عاد إلى الولايات المتحدة، هذه المرة طالب دراسات عليا في جامعة هارفارد. وفي سنة 1976، تخرج بدكتوراه في الاقتصاد، وكانت أطروحته بعنوان «اقتصاديات التعليم في البلدان النامية».

بعد أن عاد إلى وطنه، صار أستاذ اقتصاد في جامعة تشيلي، ثم في الجامعة البابوية الكاثوليكية في تشيلي، التي كان تعلم فيها. عمل في التدريس الجامعي لعشرين سنة تقريبا، وكان، في الوقت نفسه يعمل في مجال الاستثمارات، بالاشتراك مع بعض إخوانه، وفي العمل الاجتماعي والسياسي. وفي سنة 1989، أسس مؤسسة للحرية والعدالة والديمقراطية، مع نهاية ديكتاتورية بينوشيه. وركز على احترام حقوق الإنسان في تشيلي، ومنذ ذلك الوقت، صار واضحا أن الأستاذ الجامعي والمستثمر الاقتصادي صارت له طموحات سياسية. وزاد من الطموحات والشهرة مناظرات وكتابات في الصحف بينه وبين شقيقه الذي كان وزيرا للعمل في حكومة الجنرال بينوشيه. وبينما ركز الشقيق على النهضة الاقتصادية الواضحة خلال سنوات الحكم العسكري، ركز هو على أن النهضة الاقتصادية كان يمكن أن تتحقق في ظل الحرية والديمقراطية.

وربما للتمهيد لطموحاته السياسية، ترك الدراسة الجامعية، وصار يستثمر أكثر في مجالات الصحف والتلفزيون. واشترى «تشيلي فيشون» (تلفزيون تشيلي)، بالإضافة إلى استثمارات أخرى. (مؤخرا، عندما ترشح لرئاسة الجمهورية وفاز، قيل إن ثروته وصلت إلى مليار دولار).لكن، لم يكن تاريخه الاستثماري نظيفا. خلال الحملات الانتخابية التي خاضها، أثيرت اتهامات ضده عن الطرق التي جمع بها ثروته. مثل أنه كان تورط في قضية عن بطاقات الائتمان والأرصدة الأجنبية في عام 1982. وصدر أمر باعتقاله، بعد أن اتهم بانتهاك قانون البنوك خلال فترة توليه منصب المدير العام لبنك «تالكا». وقضى 24 يوما مختبئا، ثم برئ في ظروف غامضة، واتهم بأنه «اشترى العدالة».

وعندما ترشح أول مرة لرئاسة الجمهورية سنة 2006، اضطر لأن يعقد مؤتمرا صحافيا ويعلن فيه أنه «بريء»، وأن أعداءه السياسيين نشروا اتهامات كاذبة ضده. لكن، كانت سمعته تأثرت قليلا، وإن لم يكن كثيرا. وقارنه مراقبون سياسيون بأنه مثل سلفيو برلسكوني، رئيس وزراء إيطاليا، وأيضا رجل أعمال ناجح، وأيضا، تدور حوله اتهامات الفساد.

خلال الاستفتاء الذي أجري سنة 1988، والذي وضع نهاية لحكم بينوشيه العسكري، اشترك بينيرا في مظاهرات ضد بينوشيه، وفي عمليات تنسيق مع قوى المعارضة. وعندما اقتربت انتخابات سنة 1992، وكانت أول انتخابات حرة تشهدها تشيلي منذ عشرين سنة تقريبا، حاول بينيرا أن يترشح باسم حزبه، حزب التغيير. لكن لم تكن فرص نجاحه كبيرة لأن بعض معارضيه، حتى من داخل حزبه، اتهموه بأنه لم يكن، حقيقة، ضد نظام بينوشيه، وأنه أثرى منه.

في عام 1998، بعد اعتقال واحتجاز الجنرال بينوشيه (وكان ترك الحكم منذ عشر سنوات) في لندن، لم يدافع عنه بينيرا، لكنه قال إنه يدافع عن «سيادة تشيلي». واعتبر الاعتقال انتهاكا لسيادة تشيلي. بعد ذلك بسنتين، صار بينيرا رئيس حزبه، حزب التغيير. وترشح لمجلس الشيوخ في انتخابات سنة 2001، لكنه فشل. ثم ترشح مرة أخرى سنة 2004، لكنه أيضا فشل.

وفي سنة 2005، في خطوة مفاجئة، أعلن بينيرا ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية. وفي سنة 2006، في الجولة الأولى حصل على نسبة 25 في المائة من الأصوات. وفي انتخابات الإعادة، فازت عليه ميشيل باشيليه، مرشحة الائتلاف الاشتراكي، وأول امرأة ترأس تشيلي. يوم هزيمته، ألقى بينيرا خطابا حماسيا قال فيه: «لن نترك الاشتراكيين يحكمون تشيلي. سيعود حزب التغيير إلى الحكم، وسيبرهن على أن الاشتراكية ليست هي طريق العدالة، ولكن الاستثمار العاقل». وفي انتخابات بداية هذه السنة، ترشح وفاز.

طبعا، لا يمكن اعتبار الرئيس بينيرا محافظا على طريقة الرئيس السابق بينوشيه. يؤمن بالرأسمالية، لكن مع حرية كاملة تعطي الاشتراكيين والشيوعيين وحتى المحافظين المتطرفين (عدا النازيين) حرياتهم. في الجانب الآخر، قال إدواردو فراي، مرشح الحزب الاشتراكي الذي قال جملة مثل التي قالها الرئيس بينيرا عندما سقط في انتخابات سنة 2006: «لن نترك المحافظين يحكمون تشيلي. سنعود إلى الحكم، وسننصف الفقراء والأطفال والعجزة».

لهذا، يبدو الصراع بين الحزبين في تشيلي قريبا من الذي بين الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا: في جانب، محافظون يميلون نحو نظرية الرئيس الأميركي السابق ريغان: اقتصاد «تريكل داون» (نقاط الماء تصب نقطة نقطة). أي إن الحكومة تخفض سعر الفائدة والضرائب لتقدر الشركات والأغنياء على الاستثمار أكثر والربح أكثر، ثم يصب جزء من هذا الربح، نقطة بعد نقطة نحو الطبقتين الوسطى والدنيا.

في جانب، ليبراليون (أو اشتراكيون) يميلون نحو نظرية الرئيس الأميركي السابق روزفلت: اقتصاد «ويلفير» (الرفاهية للجميع). أي إن النظام الرأسمالي يستمر، لكن تراقب الحكومة الأغنياء والشركات. أولا: لأنها تمثل الشعب، وهم لا يمثلونه. ثانيا: لأن هدفهم هو الربح المالي، وهدفها هو رفاهية الشعب. وفي تشيلي، مثلما في هذه الدول الأخرى، وطبيعيا، ساعد الأغنياء والشركات حزب الرئيس بينيرا أكثر من مساعدتهم للحزب الاشتراكي. وخلال الحملة الانتخابية الأخيرة اتهم الاشتراكيون الرئيس بينيرا بشيئين: أولا: أن الأغنياء والشركات ساعدته. ثانيا: أنه «اشترى الانتخابات»، أي صرف من أمواله الخاصة.

وفي تعليق على نتيجة الانتخابات، كتبت صحيفة «ميامي هيرالد»: «يعني انتصار بينيرا تحولا نحو يمين الوسط. يعنى كسر عقد من القيادة السياسية لتيار يسار الوسط. لكن، ربما ستعود تشيلي إلى يسار الوسط لأن بينيرا فاز بأغلبية قليلة». وسألت: «أليس من الحق أن تتبادل تشيلي الحكم ما دام شعبها منقسما؟ أليس هذا شبيها بما يجرى هنا (في الولايات المتحدة)؟» لكن، من الظلم للولايات المتحدة ولدول مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا أن تقارن مع تشيلي. يمكن أن تقارن تشيلي مع إيطاليا مثلا. أن يقارن الرئيس بينيرا مع رئيس وزراء إيطاليا برلسكوني. لا يوجد، ولم يوجد، رئيس أميركي يملك شركات سيارات وتلفزيونات وصحف. يفعل برلسكوني هذا في إيطاليا، والآن بدأ يفعله الرئيس بينيرا في تشيلي.

في بداية هذه السنة، بعد أن فاز الرئيس بينيرا، أعلن أنه سيبيع ربع حصته في شركة الطيران التي يملكها. ولم يقل إن عائلة «كويتو» التي ينتمي إليها تملك بقية الأسهم، ولن تبيعها. وأن جزءا من أسهمه في شركة مستشفيات ستتحول إلى مؤسسة خيرية. طبعا، يقدر ملياردير مثل بينيرا (وبرلسكوني) أن يحول أمواله يمينا ويسارا، ويقدر، في الوقت نفسه على أن يقول إنه ترشح وفاز في انتخابات حرة. لكن، كما قال الاشتراكي فراي، الذي انهزم أمام الرئيس بينيرا في بداية هذه السنة: «يقدر التاجر على أن يكون سياسيا. وعلى أن يترشح في انتخابات حرة ويفوز. لكنه لن يقدر على أن يفصل بين التجارة والسياسة».