جان دارك البرازيل

أول امرأة ترأس البرازيل شاركت في هجوم على سجن لتحرير زوجها.. ونفذت محاولات سطو على بنوك لتمويل الثورة

TT

في نفس الأسبوع الذي مالت فيه الولايات المتحدة نحو اليمين، بعد أن سيطر الحزب الجمهوري على الكونغرس، مع زيادة قوة الجناح اليميني داخل الحزب (حزب الشاي)، ارتفعت أسهم اليسار في أميركا اللاتينية. في البرازيل، فقد فازت ديلما روسيف برئاسة الجمهورية لتصبح أول رئيسة. هي ديمقراطية اشتراكية جاءت بعد ديمقراطي اشتراكي: الرئيس الذاهب لويس لولا دا سلفا، وتلميذته، وصديقته، ومساعدته. كانت آخر وظيفة لها رئيسة موظفي القصر الجمهوري لخمس سنوات. اشتراكية مثله، لكنها ربما أكثر ثورية منه، لأنها سجنت أكثر منه، عندما كانا يقاومان الحكومات الديكتاتورية العسكرية.

مثل كثير من دول العالم الثالث في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، استعمر الأوروبيون دول أميركا اللاتينية لمئات السنين. لكن، ثار اللاتينيون قبل مائة سنة من ثورات بقية دول العالم الثالث. بالنسبة للاتينيين، كان القرن التاسع عشر قرن الثورات، والقرن العشرين قرن الحكومات العسكرية والديكتاتورية. ويبدو أن القرن الحادي والعشرين هو قرن الديمقراطية، يسارية أو اشتراكية، أو ليبرالية، وأحيانا يمينية.

مع بداية هذا القرن:

أولا: البرازيل يسارية (بقيادة لولا، رئيس اتحاد عمال ثائر، والآن روسيف).

ثانيا: فنزويلا يسارية (بقيادة شافيز، عسكري ثائر، ربما لهذا له نزعات ديكتاتورية) ثالثا: باراغواي يسارية (بقيادة لوغو، قسيس ثائر، يؤمن بأن الدين يدعو أول ما يدعو إلى العدل).

رابعا: الإكوادور يسارية (بقيادة كورريا، بروفسور نال الدكتوراه في الولايات المتحدة).

خامسا: اليوروغواي يسارية (بقيادة ميويكا، قائد ثوار «توبوماروس» ضد الجنرال باراكوي).

سادسا: الأرجنتين يسارية (بقيادة كيرشنر، ثم زوجته كريستيا. توفي الزوج في الأسبوع الماضي. لكن، الاثنان أقل يسارية من سابقهما: كارلوس منعم، عربي الأصل).

سابعا: تشيلي كانت يسارية (بقيادة ميشيل باشيليه، طبيبة درست في الولايات المتحدة). وقبل ستة شهور فاز بنيرا، (رجل أعمال، وصاحب شركات وصديق الولايات المتحدة).

ثامنا: بوليفيا يسارية (بقيادة موراليس، رئيس اتحاد نقابات عمال، وأول هندي أحمر يصير رئيسا في بلد أغلبيته منهم).

تاسعا: نيكاراغوا يسارية (بقيادة أورتيغا، قائد ثوار «ساندنيستا» ضد الجنرال سوموزا، حليف الولايات المتحدة).

عاشرا: السلفادور يسارية (بقيادة فيونز، صحافي ثائر، وعمل مع تلفزيون «سي إن إن» الأميركي).

ديلما روسيف، رئيسة البرازيل اليسارية، عمرها ثلاث وستون سنة. وهي بنت مهاجر من بلغاريا. وورثت اليسارية عنه، لكن ليس الشيوعية.

قبل الحرب العالمية الثانية، ومع انتشار الشيوعية في شرق أوروبا، كان والدها، بيتر روسيف، من قادة الحزب الشيوعي البلغاري. لكنه هرب إلى البرازيل بسبب المضايقات في ذلك الوقت. وترك زوجته التي لم يرها بعد ذلك، غير أن ولده الذي كان تركه أيضا، انضم إليه في وقت لاحق. (ربما لو كان انتظر في بلغاريا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كان سيرى بلغاريا ودولا أخرى في شرق أوروبا تتحول إلى الشيوعية).

في البرازيل، تزوج برازيلية، وغير اسمه البلغاري «ببطار راسيف» إلى اسم برازيلي «بتور روسيف». وتحول من الشيوعية إلى الاشتراكية. بل وصار رجل أعمال ناجحا، وربى ديلما وبقية أولاده وبناته تربية شبه ارستقراطية: خدم وحشم في المنزل الكبير، ودروس في اللغة الفرنسية، وفي البيانو، وتأنق في المأكل والمشرب.

كتب البرازيلي إليان بينيت كتيب: «حياة ديلما روسيف»، وكتب فيه أنها، منذ أن كانت صغيرة، كانت تجادل والدها أكثر من إخوانها وأخواتها. وكانت تجادله أكثر في السياسة، بل وكانت تتهمه بأنه لم يعد ثوريا كما كان.

ومرة، في جلسة من جلسات العائلة حول مائدة العشاء، قالت البنت: «أنت طلقت الثورة وتزوجت المال». فرد: «أقدر على أن أكون ثوريا وغنيا». وقالت: «لماذا تركت الشيوعية؟». ورد: «انظري ماذا فعلت في بلغاريا والمعسكر الشيوعي. إذا خيرت بين الشيوعية والحرية، أفضل الحرية، ولهذا هربت».

كان ذلك قبل سقوط الحزب الشيوعي الروسي، وقبل انهيار الاتحاد السوفياتي، وقبل أن تصير بلغاريا وبقية دول المعسكر الشيوعي دولا ديمقراطية، اشتراكية، أو يسارية.

وكان ذلك خلال حكم الديكتاتورية العسكرية في البرازيل (خلال ثلاثين سنة، تعاقب الجنرالات غيسيل، وغولارت، وفيغريدو).

ومرة أخرى، خلال عشاء للعائلة، سألت البنت والدها: «أيهما أفضل: الحزب الشيوعي مثلما في بلغاريا، أم الديكتاتورية العسكرية مثلما هنا في البرازيل؟» وأجاب: «الاثنان ليس فيهما حرية». وسألت: «لماذا لا تناضل هنا، مثلما كنت تناضل في بلغاريا؟» فأجاب: «ألا ترين أنني كبرت في السن؟» وحقيقة، توفي بعد ذلك بسنوات قليلة.

يبدو أن مثل هذه الحوارات هي التي جعلت البنت، منذ المدرسة الثانوية، ثورية. ليس نظريا فقط، ولكن أيضا فعليا.

وكتبت صحيفة «نيويورك تايمز» في استعراض لتاريخ حياتها، أنها: «صارت ثورية رغم أنها درست في مدرسة راهبات، وأجادت اللغة الفرنسية. وصارت ثورية رغم أن والدها، عندما توفي، ترك لها خمسة عشر عقارا».

عندما كان عمرها ست عشرة سنة (وبعد نقاش فلسفي آخر مع والدها حول مائدة العشاء)، أقنعت والدها بان يحولها من مدرسة الراهبات الخاصة إلى مدرسة حكومية. قالت له: «الراهبات لسن ثوريات. لكنهن، أول من يجب أن يكن ثوريات، لأن عيسى المسيح ثار ضد الظلم».

في المدرسة الثانوية الحكومية، أسست أول جمعية طلابية، وكانت الأجندة السياسية فيها واضحة. بل وسببت لها مشكلات مع إدارة المدرسة. في صحف حائطية، اشتركت في نقاش مع يساريين ويساريات حول «الثورة» و«الاشتراكية» و«التحرير الوطني» و«الكفاح المسلح» و«ليبراسيون» (نظرية دينية يقودها بعض رجال الدين، وتدعو للتمرد ضد الحكومات الديكتاتورية). وكتبت في واحدة من صحف الحائط: «بعد أن قرأت كتاب «ثورة داخل الثورة» للفرنسي ريجيه دوبريه، اقتنعت بأن الثورة الحقيقية ليست نظريات ومحاضرات ومناقشات، ولكنها الكفاح المسلح». في ذلك الوقت، كان الفيلسوف الفرنسي دوبريه انتقل إلى كوبا، وصار صديقا للرئيس فيدل كاسترو.

وفي سنة 1967، وعمرها عشرون سنة، انضمت إلى حزب شباب العمال (فرع من الحزب الاشتراكي)، وكتبت في يومياتها: «لا مكان في العالم لبيوتانتز» (بنات الأغنياء الجميلات اللائي يستعرضن جمالهن وثراءهن في حفلات عائلات ارستقراطية). وكانت هي جميلة من الجميلات الارستقراطيات.

وبعد سنة، وعمرها واحدة وعشرون سنة، تزوجت كلوديو لونهارو، صحافي ثوري، وكان أكبر منها بخمس سنوات، وكان زميل كفاحها وصديقها وأستاذها. بعد الزواج بسنة، اعتقل الزوج لأنه اشترك في محاولة انقلاب عسكري. كان طرد من العمل العسكري قبل ذلك بسنوات بسبب اتجاهاته اليسارية والثورية. لكنه، من خارج العسكرية اشترك مع عسكريين في محاولة الانقلاب، وكان محظوظا لأنه لم يقتل في معركة دامية اعتقل خلالها.

وزوجها في المعتقل، قررت، أخيرا، أن تحمل السلاح. ذهبت إلى معسكرات سرية في الريف البرازيلي، حيث أقام الثوار مدارس لتدريس الثورة، وأيضا، لتعليم استعمال المسدسات والبنادق والكلاشنكوف.

اشتركت في محاولة للهجوم على السجن الذي فيه زوجها، ومناضلون آخرون، لإطلاق سراحهم. لكن، فشلت المحاولة، وهربت. ثم اشتركت في محاولات للسطو على بنوك لسرقة أموال لتمويل الثورة. وكادت أن تقتل أو تعتقل، في سنة 1969، عندما هجمت الشرطة على منزل سري كانت فيه مع ثوريين وثوريات. واستخدمت في الاشتباكات قنابل ومسدسات وأسلحة رشاشة. وقتل ثوري وجنديان.

وبعد أن هربت، بدأت في النوم كل ليلة في مكان مختلف، واتفقوا كلهم على تجنب بيوت عائلاتهم (كان والده توفي). ولإخفاء أنفسهم، كانوا يغيرون أشكالهم وملامح وجوههم، بعمليات جراحية سرية (آثار بعضها ظاهرة حتى اليوم على وجهها).

يوم 16 - 1 - 1970، اعتقلتها الشرطة، بعدما أوشى بها واحد من جماعتها. وعندما قدمت إلى المحاكمة، وصفها الاتهام بأنها «تريد أن تكون جان دارك البرازيل» (إشارة إلى الفرنسية، بطلة الثورة الفرنسية سنة 1789).

حكم عليها بالسجن ست سنوات (كانت سجنت قبل ذلك أكثر من مرة). لكن، أطلق سراحها قبل أن تكمل الست سنوات. اعتقل (زوجها) بعدها بفترة قصيرة، وأيضا حوكم. وقبل إطلاق سراحها التقيا في السجن مرات كثيرة.

(بعد اعتقالهما بثلاثين سنة تقريبا، وبعد عودة الديمقراطية، نشر الزوج والزوجة خطابات، ومذكرات ووثائق عن فترة السجن والتعذيب. وكانا رفعا قضايا ضد العسكريين الذين اعتقلوهما، وحاكموهما، وعذبوهما).

بعد زواج عشر سنوات، تطلقا، ووقعت في غرام ثوري آخر: بولا ايولو الذي رافقها لثلاثين سنة تقريبا. لم يكن الزوج الثاني ثوريا أقل من الزوج الأول. لكن، تغيرت الظروف. وانتهت عهود الديكتاتورية العسكرية.

أو كادت أن تنتهي، لأنه، في آخر العهود الديكتاتورية، وتحت إشراف القوات المسلحة، حكم البرازيل حزبان فقط. وكان واضحا أن هذا نظام غير كامل الديمقراطية. وبعد انقلابات وانقلابات مضادة، قرر العسكريون نهائيا أن يتركوا السياسة للسياسيين.

بالنسبة للزوجين الجديدين، وخلال العشر سنوات التالية، تركا ريودي جانيرو، وعادا إلى ريف البرازيل، ليواصلا، كما قالا: «الثورة السلمية». وكزعيمين للحزب الاشتراكي البرازيلي، خاضا انتخابات وقاما بنشاطات كثيرة، وترشحا وفازا في مناصب إقليمية. وخلال تلك الفترة، عادت إلى الدراسة الجامعية، وأكملتها (كانت قطعتها عمدا للانضمام إلى الثوار). ثم حصلت على ماجستير في الاقتصاد. وأهلها هذا لتكون وزيرة إقليمية للاقتصاد باسم الحزب الاشتراكي.

وقبل خمس عشرة سنة، انتقلت من وزارات محلية إلى وزارة ولاية، وصارت وزيرة للطاقة. وخلال تلك الفترة، تعرفت شخصيا، وبدأت في التعاون مع، لولا، الزعيم النقابي الذي كان مشهورا، قبل أن يترشح لرئاسة الجمهورية. واستطاع إقناعها بأن تتحول من الحزب الاشتراكي إلى حزبه، حزب العمال. وعندما ترشح وفاز بالرئاسة سنة 2000، اختارها وزيرة للطاقة.

وكانت تلك بداية الطريق نحو رئاسة الجمهورية.

لكن، يبدو أن روسيف لم تكن سعيدة الحظ في الحب، مثلما في الثورة والسياسة. قبل عشر سنوات، طلقت زوجها الثاني بعد أن اكتشفت أنه أنجب طفلة من عشيقة. ومثلما كانت طيبة مع الزوج الأول بعد طلاقهما، فعلت نفس الشيء مع الثاني.

بعد طلاقها من الأول (الثوري المقاتل) ظلا صديقين. وبعد طلاقها من الثاني (الثوري المدني) ظلا صديقين. وعندما اعتقل الثاني وأدين وسجن بتهمة الفساد، زارته في السجن، وهي السياسية المشهورة، التحقت بعمل مؤقت داخل السجن لتكون قريبة منه. حسب تقاليد أميركا اللاتينية، للشخص ثلاثة أسماء: الأول وعائلة الأب وعائلة الأم. لهذا، خلال زواجها الأول كان اسمها: ديلما روسيف لونهارو. ثم، خلال زواجها من الثاني، كان ديلما روسيف ايولو. وقبل خمس سنوات، قررت العودة إلى اسمها قبل الزواجين: ديلما فانا روسيف.

عندها بنت من الزوج الثاني، وهي طالبة جامعية. ومثلها، عندما كانت فتاة في عائلة ارستقراطية، تهوى البيانو، والموسيقى، والأوبرا، والتاريخ الأوروبي، وتتكلم الفرنسية. لكن، يبدو أنهما لا يتناقشان، حول مائدة العشاء، عن قضايا الحرية والثورة والنضال. وذلك لأن البرازيل، منذ أكثر من عشرين سنة، تعيش في ظل الحرية.