طرود الإغريق

منظمة يسارية صدمت العالم بإرسال كم كبير من الطرود المفخخة خلال يومين

TT

شتان بين الطرود الملغمة صنع بلاد الإغريق، وطرود «القاعدة» المميتة، وإن كانا قد ظهرا في نفس التوقيت.. فطرود اليونان هي مواد حارقة تشتعل فور فتحها مع انفجار محدود، وتوجد داخل كتاب مفرغة صفحاته، وأبطالها طلاب وشباب صغار السن، وهم في الحقيقة لا يريدون زهق الأرواح أو قتل الأشخاص، وإنما البلبلة وإثارة الرأي العام.. ولطالما عانت بلادهم في الفترة الأخيرة من أزمة مالية حادة تكاد أن تودي بها إلى الهاوية.

والحقيقة، أنه لم يكن يتوقع أحد أن منظمة محلية لليسار المتطرف، عناصرها ليس لديهم التدريب الكافي أو الخبرة الطويلة، تستطيع خلال يومين فقط إعداد هذا الكم من الطرود المفخخة، وتقلب بها الوضع الأمني في اليونان أو دول العالم المختلفة رأسا على عقب.

ووفقا لمصادر من الشرطة اليونانية، فإنه خلال يومين فقط (الاثنين والثلاثاء) الماضيين، تم التوصل إلى نحو 20 طردا مفخخا، الكثير منها تم إبطاله أو تفجيره تحت سيطرة تامة، ولكن عددا منها أدى الغرض المراد منه، سواء أكانت نهايته الانفجار، أم أنه وصل إلى هدفه وإن كان هذه الهدف هو مكتب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على سبيل المثال.

وقع أول انفجار لطرد ملغوم ظهر الاثنين في مكتب للبريد في ضاحية بنقراتي الشعبية القريبة من وسط أثينا، التي عادة ما تشهد مثل هذه الأعمال الإرهابية، وإحراق ماكينات السحب الآلي في المصارف، أو تفخيخ سيارات الدبلوماسيين الأجانب، ولكن تحرك الشرطة كان سريعا هذه المرة، بناء على مكالمة تليفونية من موظفة مكتب البريد، التي ألقت الطرد على الأرض وانفجر فيها، وأصابها بإصابات طفيفة، وتمكنت الشرطة خلال دقائق من اعتقال الشخصين المشتبه فيهما، وبحوزتهما الدلائل الأكيدة على جريمتهما.

وبعد ذلك توالت أحداث مسلسل تسلم وانفجار الطرود، وانفجر طرد ظهر الثلاثاء في ساحة السفارة السويسرية وسط أثينا، ولم يسفر عن إصابات في الأرواح، بل خسائر مادية بسيطة، كما تمكن رجال المفرقعات أيضا من تفجير طرد مفخخ داخل سفارة بلغاريا في ضاحية بسيشيكو شمال أثينا، والآخر في ساحة البرلمان اليوناني، حيث وصل هناك أيضا طرد مفخخ كان في طريقه إلى سفارة تشيلي، وانفجر طرد في السفارة الروسية، وهو عبارة عن صندوق حديدي قام مجهول بإلقائه من خارج سور السفارة، وأيضا لا إصابات.

وقد طالت الطرود المفخخة في أثينا كلا من سفارات بلجيكا، وبلغاريا، وسويسرا، وألمانيا، وتشيلي، وبنما، وهولندا، والمكسيك، وروسيا، وأيضا البرلمان اليوناني، وعنوان منزل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، بالإضافة إلى طرد مفخخ تم توجيهه إلى قيادة مطار الفسينا الحربي، غرب أثينا، وطرد آخر تم إرساله إلى قسم شرطة ضاحية بنقراتي، التي يوجد فيها مكتب البريد الذي انفجر فيه أول طرد ملغوم وأصاب موظفة في المكتب، وأيضا طرد ملغوم وصل إلى مكتب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

كما ذكرت الشرطة أنها أبطلت مفعول طردين في مخزن لإحدى شركات البريد في مطار أثينا الدولي، كانا في طريقهما إلى المحكمة الأوروبية والمفوضية الأوروبية، وأيضا هبوط اضطراري في بولونيا لطائرة كانت متجه إلى إيطاليا، وعلى متنها طرد مفخخ لرئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني.

وعلقت السلطات اليونانية عمليات إقلاع طائرات الشحن لمدة يومين للسيطرة على الطرود الملغومة، كما أنها طلبت من مكاتب البريد عدم تسلم أي طرود أو مظاريف إلا بالبطاقة الشخصية وكتابة بيانات كافية عن المرسل.

سارعت أثينا بنفي صلة ما يحدث على أراضيها من تصنيع طرود ملغومة بما يجري في اليمن، ووصل إلى دبي وبريطانيا، جاء ذلك على لسان وزير الخارجية اليوناني، ديمتريس دروتساس، حيث نفى أي صلة بين الطرود المفخخة التي عثر عليها في بلاده، وكان عدد منها مرسلا إلى قادة أوروبيين وسفارات أجنبية في أثينا، أي علاقة بالإرهاب الدولي.

وقد يأتي ذلك، عقب نجاح الشرطة اليونانية في اعتقال شخصين بالقرب من مسرح الجريمة، وبحوزتيهما أسلحة وسترة واقية من الرصاص وطرد موجه إلى الرئيس الفرنسي ساركوزي، شبيه بذلك الطرد الذي انفجر في مكتب البريد بضاحية بنقراتي وسط أثينا، والشخصان المعتقلان هما عضوان في مجموعة يسارية فوضوية متطرفة في اليونان، تدعى «مؤامرة خلايا النار»، وظهرت في البلاد عام 2008. وعلى خلفية وصول طرد من هذه الطرود الملغمة إلى مكتب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في برلين، على أنه مقبل من وزارة المالية اليونانية، ذكرت وزارة الداخلية الألمانية أنها سوف ترسل 40 خبيرا في مجال الإرهاب إلى اليونان لمساعدة رجال الشرطة اليونانية في الكشف عن مرسلي الطرود البريدية الجوية الملغومة.

وتشهد أثينا حاليا إجراءات أمنية مشددة في أحياء وضواحي العاصمة للسيطرة على شبح الطرود المفخخة، واعتقلت الشرطة شابين عمرهما 22 و24 سنة، وعثر في حوزتهما على أسلحة وسترة واقية من الرصاص ومعهما طرد مماثل لذلك الذي انفجر في شركة البريد، وهذا ما أكد للشرطة صلتيهما بعملية الطرود، ووزعت الشرطة صور المتهمين، وطلبت من المواطنين التعاون مع الشرطة والإدلاء بأي معلومات تخص المتهمين الاثنين للتوصل إلى بقية أعضاء المنظمة.

وذكرت الشرطة أن أحد الشابين المقبوض عليهما، الذي يبلغ من العمر 22 سنة، هو متهم قبل ذلك بانتمائه لمنظمة خلايا مؤامرة النيران، ولذلك تستبعد الشرطة صلة الطرود المفخخة في اليونان بمنظمة القاعدة، وذكرت أن لها صلة بمتمردين يساريين، وخاصة هؤلاء الذين يحتجون على السياسات الحكومية.

وفي هذا الصدد أعتقد أن هذه الأفعال، وإن أكدت التحقيقات أنها من فعل المنظمة اليسارية، فقد تأتي جراء السياسات الأوروبية ضد اليونان، حيث يرى الشعب اليوناني أن أوروبا السبب في توصيل اليونان إلى الأزمة المالية الحالية، وإن كان الاتحاد الأوروبي قد ساعد اليوناني بمبلغ 110 مليارات يورو، ولكن هذه مساعدات على هيئة قروض وسوف يرى اليونانيون أنهم سوف يدفعونها أضعافا مضاعفة.

كما أن الإصلاحات الاقتصادية الحكومية، وأن البلاد سوف تشهد انتخابات محليات يوم الأحد المقبل، وهناك اهتمام كبير بهذه الانتخابات من قبل الحكومة ورجال السياسة، في حين أن الشعب يعاني من إجراءات تقشفية صارمة، وبدأ يتجرع كأس مرارة التقشف والفقر والبطالة وركود الأسواق، قد يكون كل ذلك دافعا في أن يقوم بعض المتطرفين بأعمال عدوانية في بلد طالما كانت الديمقراطية الحقيقية والميسرة عنوانا لها.

ووفقا للمصادر، فإن أحد المعتقلين المشار إليهما، كانت الشرطة تبحث عنه منذ أشهر لانتمائه إلى مجموعة «مؤامرة الخلايا النارية» الفوضوية، وهذه المنظمة عناصرها من الشباب والطلاب صغار السن، وتبنت هذه المنظمة منذ 2008 - وقت ظهورها - الكثير من الاعتداءات التي لم توقع ضحايا، من بينها هجوم بالمتفجرات على البرلمان اليوناني في يناير (كانون الثاني) الماضي.

وكانت الشرطة قد ألقت القبض على تسعة من أعضاء هذه الحركة منذ ظهورها، إثر عثور الشرطة في سبتمبر (أيلول) 2009 على مخبأ في إحدى ضواحي أثينا، ووضع ثلاثة منهم في الحبس الاحتياطي، وكانت قد استخدمت الجماعات اليسارية المتطرفة والمسلحة اليونانية الرسائل الناسفة في الماضي ضد الوزارات والشركات الحكومية. وحذر بيان رسمي صادر عن الحزب الشيوعي اليوناني من التهديدات وإثارة البلبلة، التي تأتي في إطار المنافع الشخصية لجهات أو دول معينة، وخلق مناخ استفزاز في البلاد، ودعا بيان ثالث أكبر الأحزاب السياسية في البلاد من توخي الحذر، الذي جاء فيه أن هذه التهديدات تشبه تهديدات زعيم القاعدة، بن لادن، ضد فرنسا والرئيس ساركوزي.

يذكر أنه في يونيو (حزيران) الماضي، انفجر طرد مرسل إلى وزير حماية المواطن (وزير الأمن العام) حينذاك، ميخاليس خريسويودس، وانفجر الطرد في غرفة انتظار مكتب الوزير، مما أدى إلى مقتل المسؤول عن أمن الوزير.

وأعتقد أن مثل هذه الأحداث تهدف إلى الارتباك فقط، ويقوم بها شباب أو صبية، هدفهم الرئيسي هو زعزعة البلاد، وقد يأتي ذلك خوفا من المستقبل الذي ينتظرونه، حيث يرون أن الحكومة والمعارضة لا تهتم بمستقبلهم الغامض، في ظل الأزمة التي تعاني منها البلاد، وقد زاد من هذه العملية اهتمام الحكومة بالانتخابات، وكيفية الحصول على أكبر عدد من الأصوات، ولا تهتم بالمعاناة التي يعيشها الشارع اليوناني.

وتشير الدوائر المراقبة إلى أن عملية الطرود الملغومة والعمليات الاعتدائية من وجهة نظرهم، قد تظهر في الفترة المقبلة بصورة أكبر، نظرا للاحتقان الذي يعيشه الشعب اليوناني، لا سيما من جراء السياسات الأوروبية السلبية ضد اليونان، حيث تم عرض اقتراح في القمة الأوروبية الماضية؛ بأن أوروبا بصدد حجب الدول المتعثرة والمدانة، وفي أولها اليونان بالطبع، عن التصويت في قرارات الاتحاد الأوروبي، ولهذه السبب تم خلق قاعدة عريضة من الشعب اليوناني تكره وتغضب من الاتحاد الأوروبي.

ولكن السؤال المحير بات يطرح نفسه باستمرار، هل هذه الأعمال الإرهابية والاعتدائية، يقف وراءها منظمة خلايا مؤامرة النيران المحلية كما ذهبت أذهان القيادات الأمنية في البلاد؟ أم أن هناك قوى خلفية تخدم أغراضا سياسية أو اقتصادية أو أمنية، تختبئ خلف هذه المنظمات، ولكن لم تُعرف بعد؟