يوم في حياة رب عائلة مسيحية بالعراق

يرفض مغادرة أرض أجداده ولكنه بدأ يفكر في الهجرة خوفا على ابنه الذي يعيش في رعب من أن تتعرض مدرسته للتفجير

البرواري وابنه وزوجته يتحدثون لـ«الشرق الأوسط» (تصوير: هدى جاسم)
TT

في منزل متواضع جدا، لا يحوي إلا القليل من الأثاث، جلس سامي بنيامين هرمز البرواري محاطا بزوجته ريتا وابنه الوحيد ستيفن، يروي كيف تحولت أحلامه في العيش حياة هنيئة بعد سقوط نظام صدام، إلى كوابيس يخشى ألا يستيقظ منها أبدا. يعيش سامي الذي لا يتعدى عمره الخامسة والأربعين عاما، في منطقة سبع أبكار في العاصمة العراقية بغداد ذات الغالبية المسيحية.

كان الابن الوحيد ستيفن الذي يبلغ من العمر 14 عاما، يجلس بجوار والده يحاول التركيز على دروسه. فهو طالب في الصف الثالث في المرحلة المتوسطة، ومن الطلبة المتميزين، كما يؤكد والداه خلال لقاء مع «الشرق الأوسط». لكن ستيفن بدا خائفا، بل حتى مرتعبا، من الذهاب إلى المدرسة. يقول إنه يخاف أن يقتل أو أن يخطف في أحد الأيام. «اسمي يدل دلالة واضحة على انني مسيحي»، يتذمر بحزن. كل ما يريده اليوم، بات مغادرة العراق؛ «لأنهم سيقتلونني يوما».

رب العائلة، رجل عاطل عن العمل. زوجته التي كانت تعمل في وزارة التجارة قبل سقوط نظام صدام. تركت وظيفتها في عام 2003 بسبب سوء الأوضاع الأمنية، وعندما هدأت الأمور نسبيا وأرادت العودة، اصطدمت بعائق آخر. وزارة التجارة طالبتها بكتاب من رئاسة الوزراء. ولكنها لم تستطع طيلة هذه السنوات من تأمين الرسالة. ومن دون الكتاب، لا تزال غير قادرة على العودة وظيفتها.

تعيش عائلة البرواري مع هاجس القتل، مثل غالبية سكان مناطق سبع ابكار والغدير وكراج الأمانة والصناعة والدورة ومناطق مسيحية أخرى، باتت هدفا للقتل. ويشعر غالبية هؤلاء السكان بخوف يجعلهم متوجسين من كل شيء، حتى الحديث للصحافيين. لكن البرواري كان أكثر شجاعا من غيره، وقبل أن يتحدث لـ«الشرق الأوسط»، ويروي لنا كيف يعيش ويسمح لنا بأخذ صوره وعائلته. ويقول عن ذلك: «الموت عندما يقترب لن توقفه الكلمات أو كاميرات التصوير.. فهو سيقترب منا لا محالة وعلينا فقط أن نقول الحقيقة قبل أن يدركنا على يد الإرهاب ومن لا دين له».

تقول ريتا، زوجته، إن «المسيحيين في كل مناطق العراق لا يشعرون بالسلام الذي ينادون به في كل قداس، بل إنهم وبعد حادثة كنيسة سيدة النجاة، باتوا يشعرون أن سلامهم مهدد حتى وهم يؤدون صلاتهم في مكان يفترض أن لا تسيل فيه الدماء». لكنها استدركت قائلة: «لقد قتلوا أيضا شيوخ الجوامع وفجروها في أوقات سابقة. فهم يحاربون العراقيين بغض النظر عن انتماءاتهم وقومياتهم وأديانهم... المهم أن يزرعوا الإرهاب في أرض العراق».

التفت إليها زوجها قائلا: «المهم أن نقول ما يدور الآن حفاظا على التاريخ، لنؤرخ لفترة زمنية مؤلمة في حياة العراق، علينا نقول الصدق الذي أوصانا به سيدنا المسيح حتى وإن كان الثمن أرواحنا».

وكانت كنيسة «سيدة النجاة» التابعة لطائفة السريان الكاثوليك في حي الكرادة وسط العاصمة العراقية بغداد، قد شهدت هجوما مسلحا قبل أكثر من عشرة أيام، تمثل في دخول عدد من المسلحين إلى الكنيسة وقاموا باحتجاز رهائن. وأدى ذلك في نهاية المطاف إلى مقتل 53 شخصا ضمنهم مسلحون وإصابة أكثر من مائة شخص، بعد قيام قوات الأمن العراقية باقتحام الكنيسة. كذلك تعرضت عدد من منازل المسيحيين في العاصمة بغداد قبل أيام إلى اعتداءات بتفجيرات عبوات ناسفة راح ضحيتها 6 قتلى و33 جريحا.

لم يكن اللقاء بالبرواري سهلا. فهو لا يثق بالغرباء. وقد توسط لنا أحد أصدقائه لكي يقبل الحديث إلينا. يقول البرواري إنه على الرغم من كل الصعوبات التي يواجهها، والخوف الدائم الذي لا يغادره، فإنه لا رغبة لديه في مغادرة بلده، العراق. لكنه يخشى على عائلته كثيرا، ويؤكد أن أحد أبناء منطقته هدده بشكل واضح وقال له: «أنت مسيحي فلماذا لا تغادر العراق؟» يقول البرواري إن رجال الدين يحثون المسيحيين على عدم الرضوخ للخوف والتهديدات ومغادر العراق بل البقاء لمقاومة الإرهاب، ولكنه يضيف: «رجال الدين لا يعيشون حياة المواطن العادي، فبيوتهم محصنة ولهم حماية مؤمنة. لكن المواطن يتعرض للقتل والتهديد وهو داخل بيته، وما حدث قبل أيام لبيوت الناس العزل خير دليل على هذا الأمر».

يعيش البرواري على ما يقترضه شهريا من أقاربه الذين يعيشون خارج العراق، ويرسلون له مبلغ 200 دولار شهريا تقريبا. يؤكد أن هذا المبلغ لا يكفيه وعائلته ليعيشوا في مستوى الكفاف.

ويقول: «المسيحيون في العراق فئة صغيرة والحكومة لا تستطيع أن توفر لهم الحياة الآمنة والاستقرار، فكيف لها أن توفر الحياة الآمنة والاستقرار للملايين من العراقيين». يضيف: «كنت آمل في حياة مليئة بالبهجة والأمان بعد سقوط النظام السابق، ولكنني فجعت بأن الحياة مليئة بالرعب والقتل، ونحن مهددون أكثر من غيرنا لأن ديننا دين الأقلية».

لكن حزن البرواري بدا أكبر عندما قال: «علي مغادرة العراق الآن والبحث عن مكان آمن، لكن هذا ليس الحل لأن العراق بلدنا ونحن وأجدادنا عشنا فيه منذ مئات السنين. فكيف لنا أن نغادره؟ لا اعرف». انهمرت دموعه وهو يتحدث عن مغادرة بلاده أجداده... وتبعته زوجته وابنه الذي بدا منعزلا. يقول والده إن سبب انعزاله يعود لأنه يعرف تماما أنه مهدد، ويضيف: «ربما سيوجه أحدهم إلى صدره رصاصة دون ذنب كما حصل في كنيسة سيدة النجاة التي راح من بين ضحاياها الأطفال والنساء والشباب.. وهو لا يتوقف عن ذكر الحادثة وينعزل عنا بعيدا».

أما زوجته ريتا نمرود، وهي في الأربعينات من العمر، وأيضا عاجزة عن العودة إلى عملها من دون موافقة من مجلس الوزراء، فتفكر مثل زوجها في أن الحل الأنسب هو الهجرة. وتقول إن قلقها على ابنها الوحيد جعلها تفكر في خيار الهجرة جديا، والابتعاد ولو بشكل مؤقت عن العراق «ريثما يعود إليه الأمان».

أما ستيفن، فيعيش في رعب دائم من أن يفجر الإرهابيون مدرسته التي تضم عددا من المسيحيين. يقول إن دراسته ستتراجع إذا ما بقيت الأوضاع على ما هي عليه، لأنه لا يستطيع التركيز على المناهج الدراسية، كما أن اسمه له دلالة واضحة على أنه مسيحي وبإمكان أي شخص الاستدلال عليه بسهوله ليقتله.

وكان تبني تنظيم ما يعرف بـ«دولة العراق الإسلامية»، التابع لتنظيم القاعدة، الاعتداء على كنيسة «سيدة النجاة». ويعتبر الحادث الأول من نوعه الذي يسجل في العراق. إذ لم يسبق لمجموعة مسلحة أن اتخذت رهائن وطالبت بالإفراج عن معتقلين من تنظيم القاعدة في العراق وبعض البلدان العربية مقابل إطلاق سراحهم.

وتؤكد منظمة حمورابي لحقوق الإنسان، ومقرها بغداد، أن عدد المسيحيين في العراق قد تناقص بنسبة 60% عما كان عليه عددهم قبل عام 2003. فقد كان عددهم يفوق مليون وثلاثمائة ألف نسمة. ويقول مليم وردا رئيس المنظمة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «عوامل الهجرة والتهجير وأعمال العنف والإرهاب التي طالتهم، جعلت عددهم حاليا لا يتجاوز نصف مليون مسيحي تقريبا».

ويضيف: «لقد تعرض المسيحيون خلال السنوات السبع إلى أعمال قتل على الهوية وإلى الاختطاف والاغتصاب، شملت شخصيات مهمة بينهم أطباء ومهندسون ورجال أعمال وصيادلة وغيرهم من أصحاب المهن والمصالح. كما تم استهداف بيوتهم ومحلاتهم ومصالحهم في بغداد والموصل وكركوك وغيرها من المدن العراقية». وأشار إلى أن «عدد الشهداء المسيحيين الذين استطاعت منظمة حمورابي رصدهم، بلغ أكثر من 800 شخص خلال السنوات الماضية، بينما بلغ عدد المخطوفين والمختفين أكثر من خمسة أضعاف هذا الرقم».

ويشرح وردا أن المسيحيين تعرضوا إلى موجات تهجير بلغت ذروتها في منطقة الدورة خلال عامي 2006 - 2007، والتهجير في الموصل في أكتوبر (تشرين الأول) 2008 حيث بلغ عدد المهجرين أكثر من عشرة آلاف شخص في الموصل. وتكرر مسلسل التهجير في الموصل قبيل الانتخابات الأخيرة التي جرت في مارس (آذار) الماضي. فقد وصل عدد المهجرين إلى أكثر من أربعة آلاف مهجر جميعهم توجهوا إلى مناطق سهل نينوى.

ويشير إلى أن 52 كنيسة تعرضت للتفجير والاعتداء في بغداد والموصل وكركوك، وكان آخرها كاتدرائية سيدة النجاة في الكرادة ببغداد. وتم قتل 14 رجل دين بينهم مطران واحد وستة كهنة. وقد بلغ عدد الشهداء المسيحيين ممن رصدتهم المنظمة في عام 2010، ولغاية كتابة هذا التقرير، 71 شخصا في الوقت الذي كانت أقل نسبة في عام 2009 حيث بلغ عدد الشهداء 29 شخصا. وكانت أكبر نسبة قتل للمسيحيين في عام 2004 حيث بلغت 211 شخصا، فيما بلغت 153 شخصا في عام 2007. كما تعرض الطلبة المسيحيون في مايو (أيار) الماضي، إلى أكبر هجوم في الموصل حيث تعرضت خمسة باصات إلى هجوم إرهابي أدى إلى قتل ثلاثة أشخاص وإصابة 188 طالبا وطالبة من جامعة الموصل.

ويضيف واردا أن المسيحيين يتعرضون إلى الانتهاكات في مناطق عديدة من العراق، وقد بلغت أوجها خلال الأشهر الثلاثة الماضية في المناطق المتنازع عليها، حيث تعرض المسيحيون في منطقة سهل نينوى إلى عدد من الاعتقالات العشوائية من قبل الاسايش الكردي وعمليات استدعاء المواطنين المسيحيين إلى مقرات الحزب الديمقراطي، وإهانتهم والاعتداء عليهم، وخاصة في قضاء الحمدانية. ويشير إلى أن كل هذه الممارسات تقع خارج إطار السلطة القضائية دون أوامر قضائية.

ويؤكد وردا أن «معدل الهجرة في العام الماضي 2009، بلغ عشر عوائل يوميا بينما زاد التدفق في عدد المهاجرين خلال الشهرين الماضيين إلى عشرين عائلة يوميا، وقد يرتفع هذا الرقم في ظل الهجمات التي تعرض لها المسيحيون خلال الأيام العشرة الماضية وخاصة بعد مذبحة كنيسة سيدة النجاة في بغداد».

وأمام هذه الصورة القاتمة، يقول البرواري إن ما يهمه الآن تنظيم حياة أسرته ماديا ومعنويا، وهما عنصران غابا عن بيتهما منذ زمن طويل. ويأمل أن تلتفت الحكومة إلى أوضاعهم، وإنقاذ ما تبقى من المسيحيين وبينهم عائلته التي لا ترغب في الهجرة من العراق لكنه يرى أنه سيضطر لها حفاظا على ابنه الوحيد. ودعنا رب العائلة وهو يقول: «ربما سنلتقي مرة أخرى في العراق وربما لا، فنحن لا يمكننا التأكد من أن يكون الصباح التالي من حصتنا في الحياة، لكننا سنبقى حتى ينفد آخر أمل لنا في حياة آمنة مستقرة».