أوباما يختار الهند.. لاحتواء الصين

الصفقات الهندية تضخ المليارات في الاقتصاد الأميركي.. وتؤمن 54 ألف وظيفة للأميركيين

الرئيس الأميركي باراك أوباما مع رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ بعد مؤتمر صحافي مشترك في نيودلهي قبل أيام (أ.ب)
TT

جاءت زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما للهند، وهي أطول زيارة له لدولة أجنبية منذ توليه الرئاسة، مفعمة بالتطورات المهمة، وقدم خلالها أوباما لنيودلهي كل ما ترغبه على طبق من فضة. فقد أيد رغبة الهند في الحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وأرضاها بعتابه باكستان علانية لإيوائها الإرهاب، وبرفع القيود المفروضة على الصادرات عالية التقنية. وساند انضمام الهند إلى «مجموعة الدول النووية الموردة»، ووعد بضمان مكانة مهمة لها داخل الهيكل الأمني الآسيوي.

وقد تناولت زيارة أوباما الجوانب السياسية والاستراتيجية والأمنية للعلاقات الهندية - الأميركية الناشئة، والتي تتخذ حاليا منحنى معاكسا لفترة الاغتراب والتباعد السابقة بين البلدين. واستغل الرئيس الأميركي مؤتمرا صحافيا عقد في أعقاب لقاء القمة الذي جمعه ورئيس الوزراء الهندي مانموهان سنغ، وخطابا ألقاه في القاعة المركزية داخل البرلمان الهندي في صياغة التوجه الرسمي لإدارته حيال نيودلهي. وقال أوباما في خطابه أمام البرلمان: «خلال السنوات المقبلة، أتطلع نحو إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على نحو يضم الهند كعضو دائم».

وإذا كان بيل كلينتون قد نقل الولايات المتحدة باتجاه الحيادية إزاء الخلاف الهندي - الباكستاني، وأزال جورج بوش الحاجز الدائم بين نيودلهي وإسلام آباد، فإن أوباما، ثالث رئيس أميركي يزور الهند خلال عقد، قد يكون فتح الباب أمام التعاون الأميركي - الهندي بشأن قضايا الأمن الإقليمي. يذكر أنه خلال فترة الحرب الباردة، أثارت الهند غضب واشنطن برفضها التحالف معها ضد الاتحاد السوفياتي والتخلي عن طموحاتها النووية.

وتعد الهند الدولة الوحيدة التي لاقت مساعيها لنيل مقعد دائم بمجلس الأمن ترحيبا من جانب أربع من الدول الخمس دائمة العضوية بالمجلس - الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وروسيا. وتبقى الصين الدولة العضو الوحيدة التي لم تؤيد هذه الخطوة. وعلى مدار فترة طويلة، كانت واشنطن العقبة الأساسية أمام انضمام الهند لعضوية مجلس الأمن الدائمة. وحملت زيارة أوباما الأخيرة أول قبول أميركي رسمي لهذه الفكرة.

جدير بالذكر أن من بين الدول الأخرى التي تسعى جاهدة للانضمام إلى المجلس بصفة دائمة، البرازيل وألمانيا واليابان وجنوب أفريقيا. وتعد مسألة إصلاح مجلس الأمن إحدى القضايا المعقدة، حيث يتعين استيعاب عناصر تمثل جميع قارات العالم في المستقبل بالمجلس، بدلا من الوضع الراهن الذي تهيمن خلاله أوروبا على المجلس. ومن المنتظر أن يؤدي التحول الأخير بالموقف الأميركي إلى تأجيج الساحة الجيوسياسية في آسيا (الصين واليابان وباكستان) على نحو تأمل واشنطن في أن يساعدها على تحقيق مصالحها الاستراتيجية في هذا الجزء من العالم.

من ناحيتها، تتمتع الهند بفرصة مثالية تتيح لها الكثير من الخيارات للدخول في مساومات مع بكين وواشنطن تخدم مصالحها الوطنية، لكن هذا الأمر يستلزم تمتع الهند بمزيد من المخططين الاستراتيجيين أقل صخبا وأكثر تركيزا، الأمر الذي تفتقده حاليا. ورغم أن التطمينات التي قدمها أوباما للهند بشأن رغبتها في الانضمام لمجلس الأمن بصورة دائمة، من المتعذر ترجمتها إلى واقع في المستقبل القريب، ولكن وعده بالضغط على «القيادة الباكستانية لتقديم مدبري هجمات مومباي إلى العدالة» يحمل تبعات أسرع بالنسبة للهند.

وبعد تحاشيه قضية البنية التحتية الإرهابية بباكستان طيلة يومين، اعترف أوباما في اليوم الثالث بأن الشبكات الإرهابية الباكستانية لم تعد مقبولة، متناولا بذلك أكثر القضايا الملحة التي تثير قلق الهند. وقال: «سنستمر في التأكيد أمام قادة باكستان على أن وجود ملاذات إرهابية آمنة داخل حدودهم هو أمر غير مقبول، بجانب ضرورة تقديم مدبري هجمات مومباي إلى العدالة».

يذكر أن أحد مساعدي كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية السابقة، داخل الوزارة، ويدعى كريس بروز، هو الذي تولى صياغة الجزء الأكبر من خطاب أوباما أمام البرلمان الهندي. قال جي. بارثا سارثي، الخبير في شؤون جنوب آسيا، لـ«الشرق الأوسط» إنه «يتعين على الباكستانيين التحلي بقدر أكبر من الواقعية حيال تفهمهم للدور الدولي المتزايد للهند». ويضيف: «في الوقت الذي تستثمر فيه الهند داخل الولايات المتحدة، تمد باكستان يديها للولايات المتحدة طالبة أموالا، وهو ما لا تفعله الهند. وتضخ الصفقات الهندية 10 مليارات دولار في الاقتصاد الأميركي، بينما ينص قانون جديد مرره الكونغرس على تكبيد دافعي الضرائب الأميركيين 1.5 مليار دولار سنويا من أجل التنمية بباكستان مع وعود بتقديم مليارين آخرين في صورة مساعدات عسكرية».

وقد أبدت الحكومة الباكستانية سخطها إزاء التأييد الأميركي القوي لنيل الهند مقعدا دائما بمجلس الأمن، محذرة من أن هذه الخطوة ستخلف «تداعيات» على السلام والاستقرار في جنوب آسيا.

إلا أنه على النقيض من ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، الذي أثار أزمة دبلوماسية باتهامه باكستان بتصدير الإرهاب أثناء زيارته الهند، حرص أوباما على توجيه نقد مطول لإسلام آباد. وحث أوباما الهند وباكستان على تسوية خلافاتهما ودعا إسلام آباد لاتخاذ مزيد من الإجراءات ضد المسلحين، لكنه اعترف بأنها تحرز تقدما بالفعل في مواجهة ما أطلق عليه «سرطان» التطرف. وتواترت أنباء عن عقد أوباما مناقشات مكثفة مع قيادات هندية بشأن التحديات القائمة في أفغانستان وباكستان، حسبما أفاد مصدر رفيع المستوى بوزارة الخارجية في تصريح لـ«الشرق الأوسط.» ومنذ عامين، عندما انتخب أوباما رئيسا للولايات المتحدة، ساور القلق مؤسسة السياسة الخارجية الهندية إزاء إمكانية قصر تركيزه على دائرة أضيق بخصوص المشكلات الهندية - الباكستانية، والتدخل في النزاع في كشمير، سعيا لإرضاء قاعدة مؤيديه بين النقابات العمالية والتسبب في تعقيد تنفيذ المبادرة النووية المدنية التاريخية، ومنح العلاقات مع الصين أفضلية على العلاقات مع الهند. إلا أن أوباما تمكن من تنفيذ زيارة ناجحة للهند، ونجح في رأب الصدع القائم بين البلدين لدرجة جعلته يتلاشى تماما تقريبا بعد فترة تباعد طويلة بين الطرفين جراء الحرب البادرة وما شهدته من صدام في مصالح الجانبين.

والملاحظ أن العلاقات الهندية - الأميركية تركز على إقامة شراكة في مجالات عالية التقنية مثل الدفاع والمشروعات الفضائية المدنية. تجدر الإشارة إلى أن الهند حرمت من الحصول على التقنيات الأميركية المتطورة منذ عام 1974 بعد استعراضها قوتها النووية، وامتد الحظر إلى مجال البحث الأكاديمي أيضا. وأكد أوباما أن منظمات دفاعية هندية معينة سترفع من قائمة الحظر. وفي إشارة بالغة الأهمية، أضاف أوباما أنه سيجري التعامل مع الهند مثل أقرب حلفاء وشركاء واشنطن.

وقد نجح أوباما في تحقيق الهدف الاستراتيجي الأميركي المتمثل في الدخول في علاقة صداقة مع قوة مثل الهند على نحو يخدم جهود احتواء الصين. وشدد أوباما على أن الولايات المتحدة والهند حليفان استراتيجيان في القرن الـ21 لا غناء لأحدهما عن الآخر. وفي إشارة إلى متانة العلاقات الأميركية - الهندية، قال أوباما إنه يرى أن الهند لم تعد قوة صاعدة، وإنما «صعدت بالفعل»، مؤكدا أن «صعود الهند يعد أمرا طيبا للولايات المتحدة والعالم».

ويعتقد محللون أن تطورين أساسيين دفعا أوباما نحو تحقيق قفزة كبرى على صعيد العلاقات مع الهند: الأزمة الاقتصادية التي ضربت الغرب، وصعود الصين كقوة عدوانية. في بادئ الأمر، نظر أوباما للصين كشريك طبيعي يمكن لأميركا التعاون معه في إدارة العالم، خاصة أن الصين تشكل أهمية جوهرية للولايات المتحدة بامتلاكها سندات خزانة أميركية بقيمة تقارب تريليون دولار وتعد شريكا تجاريا مهما يقدر حجم الثنائية معه بـ330 مليار دولار. ولا شك أن الشعور بالاستدانة الثقيلة تجاه الصين يثير توتر الأميركيين الذين اعتادوا النظر لبلادهم على مدار خمسة من العقود الستة الماضية باعتبارها القوة العظمى المهيمنة على العالم.

وكعضو دائم بمجلس الأمن، هناك حاجة للدعم الصيني للمساعدة في كبح جماح البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل والتعامل مع كوريا الشمالية المسلحة نوويا. لكن الصين شرعت في استعراض عضلاتها واستغلت الأزمة الاقتصادية في التفوق على اليابان كثاني أكبر اقتصاد بالعالم، وأثارت ادعاءات بأحقية السيطرة على بحر الصين الجنوبي وجزر في شرق وجنوب شرق آسيا. وعليه، بدت الهند الخيار الأمثل.

وغادر أوباما محملا بمكاسب اقتصادية، ومحققا تحويلا في مسار التاريخ. وتمثل المكسب الأكبر في عديد من الصفقات الكبرى بقيمة 10 مليارات دولار وقعتها نيودلهي وواشنطن في يوم واحد. وجاءت هذه الصفقات كأنباء سعيدة للاقتصاد الأميركي المتداعي، لكن أهميتها الكبرى بالنسبة لأوباما أنها تعد بتوفير 54 ألف وظيفة جديدة للأميركيين الذين خسروا 300 ألف وظيفة مع اقتراب معدل البطالة من 10 في المائة.

ولم يكن أوباما الوحيد الذي اعترف بنفوذ الهند الجديد، حيث سبقه رئيس الوزراء البريطاني في يوليو (تموز) الماضي عندما قدم للهند ساعيا لاجتذاب الشركات الهندية للاستثمار في بلاده. وبحلول نهاية العام عندما يفد قادة فرنسا وروسيا والصين لزيارة الهند، ستكون الأخيرة بذلك قد استقبلت قادة الدول الخمس الأعضاء بمجلس الأمن.