ابن «الفلسفة الريغانية»

جون بوينر رئيس مجلس النواب الأميركي الجديد يستعد للمواجهة مع أوباما

TT

أنهت الانتخابات الأميركية الأخيرة قيادة نانسي بلوسي، أول امرأة تترأس مجلس النواب الأميركي، وكانت في المرتبة التالية لنائب الرئيس لخلافة رئيس الجمهورية في حال الطوارئ. وصار واضحا أن الانتخابات وجهت صفعة قوية للحزب الديمقراطي، وهزت موقف الرئيس باراك أوباما، وزادت نفوذ الجناح اليميني داخل الحزب الجمهوري. فازت بلوسي للمرة الثانية عشرة بمقعد مجلس النواب في قلعتها القوية، في سان فرانسيسكو، لكن، في يناير (كانون الثاني)، سيبدأ الكونغرس الجديد، وسيكون على بلوسي تسليم مقعدها لزعيم الأقلية الجمهورية الحالي، جون بوينر، ليكون رئيسا للمجلس، ولتكون هي زعيمة للأقلية الديمقراطية.

ورغم أن بلوسي ستظل في منصب كبير، فقد تعرضت للهزيمة لأن شعار الحزب الجمهوري في الانتخابات كان «اهزموا بلوسي». كانت حملتهم ضدها شخصية. رسموها في صورة المرأة العجوز «المسترجلة». غير أن سجل بلوسي له أهمية تاريخية، لأنها قادت الكونغرس نحو أول قانون تأمين صحي لكل الأميركيين، ونحو أول قانون رقابة حكومية قوية على «وول ستريت» (شارع المال والمستثمرين والبنوك في نيويورك)، وكذلك نحو أول قانون حماية طلاب الجامعات من ظلم وطمع البنوك التي يستدينون منها لدفع مصاريفهم الدراسية.

لكن، حتى قبل أن يجلس بوينر في مقعدها، أعلن أنه سيعمل على إلغاء كل هذه القوانين. لكنه قالها بطريقة دبلوماسية، وليس كما عبر عن ذلك زميله السناتور الجمهوري الذي قال: «بعد هزيمة بلوسي، هزيمة أوباما». قالها بوينر بطريقة دبلوماسية لأنه مشهور بأنه رجل «جنتلمان».

مثلما رفع الحزب الجمهوري شعار «اهزموا بلوسي»، وهزمها، رفع الديمقراطيون، بقيادة بلوسي، شعار «اهزموا بوينر». وقال إعلان وزعوه في الصحف والتلفزيونات: «من قال إن بوينر جنتلمان؟ لا يفسد الجنتلمان، ولا ينافق. ولا يصرف مليون دولار لأسبوع قضاه في فندق راق، يلعب الغولف مع أصدقائه من الأثرياء الفاسدين».

وعلى الطريق البري في سنسناتي (ولاية أوهايو)، في دائرته الانتخابية، وضعوا إعلانا عملاقا فيه صورة بوينر وهو يلعب الغولف، ومعه الأتي: «خلال سنة واحدة، لعب بوينر الغولف مائة وعشرين مرة، بمعدل عشر مرات في الشهر. ماذا حدث للريفي الذي يفتخر بأنه كان يكنس أرض مطعم والدته ووالدته؟».

فمن هو رئيس النواب الأميركي الجديد؟ وما هي آراؤه؟

قصة حياة بوينر يمكن أن تصنف في خانة القصص الكلاسيكية. قصة الحلم الأميركي، من الفقر إلى الشهرة والثروة. حتى وقت قريب، لم يكن الرجل مشهورا. كان واحدا من أكثر من ثلاثمائة عضو في مجلس النواب الأميركي. ولم يكن الكثيرون قد سمعوا باسم «بوينر»، والذين سمعوه لم يعرفوا كيف ينطقونه، لأن الاسم ألماني. قالت أخته ليندا، البالغة من العمر 51 عاما، إنهما كانا يساعدان والديهما في مطعم العائلة، وينظفان الأرض، ويغسلان الأواني. وحتى اليوم، لا زالت ليندا تعمل في المطعم، مطعم «اندي» على اسم الجد الذي أسسه عام 1938.

تروي ليندا أن طفولتهما كانت «صعبة» لكن «سعيدة». أخوها جون، يكبرها بعشر سنوات، وهو يبلغ من العمر 61 عاما. وهو ثاني اثني عشر ولدا وبنتا، ولدوا في منزل العائلة في ريدنغ في ولاية أوهايو، بالقرب من مدينة سنسناتي. الوالد ألماني الأصل، والوالدة ايرلندية الأصل. وتقول ليندا عن منزل الطفولة: «كان في منزلنا غرفتان وحمامان: واحد لوالدنا والإخوة السبعة، والثاني لوالدتنا والأخوات الخمس. مرات كثيرة، كان الوالد ينام على أريكة».

وحتى اليوم، ما زالت العائلة مترابطة، ولا يزال عدد كبير من الإخوة والأخوات يعيشون، مع زوجاتهم وأزواجهم وأولادهم وبناتهم، في منطقة واحدة. ويحرصون على التجمع يوم الأحد في منزل أكبرهم. ومثل والدهم، معظمهم عمال. وهناك واحد عاطل عن العمل. ولكن جون شذ عنهم جميعا. تخرج من المدرسة العليا في سينسيناتي (ولاية أوهايو) في عام 1968. ولأن حرب فيتنام كانت مشتعلة في ذلك الوقت، ولأن التجنيد كان إجباريا، فقد انضم إلى المجندين في الأسطول البحري، لكنه خرج بعد ثمانية أسابيع لأسباب طبية.

حصل على بكالوريوس من جامعة صغيرة في سينسيناتي في عام 1977، وصار أول شخص في عائلته يتخرج من جامعة. ثم عمل في وظائف مختلفة ليسدد قرض المصروفات الجامعية. وعمل في شركة تعبئة وتغليف، ونجح فيها وصار رئيسها. وعرف، منذ أن كان طالبا بالعمل التنظيمي والطلابي والنقابي. وهو في الجامعة، عمل في مجلس في المقاطعة. وبعد الجامعة، ترشح وفاز لعضوية المجلس. في وقت لاحق، ترشح لكونغرس الولاية، وفاز بعد أن سقط مرتين. وفي عام 1990، ترشح وفاز لعضوية الكونغرس في واشنطن العاصمة.

وقد عرف منذ البداية بآرائه اليمينية. ويرفع كثير من السياسيين اليمينيين شعار: الله، الوطن، العائلة، العمل، وكأنهم يتهمون المعتدلين والليبراليين بالعلمانية، وتفكيك العائلة، وتشجيع الاعتماد على الحكومة. غير أن سبب ميوله اليمينية هو البيئة التي تربي فيها، أكثر من عقيدة درسها واعتنقها. إنها بيئة الطبقة البيضاء العاملة. لا يمكن أن توصف بأنها عنصرية تعادي السود والمهاجرين اللاتينيين، لكنها ترى أن الحكومة يجب ألا تساعد الذين لا يريدون أن يعملوا، والذين يدخلون البلاد بطرق غير قانونية.

في عام 1980، وجدت الطبقة العمالية البيضاء ضالتها في الرئيس السابق رونالد ريغان، عندما فاز تحت شعار: «الحكومة هي المشكلة، لا الحل». ورغم أن ريغان لم يكن عنصريا، ورغم أنه لم يعارض الحقوق المدنية للسود، ركز على ما سماه «ترضيات» الحزب الديمقراطي للسود. ووصف الديمقراطيين بأنهم «اعتذاريون» في موضوع السود والمهاجرين اللاتينيين، بمعنى أنهم يساعدونهم أكثر مما يجب.

وبعد أن دخل ريغان البيت الأبيض بعشر سنوات، وبعد أن تركه بسنتين، دخل بوينر الكونغرس مع «عصابة السبعة». كان هؤلاء جمهوريين يمينيين، يؤمنون بما سموه «الفلسفة الريغانية»، أي عقيدة الحرب الباردة الجديدة وتكريس نزعة التدخل العسكري في شؤون الشعوب الداخلية، والإنفاق الهائل على التسليح، وتعزيز التوجهات اليمينية في مسائل سياسية وفكرية وثقافية شتى.

وفي المجال الاقتصادي، تركز العقيدة على تخفيض دور الحكومة في حياة الناس. وتشجع حرية الاستثمار والسوق المفتوحة. وخاصة تخفيض الضرائب عن الأغنياء. وكان شعار ريغان عندما كان رئيسا: «الحمد لله، في أميركا حرية الثراء».

ورغم أن نظرية ريغان نجحت إلى حد بعيد في المجال الخارجي، خاصة معاداة الشيوعية والاتحاد السوفياتي، اتهمت أيضا بأنها ضحت برغبات شعوب العالم الثالث التي صنفها ريغان بأنها عميلة للشيوعية، أو جزء منها، مثل حكومات نيكاراغوا والسلفادور. ونظرية ريغان نجحت إلى حد بعيد في تخفيض سيطرة الحكومة على الاقتصاد الأميركي، لكنها اتهمت أيضا بأنها لم تقدر على أن تحل مشكلات أميركا الاقتصادية. وأن ريغان، في النهاية، فرض ضرائب على الأغنياء. وأن خليفته الرئيس بوش الأب فرض ضرائب أيضا. وأن الرئيس بوش الابن، رغم أنه، عكس والده، ينتمي إلى الجناح اليميني في الحزب الجمهوري، أصدر قرارات هامة لتوفير المساعدات الحكومية للعجزة والمرضى ولتلاميذ المدارس.

هؤلاء ، أعضاء «العصبة السبعة»، انتقدوا حتى الرئيس السابق بوش الابن، الذي خلف الرئيس ريغان، والذي عكس الرئيس السابق بوش الابن، ينتمي إلى الجناح المعتدل في الحزب. قاد «عصابة السبعة» زعيم الأقلية في مجلس النواب في ذلك الوقت، نيوت غينغرتش، أيضا من الجناح اليميني في الحزب الجمهوري، والذي في وقت لاحق، في انتخابات الكونغرس سنة 1994، في عهد الرئيس بيل كلينتون، استطاع تحقيق إنجاز تاريخي للحزب الجمهوري: لأول مرة منذ أربعين سنة، صار للحزب أغلبية في مجلس النواب. وصار غينغرتش زعيما للمجلس. في ذلك الوقت، كان بوينر لا يزال غير معروف، حتى داخل الكونغرس، لكنه كان تلميذا مخلصا لغينغرتش.

لكن، مع فوز الرئيس بوش الابن سنة 2000، ومع الحروب التي شنها في أفغانستان والعراق، والتي، خلال سنوات قليلة، بدأت أغلبية الأميركيين تعارضها، قلت أسهمه وأسهم الحزب الجمهوري. وفي انتخابات الكونغرس سنة 2006، فقد الحزب الجمهوري سيطرته على الكونغرس. وهبط نجم غينغرتش، وترك الكونغرس. وكانت تلك فرصة لتلميذه، بوينر، ليحل محله. وفعلا، انتخب بوينر زعيما للأقلية الجمهورية في مجلس النواب. ظل بوينر زعيما للأقلية الجمهورية حتى انتخابات الكونغرس في بداية هذه الشهر عندما عادت سيطرة الحزب على الكونغرس. ومرة أخرى، لم يكن مشهورا. بل يعتقد أن الرئيس باراك أوباما ساهم في الدعاية له، لأن أوباما خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، تعرض مع نانسي بلوسي لانتقادات شخصية، حتى بدا وكأن الانتخابات كلها ستكون معركة شخصية. وفكر أوباما، وقرر أن يرد بأن يركز على شخصية بوينر. وفي ذلك الوقت، سأل كثير من الأميركيين: من هو بوينر؟

لأن زعيم «عصابة السبعة» صار زعيما لمجلس النواب، صار واضحا أنه لن يختلف فقط مع الرئيس أوباما والحزب الديمقراطي، ولكن أيضا، مع الجناح المعتدل داخل الحزب الجمهوري. لكن يبدو أنه اتعظ من ما حدث لأستاذه المتطرف غينغرتش. وحتى اليوم، لا يزال غينغرتش مناكفا من الدرجة الأولى. ولا يمكن أن يطبق عليه وصف «جنتلمان». لهذا، يريد تلميذه أن يكون مهذبا ومؤدبا.

قالت صحيفة «بتسبيرغ تربيون» التي تصدر في دائرة بوينر الانتخابية: «داخل قاعة مجلس النواب، ومن الجانبين الجمهوري والديمقراطي، نال بوينر كأس القدرة على الاستماع. وهذا كاس نادر داخل الكونغرس». وقالت صحيفة «كليفلاند بلين ديلار» التي تصدر في ولايته أوهايو: «أتقن بوينر فن الاختلاف دون أن يبدو مختلفا». وقال تقرير أصدره مركز «ثاليساس» في كمبردج في ولاية ماساشوستس، الذي يقارن الاتجاهات السياسية: «بوينر محافظ قوي، ويميني في اليمين البعيد». وقالت صحيفة «واشنطن بوست»: «حسب سجله، يميل بوينر بعيدا عن الحكومة، وقريبا نحو الشركات والأثرياء».

لكن، كما قالت «واشنطن بوست»، يواجه بوينر مشكلة بسبب انقسام داخل الجناح اليميني نفسه:

في جانب، الاقتصاديون الذين يفسرون اليمينية بأنها فتح الباب أمام الشركات والأثرياء.، ويؤمنون بالنظرية الريغانية «تريكيل داون» (عندما يستثمر الأغنياء، تصب الفائدة نقطة نقطة على بقية الناس). لكن في جانب آخر، هناك الدينيون الذين يفسرون اليمينية بأنها التزام بالتعاليم الدينية، كما وردت في الإنجيل. وهؤلاء ينقسمون إلى قسمين: الأول الذي يركز على السلبيات مثل نقد الإجهاض، ونقد تفكك العائلات، ونقد الإباحية والأفلام الجنسية. والثاني الذي يركز على الإيجابيات مثل رفع الظلم عن الفقراء والضعفاء.

لهذا، حسب تقرير «واشنطن بوست»، فإن أسهم بوينر ليست عالية وسط اليمينيين «الدينيين» الذين يعتبرونه مطيعا للشركات والأغنياء. وهناك أجندة بوينر في السياسة الخارجية، وخاصة بالنسبة للشرق الأوسط. خلال الحملة الانتخابية، دعا إلى تخفيض دور الحكومة في الداخل والخارج. ومن بين ذلك، تخفيض المساعدات الحكومية في الداخل والخارج. وقال إنه يريد وقف برنامج المساعدات الخارجية «إلا بما يخدم مصالحنا». وإن المساعدات إلى إسرائيل (ثلاثة مليارات كل سنة تقريبا) سوف تحول إلى ميزانية وزارة الدفاع. وذلك لتحقيق هدفين: أولا: تكون بندا دائما. ثانيا: لا تتعرض لتقلبات ميزانية المساعدات الأجنبية.

ولأنه قريب من الشركات والأغنياء، يواجه بوينر مشكلتين. الأولى قربه من هؤلاء، وتأثيرهم على سياساته، والثانية تورطه فعليا في قضايا فساد سابقة ورشى وإغراءات، بحسب ما نقلت حينها وسائل الإعلام. ففي عام 1995، اتهم بتوزيع تبرعات من جماعات الضغط، وخاصة شركات صناعة التبغ، على أعضاء من الحزب الجمهوري في الكونغرس، في نفس الوقت الذي كان الكونغرس يناقش فيه الدعم الحكومي لمزارعي التبغ.

وفي فيلم وثائقي في عام 1996، اعترف بوينر بأن ممثلي شركات طلبوا منه توزيع تبرعات على زملائه، وقال: «نعم، أنا فعلت هذا. لكن، أنا آسف، وما كان ينبغي أن أفعل ذلك. إنها ليست انتهاكا لقوانين الكونغرس، لكنها ممارسة تثير الشكوك». وأضاف: «لن أفعل ذلك مرة أخرى».

ونشرت صحيفة «نيويورك تايمز» خبرا على صفحتها الأولى عبارة عن تصريح من روبرت غيبس، المتحدث باسم البيت الأبيض، قال فيه: «زعيم الحزب الجمهوري تحت طوع بنان جماعات الضغط». وأخيرا، صار واضحا أن الجناح اليميني في الحزب الجمهوري يؤثر على الحزب كثيرا. وطبعا سيطر الحزب على الكونغرس. لهذا، يتوقع أن يعيد التاريخ نفسه: بعد سيطرة الحزب على الكونغرس سنة 1994، بدأت مواجهة ساخنة بين غينغرتش، رئيس مجلس النواب في ذلك الوقت، والرئيس كلينتون.

ووصلت المواجهة حد إغلاق الوزارات والمصالح الحكومية لأن غينغرتش رفض إجازة الميزانية التي قدمها الرئيس كلينتون. وقد يحدث الأمر نفسه في عهد بوينر، تلميذ غينغرتش، مع الرئيس أوباما. ولكن، بأسلوب التلميذ الهادئ، بأسلوب «الجنتلمان».