تونس الهادئة.. في الفوضى

الاحتجاجات اندلعت قبل شهر بسبب تدهور الأوضاع المعيشية وبدأت تثير قلق المجتمع الدولي

TT

تحمل الاحتجاجات التي تشهدها تونس منذ أكثر من شهر، شيئين، أولهما المفاجأة وثانيهما تسارع التطورات.. فتونس «الخضراء» ظلت توصف على مدى سنوات، بالبلد الهادئ الذي يتعين على جيرانه الاحتذاء به، مما جعل العالم يصدم برؤية الدولة «النموذج» وهي تتجه فجأة نحو الفوضى. كان معروفا أن «تونس بن علي»، اختارت أولوية التنمية، وكانت تكسب كثيرا في مسعاها لإثبات صحة توجهها هذا، من خلال الإعلان عن نسب نمو اقتصادي مرتفعة والحديث عن توفير خدمات جيدة في قطاعات التعليم والصحة والطفولة وغيرها.

ولكن هذه الصورة باتت الآن معرضة للانهيار، أمام طول أمد الأزمة، واتساع رقعة احتجاجات الشبان الغاضبين، وارتفاع حصيلة الضحايا. وقد تحدثت آخر الإحصاءات الرسمية عن سقوط 23 قتيلا من المدنيين خلال الاضطرابات، بينما تتحدث منظمات إنسانية عن أرقام أكبر من هذه. وقالت أمس رئيسة الفيدرالية الدولية لروابط حقوق الإنسان، سهير بلحسن، لوكالة الصحافة الفرنسية، إن بحوزتها لائحة بأسماء 58 شخصا قتلوا منذ اندلاع أعمال العنف في تونس. وقد أخذت الأزمة طابعا متعدد الجوانب، إذ اختلط فيها الاقتصادي بالسياسي بالاجتماعي بالأمني، ودخل العنصر الخارجي على الخط، وباتت حكومة الرئيس زين العابدين بن علي محل انتقادات أميركية وأوروبية وتنهال عليها الدعوات لـ«إطلاق سراح الموقوفين» و«ضمان حرية التظاهر والتعبير للسكان». وكان آخر الإدانات الغربية ما صدر أمس عن رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون عندما عبر عن قلق من «الاستخدام غير المتكافئ للعنف» في تونس، داعيا «جميع الأطراف إلى ضبط النفس واختيار طريق الحوار».

وبدأت التوترات مع نزول شبان إلى الشارع قبل نحو شهر في منطقة سيدي بوزيد، احتجاجا على الظروف المعيشية الصعبة، مع إقدام الشاب محمد البوعزيزي (26 عاما) على إضرام النار في نفسه. ووصفت السلطة الحادثة بأنها «عادية» نفذها شاب يائس ضد نفسه، ولم تعر المسألة أي اهتمام سياسي واجتماعي. إلا أن المعارضة التونسية، رأت في تلك الحادثة فشلا ذريعا للنموذج التنموي التونسي. ووجد الحزب الحاكم الذي يسعى إلى تنفيذ مشاريع اجتماعية وإلى ضخ معونات مختلفة للعائلات الفقيرة والضعيفة الحال، نفسه في مواجهة مباشرة مع الشارع.

وتميز النظام التونسي منذ عام 1987، عام اعتلاء بن علي سدة الحكم خلفا للرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة، إلى عام 2008، بأنه كان بمأمن عن الهزات الاجتماعية. ودخل النظام منذ عام 1990، في سلسلة من المفاوضات الاجتماعية حول الزيادة في الأسعار، تتكرر كل 3 سنوات. ويقول مراقبون إن هذه السياسة نجحت في تأجيل الاحتجاجات الاجتماعية طوال عقدين من الزمن. إلا أن الجيل الجديد من التونسيين المكون في معظمه من الشباب لديه مطالب مغايرة، وهو لا يهتم لضغوط سياسة البلاد والعقبات الاقتصادية المتنوعة التي تنتظره. وينادي الشباب بضرورة أن تنعكس النجاحات الاقتصادية في تونس، على حياته المباشرة.

وكشفت الاحتجاجات الاجتماعية التي ما زالت متواصلة، عن صعوبة إدارة الأزمات الاجتماعية في تونس، خاصة مع وجود شرخ عميق في علاقة الإدارة والحزب الحاكم على المستوى المناطقي، مع الشارع الباحث عن حلول لمجموعة من المشكلات الحياتية، على رأسها غلاء المعيشة وتفشي البطالة. وقد تطرق بن علي إلى الأمر في خطابه الموجه إلى الشعب التونسي مساء الاثنين الماضي، حين دعا نواب الشعب وأعضاء مجلس المستشارين (الغرفة النيابية الثانية) والهياكل المركزية في الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، إلى تكثيف حضورهم في الجهات واتصالاتهم الدورية بالمواطنين للإصغاء إليهم والإحاطة بالحالات التي تعرض عليهم وإبلاغها إلى الجهات المعنية للسعي لمعالجتها وإيجاد الحلول لها.

الحزب الحاكم اعتبر الحادثة حالة فردية ركبتها بعض الأطراف لتحقيق مآرب شخصية. إلا أن تلك الأحزاب السياسية الأخرى ردت على المسألة بطريقة مختلفة. وقالت مية الجريبي، الأمينة العامة للحزب الديمقراطي التقدمي، بأن وظيفة أي حزب سياسي هي مواكبة الأحداث الاجتماعية وتأطيرها وتبني مطالبها المشروعة، وهو ما فعله الحزب في أحداث سيدي بوزيد. هذا الرأي قوبل برأي مخالف تماما من قبل السلطات السياسية التونسية التي وصفت من ساندوا أحداث سيدي بوزيد بكونهم «متطرفين ومأجورين». وهكذا انتقل الحديث عن تلك الاحتجاجات من بابه الاجتماعي إلى بابه السياسي، وهي من المرات القليلة التي يجبر فيها الحزب الحاكم ممثلا في الرئيس بن علي، على الاعتراف أولا بوجود مشكلات في إدماج الشباب العاطل عن العمل، ويقر كذلك بضرورة تخصيص المناطق الأقل تنمية ببرامج خصوصية تخفف عنها عبء المشكلات التي تعيشها.

وقال رشيد صفر، الوزير الأول في آخر عهد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، في تصريحات لوسائل إعلام محلية، إن «الواقع التونسي يعرف مشكلات لا يمكن إنكارها أو إغفالها، ويجب فهم أسباب العنف ودوافعه بعمق والنظر في واقع الشباب، والبحث في نقص تأطيره». وأشار إلى من سماهم «الصائدين في الماء العكر والخصوم المتربصين بتونس الذين ينتظرون الفرصة لإشعال النار وبث الفتنة وإحداث التفرقة بين فئات الشعب التونسي».

أما الهادي البكوش، الوزير الأول في أول عهد الرئيس التونسي الحالي زين العابدين بن علي، فقد دعا من ناحيته إلى المحافظة على المكاسب الوطنية وعدم الانسياق وراء التيار، قائلا إن هناك من يستغل المآسي الشخصية لبعض الشباب لعرض قضايا أخرى، ليست قضايا بطالة الشباب من ذوي الشهادات، وبأساليب متوترة وبطرق عنيفة إلى إثارة نزعات سياسية واجتماعية تحتاج إلى حوار وطني بناء في نطاق النظام والقانون. ولكن مصطفى بن جعفر، الأمين العام للتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات (المعارض)، طالب السلطات السياسية التونسية بأن تعتبر الاحتجاجات الاجتماعية الأخيرة أكثر من مسألة ظرفية طارئة. وأصر على اعتبار القضية أعمق بكثير مما تراه السلطة القائمة، وطالب باستخلاص الدروس مما جرى وإطلاق إشارات واضحة لمراجعة أساليب التعامل مع الأحداث الذي ينطلق من تغيير أسلوب الحكم والابتعاد عن اتخاذ القرارات الفردية والتوجه نحو الحوار مع مكونات المجتمع المدني دون إقصاء، وإدخال التعددية السياسية إلى أرض الواقع وعدم تركها شعارا فضفاضا لا صلة له بما يجري على الأرض.

وقد تعيد الاحتجاجات تلك الحديث عن التيارات المحسوبة على التطرف، مثل الحركة الإسلامية التونسية، وكذلك الحزب الشيوعي التونسي، وكلاهما محظور من النشاط السياسي، وهو ما فهمه المحللون السياسيون من آخر خطاب للرئيس بن علي، حين قال إن «عصابات ملثمة أقدمت عل الاعتداء ليلا على مؤسسات عمومية وحتى على مواطنين في منازلهم في عمل إرهابي لا يمكن السكوت عليه».

وقال المحلل السياسي خالد حداد، لـ«الشرق الأوسط»، تعليقا على الوضع الحالي للاحتجاجات الاجتماعية والتطورات الممكنة لها، إن هذه المظاهرات «طرحت مطالب مشروعة، كالحق في العمل لأصحاب الشهادات الجامعية والحق في نصيب من الثروة الوطنية، وقد أدت تلك التحركات أهدافها القصوى باستجابة بن علي لتلك المطالب».

وكما اعتمد الطلاب والمتظاهرون في إيران على وسائل الإعلام الجديدة عبر الإنترنت، كذلك في تونس. وتحدث الصحافي التونسي نور الدين المباركي، عن «الإعلام الجديد» القائم على الاستفادة من وسائط الاتصال الحديثة. وتطبيقا لما يسميه البعض إعلام المواطن، بمعنى أن كل مواطن يمكن أن يكون ناقلا للخبر والحدث، فوسائل الاتصال الحديثة، من تصوير فيديو على الهواتف النقالة، إضافة إلى مواقع «فيس بوك» و«يوتيوب» و«تويتر» والمدونات والرسائل الإلكترونية، كانت كلها حاضرة بقوة في أحداث سيدي بوزيد.

فالشبكة العنكبوتية كانت تعج بأشرطة الفيديو والصور والمتابعات الحينية لما يحدث، وكانت أيضا وكالات الأنباء العالمية والفضائيات تستفيد مما ينشر في هذه الوسائط وتعتمد عليه في إعداد تقاريرها ومتابعاتها الإخبارية.

المحلل السياسي التونسي جمال العرفاوي يقول: «إن ما يبعث على الحيرة بالأساس في خضم هذه الموجة غير المسبوقة من الاحتجاجات الاجتماعية في تونس، هو سير الشارع التونسي نحو الفوضى العارمة، وهو ما قد يقود البلاد نحو مجاهل كثيرة لا يمكن لأحد أن يتكهن مداها». ويضيف أن «الاحتجاجات ظاهرة صحية في الأساس، باعتبارها تعبر عن رأي آخر في الشارع التونسي الذي فقد الألوان منذ سنوات، إلا أن هناك خوفا من الانزلاق في ظروف مجهولة قد تحيل كل ما بناه التونسيون إلى المربع الأول، وهو ما يتطلب إعادة الكرة إلى تنمية البلاد».

وكانت احتجاجات سيدي بوزيد وما تبعها قد سبقت أحداثا احتجاجية مماثلة في منطقة الحوض المنجمي (ولاية - محافظة - قفصة الواقعة على بعد 365 كلم عن العاصمة التونسية)، وكان ذلك خلال شهر يناير (كانون الثاني) من عام 2008. وتواصلت حينها الاحتجاجات لأشهر، تدخلت على أثرها السلطات هناك، ووعدت بمجموعة من المشاريع التنموية، وهدأت الأوضاع، إلا أن تبعات تلك الاحتجاجات ما زالت متواصلة إلى الآن، باعتبار أن قادة تلك الاحتجاجات قد حوكموا وطردوا من وظائفهم ولم يجر إرجاعهم إلى سالف أنشطتهم، وهو ما جعل الوضعية محافظة على طابعها الشائك. ومنطلق تلك الأحداث الاحتجاجية كان اجتماعيا كذلك، وارتبط بعمليات توظيف شبان من المنطقة في شركة «فسفاط قفصة» المشغل الأهم لشباب منطقة الحوض المنجمي، حيث اتهمت السلطات المناطقية وقتها بوجود محاباة في تشغيل أصحاب الشهادات الجامعية المعطلين عن العمل.. ولكن الوضعية الاجتماعية تلك سرعان ما تطورت إلى مطالب سياسية، وطالب السكان بضرورة توظيف أبنائهم العاطلين عن العمل منذ سنوات.