الاحتجاج حرقا

ثقافة تضرب جذورها الآسيوية في أعماق التاريخ.. وطالت شظاياها شتى أرجاء العالم المعاصر

TT

بعد تخرجه في الجامعة، قنع الشاب اليافع بالعمل كبائع للخضراوات لحل مشكلته الشخصية في مواجهة البطالة.. ولكن الدولة وبدلا من أن تمد يدها لتعينه على تحمل وضعه الجديد أو تشكره على إراحتها من عناء تحمل بطالته، مدت يدها، الرمزية والواقعية، لتصفعه على وجهه ممثلتها، المنوط بها حماية وتأمين المواطنين.

وتملك الحنق من الشاب التونسي محمد البوعزيزي، والذي لم يجد حوله ما يفرغ فيه شحنة غضبه من بلده التي حرمته كل الحقوق، واستكثرت عليه أقل سبل العيش الكريم.. وارتفعت حرارة الغضب بداخله حتى كاد يحترق بغير أن تمسه نار، ليتوجه إلى مقر ولاية سيدي بوزيد في 17 من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، طالبا مقابلة الوالي (المحافظ) والشكوى إليه، عله يغير من الأحوال.. إلا أن طلبه قوبل بالرفض.

وبعد لحظات من الاستخفاف بقوله إنه سيشعل النار في نفسه إذا لم يستجيبوا لطلبه، فعلها البوعزيزي بالفعل ليعلن آخر رسائله إلى عالم الأحياء «إن الانتحار حرقا أهون من الحياة في بلد تهين أبناءها». وامتد لهيب غير منظور من نيران البوعزيزي، ليؤجج نيران الثورة الشعبية «ثورة الياسمين» في مختلف الأرجاء التونسية، والتي أطاحت بزين العابدين بن علي من سدة الحكم في 14 يناير (كانون الثاني) 2011، وأجبرته على الفرار.

شرارات الاحتجاج الناري لم تظل طويلا داخل الحدود التونسية، وتجاوزتها خلال أيام شرقا وغربا. وشهدت مصر والجزائر وموريتانيا، وحتى فرنسا ورومانيا، محاولات للانتحار الاحتجاجي حرقا وصلت لأكثر 15 حالة، 8 منها في الجزائر، و5 في مصر، نجح بعضها في حين حالت الظروف دون إتمام الآخر، من أناس لا يجمع بينهم سوى الاشتراك في تردي الأوضاع المعيشية والمعاناة الحياتية في ظل مجتمعات لا تسمع صرخاتهم وأنينهم.

وفي 18 يناير الجاري، شهدت الجزائر أول محاولة انتحار حرقا لامرأة، بعد أن كانت الظاهرة العربية رجالية بحتة، اعتراضا على الظروف المعيشية الصعبة.. وهي لسيدة في العقد الخامس من عمرها أقدمت على فعلتها بعد رفض المسؤولين مساعدتها، في إطار برنامج السكن الريفي.

وبوجه عام، يعد الانتحار حرقا واحدا من الأساليب الشائعة لإعلان الاعتراض، خصوصا ذا الصبغة السياسية، في عدد من الثقافات الآسيوية الشرقية، وعلى رأسها الهندية والصينية والفيتنامية واليابانية.. وتمتد الجذور التاريخية لهذه الثقافة إلى ما يناهز 1500 عام.

ورغم الغموض الذي ما يزال يكتنف نشأته، يرى البعض ارتباطا بينه وبين فكرة التضحية، السائدة في كثير من الديانات القديمة والمعاصرة، والتي تشكل عنصرا محوريا في الفكر البوذي على وجه التحديد.. ويعتقد بعضهم على ما يبدو أن الانتحار حرقا هو أسمى صور التضحية، وربما تشكل النصوص البوذية، خاصة «لوتس سوترا»، مصدرا هاما لتلك الممارسة.

وترتبط النار في حد ذاتها في الفكر الإنساني بالتضحية والتطهر، بدءا من اتفاق معظم الأديان السماوية على أنها وسيلة لعقاب المذنبين، وقد يعقبها دخول الجنة في حال التطهر من الآثام، وصولا إلى الصور المختلفة للطقوس الوثنية التي كانت تضع القرابين في النار اتقاء لغضبة الآلهة.

وفي العصر الحديث، دخل الراهب البوذي ثيك كوانغ دوك التاريخ كصاحب واحدة من أوائل وأشهر حالات الانتحار حرقا لإعلان الغضب، ففي 16 يونيو (حزيران) من عام 1963، أشعل الراهب الفيتنامي النار في نفسه في قلب مدينة سايغون، اعتراضا على الاضطهاد الديني في ظل نظام ديم الحاكم.

وفي صورة أشبه بالتي حدثت في تونس، أثار انتحار دوك إعصارا سياسيا في سايغون، واندلعت مظاهرات شعبية رغم كل ما اتسم به سكان المدينة قبلها من سلبية وفزع أمام قبضة الشرطة الباطشة.. فخرجوا في مظاهرات ضخمة بعد انتحار الراهب البوذي يبكون، منادين بسقوط أسرة نغوس الحاكمة في فيتنام.

ولم يكن دوك الراهب الوحيد الذي أقدم على حرق نفسه علانية كوسيلة للاعتراض، ففي 16 أغسطس (آب) من عام 1963، أقدم راهب آخر على الانتحار حرقا في فاثنثيت، القريبة من سايغون.. كما استمرت حالات الانتحار حرقا خلال الحرب الفيتنامية.

ولم يقتصر الأمر على الرجال، ففي مايو (أيار) 1966 أشعلت نو ثانه كوانغ، الراهبة البوذية، النار في جسدها بمدينة هيو، وخرجت إثر ذلك مظاهرة حاشدة ضمت نحو 20 ألف شخص في سايغون.

ومثلما استشرت حمى الانتحار حرقا من تونس لدول مجاورة، امتدت نوبة الانتحار حرقا علانية للتعبير عن رفض سياسي إلى الولايات المتحدة خلال حقبة حرب فيتنام، وتتمثل أشهر الحالات الأميركية في نورمان موريسون (31 عاما)، والذي أشعل النار في نفسه في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1965، خارج مكتب وزير الدفاع آنذاك روبرت مكنامارا بمقر الوزارة، حاملا معه طفلته الصغيرة التي نجت من الحادث.

وجاء انتحار موريسون حرقا اعتراضا على حرب فيتنام، مستوحيا الأسلوب من رهبان سايغون.. واللافت للانتباه أن رسالة موريسون، التي لم يعلنها صراحة قط، غفل عنها معظم الأميركيين، ويبدو كما لو أن الضمير الجماعي الأميركي عمد إلى تجاهل الرسالة القوية التي أطلقتها حالات الانتحار حرقا ضد الحرب، واختار صم الآذان عنها. وعلى النقيض، أدرك الفيتناميين الرسالة عن بُعد وبجلوها، خاصة في الشمال، حيث رأوا في انتحاره تضحية عظيمة للاعتراض على حرب ظالمة.. وإلى يومنا هذا، يحمل أحد الشوارع قرب هانوي اسمه وهناك طابع بريدي يحمل صورته وتغنى بسيرته كثير من الشعراء هناك.

وفي مذكراته، علق مكنامارا على انتحار موريسون بقوله: «كان موت موريسون فاجعة، ليس لأسرته فقط، وإنما لي وللبلاد بأسرها. لقد كان موته صيحة ضد القتل الذي يدمر حياة أعداد غفيرة من الفيتناميين والشباب الأميركي».

ومع أن موريسون لم يكن الأميركي الوحيد المنتحر حرقا اعتراضا على الحرب، بل ولم يكن أول من أقدم على ذلك، فإن الآخرين لم يجذبوا ذات القدر من الاهتمام. وكانت أليس هيرز (82 عاما) قد سبقته، حيث أشعلت النار في نفسها على ناصية شارع في ديترويت في 16 مارس (آذار) من عام 1965.

وعثرت الشرطة على رسالة تركتها قالت فيها إنها تعترض على «استغلال الرئيس ليندون بي. جونسون منصبه الرفيع في محاولة محو دول صغيرة».. واعترفت أنها أقدمت على الانتحار حرقا في محاكاة لحوادث الانتحار حرقا في فيتنام.

وفي 9 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1965، أشعل روجر لابورت (22 عاما) النار في نفسه أمام مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، بعد أسبوع من انتحار موريسون حرقا أمام البنتاغون. وفي طريقه للمستشفى، حيث توفي بعد 33 ساعة، أخبر لابورت، المسيحي الكاثوليكي، مسعفيه أنه «ضد الحرب، أي حرب.. لقد فعلت هذا كعمل ديني».

وفي اعتراضه على حرب أخرى، أشعل الطالب التشيكي جون بالاتش (21 عاما) النار في نفسه أمام المتحف الوطني في قلب براغ، في 16 يناير من عام 1969، اعتراضا على الاحتلال السوفياتي لبلاده في العام الأسبق.. وما يزال مئات من التشيك يحتشدون في مكان الحادث سنويا لإحياء ذكرى بالاتش الذي أصبح بطلا وطنيا.

وفي العقود الأخيرة، تحول الانتحار حرقا إلى الملاذ المفضل للنساء الأفغانيات هربا من جحيم ظروف اجتماعية واقتصادية مؤلمة. وأعلنت وزارة شؤون المرأة الأفغانية أنه ما بين مارس (آذار) 2009 ومارس 2010، وقعت 103 حالات موثقة لنساء أشعلن النار في أنفسهن.. لكن صعوبة جمع البيانات في أفغانستان تحول دون معرفة العدد الحقيقي. إذ إنه في بعض الحالات، ينتاب الأسر شعور بالخزي أو الخوف يحول دون الإبلاغ عما حدث، ولكن الملاحظ حدوث تزايد ملحوظ في ظاهرة الانتحار حرقا بين الأفغانيات في السنوات الأخيرة.

وتتمثل الأسباب الرئيسة في الفقر والجهل والعنف الأسري، الذي تعانيه الغالبية العظمى من الأفغانيات ونادرا ما يبلغن السلطات بشأنه، وحتى في الحالات التي تقدم فيها المرأة على الانتحار حرقا، يميل المجتمع الأفغاني بصورة عامة لتحميلها اللوم باعتبارها لم تكن زوجة أو أما صالحة، وبالتالي استحقت التأديب ضربا من زوجها وأسرته.

وفي إيران المجاورة، وفي صيحة غضب نسوية أخرى اعتراضا على أوضاع المرأة، أضرمت الطبيبة النفسية دكتورة هوما دارابي النار في نفسها في ميدان مزدحم بشمال طهران في 21 فبراير (شباط) من عام 1994، بعد أن فُصِلت من عملها كأستاذة بكلية الطب في جامعة طهران لعدم التزامها بتغطية شعرها، إلى جانب اضطرارها لسنوات وتحت ضغوط من آباء وأمهات، لإطلاق وصف «فاقدة الأهلية ذهنيا» على الكثير من الفتيات الأصحاء تماما لإنقاذهن من التعذيب على يد المتشددين، في وقت كانت عقوبة وضع مساحيق تجميل أو أحمر شفاه في إيران تصل إلى 150 جلدة.. لكن الكيل طفح بها عندما تعرضت فتاة في الـ16 من عمرها للقتل بإطلاق النار عليها لوضعها أحمر شفاه.

وعلى المستوى العالمي، وقعت أشهر حالات الانتحار العلني حرقا في القرن الـ21 في ميدان تيانامين في الصين عشية العام الصيني الجديد في 23 يناير من عام 2001.. وذلك عندما أقدم خمسة أشخاص، سرعان ما أعلنت وكالة الأنباء الصينية الرسمية «شينخوا» أنهم من أعضاء حركة «فالون غونغ» الروحية المحظورة، على إشعال النار في أنفسهم بالميدان. وذكرت تقارير إعلامية أن ذلك جاء اعتراضا على معاملة الدولة الصينية للجماعة المحظورة، والتي تعتبرها الأخيرة ظالمة وتتسم بالاضطهاد.. وقد لقي اثنان منهم حتفهما بالفعل.

إلا أن الحركة نفسها نفت أن يكونوا هؤلاء الأفراد من أتباعها، لأن تعاليمها تحظر القتل وتعد الانتحار خطيئة. ورغم اقتباس وسائل الإعلام الغربية في معظمها بادئ الأمر الرواية الرسمية الصينية للحادث، صدرت خلال السنوات التالية عدة تقارير تشكك في هذه الرواية، وتتهم المؤسسة الرسمية الصينية بتلفيق الحادث لـ«فالون غونغ» لإثارة كراهية الرأي العام تجاه الحركة.

اللافت أن جميع الديانات تقريبا، بما فيها البوذية، أجمعت على تحريم الانتحار وإلحاق الأذى بالنفس. وقطعا، يعد الانتحار بوجه عام، وحرقا بوجه خاص، من الظواهر الصادمة داخل العالم العربي المسلم، فمعروف للجميع تحريم الإسلام الانتحار بشتى صوره، وتسود قناعة بأنه يدفع بالمرء خارج دائرة الإيمان.

أما القتل حرقا فمنهي عنه بحزم في أحاديث عدة ومعروفة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من أشهرها «لا يعذب بالنار إلا رب النار»، مما ارتأت الغالبية أنه حكم يجعل النار كوسيلة تعذيب حكرا على الخالق سبحانه وتعالى ولا يجوز أن ينازعه فيها أحد.

ورغم الضجة المثارة حول نوبة محاولات الانتحار الأخيرة، تكشف الأرقام أن الانتحار بوجه عام تحول لظاهرة مثيرة للقلق على نحو بالغ على المستويين العالمي والعربي. واللافت أن أوائل الدول العربية التي التقطت حمى الإعلان عن الغضب السياسي حرقا، هي تلك التي تتسم بالفعل بتفاقم معدلات الانتحار بها بصورة عامة، وهي مصر والجزائر، وبالطبع تونس، منبع الظاهرة.

وفي تقرير لها عام 2010، حذرت منظمة الصحة العالمية من ارتفاع معدلات الانتحار بين الشباب والمراهقين عالميا، حيث وصل العدد في تلك الشريحة إلى 100 ألف شخص سنويا.. وبصورة إجمالية، ينتحر مليون شخص سنويا، بمعدل منتحر كل 40 ثانية. وخلال الأعوام الـ45 الماضية، ارتفعت معدلات الانتحار بنسبة 60%، وتأتي روسيا والصين والدول الاسكندينافية في مقدمة الدول من حيث أعداد المنتحرين، بمعدل 13 منتحرا لكل 100 ألف نسمة.

وفي مصر، يقل المعدل عن 6.5 حالة لكل 100 ألف شخص، أي نحو 2200 حالة انتحار سنويا. وتأتي مصر على رأس الدول العربية في نسبة الانتحار، وقد كشفت تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أن مصر شهدت 104 آلاف محاولة انتحار عام 2009 فقط.

وكشفت دراسة لمركز معلومات رئاسة الوزراء أن معدلات الانتحار تتفاقم في مصر، حيث بلغت 1160 حالة عام 2005، وتضاعفت عام 2006 إلى 2335 حالة.. ووصلت إلى 3700 عام 2007، وإلى 4200 عام 2008، وبلغت 5000 عام 2009.

وفي الجزائر، وحسب تقديرات غير رسمية لعلماء نفس واجتماع جزائريين، تشهد الجزائر 10 آلاف محاولة انتحار فاشلة سنويا. وسجلت دراسة لمؤسسة البحوث الطبية «فورام» المستقلة بين عامي 1995 و2003 معدلا بلغ محاولة انتحار كل 12 ساعة. وتبقى المعدلات بعيدة عن الواقع لحرص معظم الأسر الجزائرية، مثلما هي الحال مع جميع المجتمعات العربية، على التكتم على مسألة الانتحار باعتبارها مصدر خزي.

أما تونس، فتشير تقديرات لأطباء نفسيين تونسيين صدرت عام 2005 إلى أن واحدا في الألف من سكان تونس يحاول الانتحار سنويا، مما يعادل نحو 10 آلاف محاولة انتحار، تنجح جهود الإنقاذ في معظمها. وأن نسبة الانتحار في تونس تتفاقم لتتجاوز معظم الدول العربية، وتأتي البطالة على رأس الأسباب، يتبعها النساء المعنفات أو المطلقات.

ويرى بعض علماء اجتماع في تفشي ظاهرة الانتحار عامة، والحرق خاصة، دليلا على أن انتشار النزعات الدينية الإسلامية في السنوات الأخيرة بالكثير من الدول العربية لا تعدو في حقيقتها تمسكا بقشور الدين، دون جوهره.. بينما يرى فيها آخرون دليلا على فداحة مشاعر اليأس والإحباط التي يعانيها كثير من الشباب العرب. جدير بالذكر في هذا الصدد أن دراسة نشرتها «دورية رعاية وأبحاث الحروق» (جورنال أوف بيرن كير آند ريسرتش) عام 2008، خلصت إلى أن «إضرام النار عمدا في الجسد أمر نادر الحدوث في الدول مرتفعة الدخل، بينما يقع بمعدلات أعلى في الدول ذات الدخول المتوسطة والمنخفضة، خاصة في آسيا وأفريقيا»، وأكدت الدراسة أن البطالة أحد العوامل الرئيسة وراء هذا الأمر.