الغنوشي.. رئيس ليوم واحد

صاحب أطول فترة لرئاسة الوزراء في عهد بن علي

TT

ما إن خلع التونسيون رئيسهم زين العابدين بن علي في الرابع عشر من يناير (كانون الثاني) الحالي، حتى ثارت تكهنات لبضع ساعات حول من سيدير شؤون البلاد، قبل أن يظهر الوزير الأول (رئيس الوزراء)، محمد الغنوشي ليعلن توليه سدة الحكم في تونس مستندا إلى المادة 56 من الدستور التونسي التي تتيح له تولي الرئاسة مؤقتا بموجب تفويض من الرئيس، ليستمر رئيسا للبلاد لأقل من يوم واحد قبل أن ينصب رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع نفسه رئيسا بموجب المادة 57 من الدستور بعد تأكد هروب بن علي واستحالة عودته ليدخل الغنوشي بذلك موسوعة الأرقام القياسية ضمن واحد من أقصر الرؤساء الذين حكموا بلادهم.

ولد الغنوشي الذي يتولي رئاسة الحكومة التونسية منذ عام 1999، في مدينة سوسة جنوب العاصمة التونسية في 18 أغسطس (آب) 1941، حيث أتم دراسته الثانوية وحصل على شهادته في العلوم السياسية والاقتصادية من جامعة تونس. وتولى مسؤولية المدير العام للتخطيط عام 1975، ودخل الحكومة التونسية لأول مرة عام 1987 في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ككاتب دولة لدى وزير التخطيط، وكلف بعدها بفترة وجيزة بوزارة التخطيط في حكومة الرئيس زين العابدين بن علي، وأعيد تكليفه بحقيبة التخطيط في يناير 1988.

وفي 11 أبريل (نيسان) عام 1989 عين الغنوشي وزيرا للتخطيط والمالية، ثم تولى في 3 مارس (آذار) 1990 وزارة الاقتصاد والمالية، وفي 20 فبراير (شباط) 1991 عين وزيرا للمالية، وسنة 1992 كلف بوزارة التعاون الدولي والاستثمار الخارجي، واستمر في هذا المنصب حتى عينه بن علي وزيرا أول (رئيس الوزراء) خلفا لحامد القروي بعد الانتخابات الرئاسية عام 1999. ورغم توليه رئاسة الوزراء، فإن بن علي كلف الغنوشي بالملف الاقتصادي نظرا لما يتمتع به من خبرة في هذا الملف وعلاقات جيدة مع المنظمات الدولية.ورغم أن الغنوشي تولى رئاسة الحكومة في تونس، فإن ترتيبه البروتوكولي ظل في المركز الثالث بصفته النائب الثاني لرئيس التجمع الدستوري الديمقراطي (الذي يرأسه بن علي)، بعد النائب الأول حامد القروي، واستمر في منصب النائب الثاني حتى سبتمبر (أيلول) 2008 حين أصبح النائب الوحيد لرئيس الحزب الحاكم.

وعرف الغنوشي على الصعيد الدولي بقيادته مفاوضات بلاده مع المؤسسات المالية الدولية، لا سيما صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، التي حقق فيها نجاحات كبيرة، ويعرف عن الغنوشي كفاءته الاقتصادية، ويعد أحد مهندسي الإصلاحات الاقتصادية التي شهدتها البلاد خلال العقدين الماضيين، حتى وإن غابت آثارها عن المواطن العادي في الشارع التونسي.

وتعد الفترة التي قضاها الغنوشي في رئاسة الوزراء طويلة نسبية مقارنة بسابقيه في عهد بن علي الذي اشتهر بتغيير القادة على فترات قريبة بسبب خوفه من بزوغ نجم أحدهم مما يجعله يفكر في منافسته، وربما يكون السبب في طول فترة بقاء الغنوشي في منصبه هو أن بن علي كان لا يرى فيه منافسا محتملا له. وما إن اندلعت الاضطرابات على الساحة التونسية في منتصف شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي على خلفية إشعال الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه احتجاجا على تعسف الشرطة معه بسبب عمله كبائع خضراوات، حتى لعب الغنوشي دورا بارزا في محاولة تهدئة الأمور؛ إذ أعلن إقالة وزير الداخلية رفيق بلحاج القاسم ودافع عن تعامل تونس مع الاحتجاجات التي امتدت من مدينة سيدي بوزيد إلى عدد من الولايات التونسية وصولا إلى العاصمة.

وما إن تأكد خروج بن علي من البلاد وبينما كانت طائرته تبحث عن أرض تسمح لها بالهبوط، حتى ظهر الغنوشي على شاشات التلفاز التونسي مساء يوم 14 يناير الحالي، محاطا برئيسي مجلس النواب فؤاد المبزع ومجلس المستشارين عبد الله القلال، ليعلن توليه الرئاسة مؤقتا بموجب المادة 56 من الدستور التي تنص على أنه «لرئيس الدولة أن يفوض الوزير الأول للقيام بأعماله مؤقتا في حال عدم تمكنه من القيام بمهامه»، إلا أن الغنوشي لم يجلس على كرسي السلطة في تونس إلا لأقل من يوم واحد؛ إذ إن المجلس الدستوري أعلن في الخامس عشر من يناير الحالي أنه بعد الاطلاع على الوثائق، تبين لديه أنه لم يكن هناك تفويض واضح للوزير الأول يمكن الارتكاز عليه، وأن الرئيس بن علي لم يستقل.

وقال المجلس في بيان له: «وبما أن مغادرته (بن علي) حصلت في ظروف معروفة وبعد إعلان الطوارئ وبما أنه لا يستطيع القيام بما تستلزمه مهامه، ما يعني الوصول لحالة العجز النهائي، فعليه، تقرر اللجوء للفصل 57 من الدستور وإعلان شغور منصب الرئيس، ليعلن بناء ذلك تولي رئيس مجلس النواب محمد فؤاد المبزع منصب رئيس الجمهورية بشكل مؤقت لحين إجراء انتخابات رئاسية مبكرة خلال فترة من 45 إلى 60 يوما حسب نص الدستور.

ورغم أن الغنوشي مصنف على أنه أحد أركان «النظام المخلوع» فإن المبزع كلفه بتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم أطيافا سياسية مختلفة، إلا أن المظاهرات لم تتوقف في تونس رغم خلع الرئيس وإقالة الحكومة والقبض على عدد من المسؤولين السابقين وأفراد من عائلة بن علي وعائلة زوجته بتهمة استغلال النفوذ والتربح، بسبب احتفاظ وزراء حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي كان يتزعمه بن علي، بنصيب الأسد في تشكيلة الحكومة الجديدة، قبل أن يستقيل عدد من هؤلاء الوزراء من عضوية الحزب وعلى رأسهم الغنوشي نفسه، الذي أعلن أمس، الخميس، حل لجنته المركزية، من دون أن يطال قرار الحل الحزب ذاته.

ومع استمرار المظاهرات المعارضة له في تونس، وجد الغنوشي نفسه في موقف صعب، خاصة مع استقالة عدد من وزراء حكومته الجديدة بعد 24 ساعة من تشكيلها، لأن وزراء المعارضة فوجئوا بعدد كبير من وزراء حزب بن علي في الحكومة الجديدة، وهو ما دافع عنه الغنوشي قائلا إن الوزراء السابقين الذين اختارهم «أيديهم نظيفة، وتصرفوا على الدوام حفاظا على المصلحة الوطنية»، مهددا بتسليم السلطة إلى الجيش في حال انهيار حكومته الجديدة.

من ناحية أخرى، فقد وافق على بعض مطالب المعارضين بتقليص حضور الحزب الحاكم السابق في الحكومة، ولما كان من الصعب إقالة أي من هؤلاء الوزراء، فقد قدم عدد منهم وعلى رأسهم الرئيس المؤقت فؤاد المبزع والغنوشي استقالاتهم من الحزب، كما أصدر الحزب قرارا بفصل الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي من عضويته، كما أفرج الغنوشي عن المعتقلين السياسيين الذين زج بهم بن علي في السجون وتعهد بإصدار قانون عفو سياسي شامل، في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي المستمر.

* وحدة أبحاث «الشرق الأوسط»