كوينزلاند.. معركة التعويضات

بعد هدوء «ثورة الأنهر».. أفاقت أستراليا على أزمات أكبر حجما وهما

TT

انحسرت الفيضانات. بعد عدة أيام مؤلمة من الغزو المائي لمدينة بريسبن ومحيطها، وأماكن كثيرة من كوينزلاند وفيكتوريا ونيو ساوث ويلز. لكن، بدأت الأزمة الفعلية التي كان يتوقعها الجميع. ليس توقعا عبثيا أو سورياليا، إنما هو الواقع المؤلم، في بلد يفتقر إلى نظام رعاية اجتماعية كامل فتتحكم بأموره المالية شركات التأمين.

هكذا، ما إن هدأت ثورة الأنهر. حتى بادرت رئيسة الوزراء جوليا غيلارد إلى دعوة شركات التأمين، لبذل قصارى جهودها لمساعدة المتضررين. ليس هذا فحسب. فقد قام أمين الخزينة العامة في بريسبن واين سوان ومساعده بلقاء عدد من رؤساء شركات التأمين الكبرى في المدينة لحثهم على المساعدة. في حين حذرت رئيسة حكومة كوينزلاند آنا بليغ هذه الشركات بالقول إن «ليس من مصلحتكم التضييق على الناس بمسألة التعويضات» لذلك، من موقعي في المسؤولية «أدعوكم التعامل برأفة مع الناس جميعا دون تمييز». آنا بليغ التي لفتت إلى التمييز في التعاطي مع عملاء الشركات، لم تكن تقصد التمييز العرقي أو الديني أو ما شابه من صفات، تومئ لها الكلمة عادة. فالتمييز هنا، لا يعدو كونه سبيلا للشركات إلى التملص من عهودها المالية تجاه أصحاب البوالص.

فالتحذير الرسمي للشركات، ثم، الطلب منها إنزال الرأفة بالمتضررين، وهم كثر، في هذه المأساة. لا يعدو كونه بداية تملص حكومي، أيضا، من تحمل المسؤولية كاملة. عكس ما قالت به رئيسة الوزراء غيلارد بداية الأزمة. فهي وإن وعدت في البداية، تحمل المسؤولية الكاملة عن ما ستسفر عنه في النهاية هذه الفيضانات. بدأت بعد انحسارها، بالاعتراف، ولو نسبيا، بعدم قدرة الحكومة المركزية والحكومات الرديفة على تسديد النفقات وتعويض الخسائر. وهذا بحد ذاته مربط الفرس على ما تقول العامة. وهو في الشق الراهن منه، أساس خلاف سياسي وقانوني قد يستمر طويلا، في حين أن الناس ينتظرون مساعدة عاجلة. أما شركات التأمين، الحاكم الفعلي المسيطر على حياة الناس وممتلكاتهم إلى جانب حياتهم الصحية. فقد بدأت بالفعل، التحضير لخطة انسحاب ممنهجة، من دفع التعويضات التي تفوق، بحسب التقديرات الأولية في بريسبن وحدها نصف مليار دولار للملكيات السكنية الصغيرة، دون احتساب، المؤسسات التجارية الضخمة والمتوسطة والصغيرة.

والحق أن أحد الناطقين باسم شركة «أليانز» العالمية للتأمينات قال بوضوح في هذا الجانب «إن ضحايا الفيضانات الذين لا يوجد معهم بوالص تأمين تشمل هذا النوع من الكوارث لا يمكن تعويضهم وإعطاؤهم الهبات مجانا» فالشركات التي تعنى بهذا النوع من الأعمال، ليست بأي حال من الأحوال مؤسسات خيرية. قاذفا المشكلة في وجه الحكومة المركزية التي عليها أن تعمل بجد لتجاوز هذه المحنة التي ألمت بالبلاد حيث «الكارثة بليغة وكبيرة جدا في كوينزلاند» على ما قال الشخص نفسه.

والحال أن هذه الشركات، وهي في غالبها، صاحبة رؤوس أموال ضخمة، توازي بعضها ميزانيات دول صغيرة الحجم. تعمل وفق منهج ربحي طبيعي يفرضه، بطبيعة الحال، سوق العرض والطلب. وهي لذلك في كثير من المناطق الجغرافية، ترفض التأمين على الفيضانات، حتى لو كانت المبالغ المدفوعة من أجل الحصول على هذا النوع من التأمينات عالية جدا. فمن سخريات القدر وذكاء المحامين الذي يسبكون بنود البوالص وعقود التأمين في هذه الشركات. يرفض رفضا تاما التأمين على الفيضانات في المدن التي تكثر فيها الأنهر ويخص بذلك البيوت الصغيرة على حواف الأنهر، التي عادة ما تكون ملكيات غالية الثمن. وتستثنى منه الأبنية الشاهقة، التي إن جاءها فيضان فلن يصل إلى كاحلها، فتسبح في المياه كما يلهو طفل صغير ببركة الماء التي بحديقة البيت. أما بعض الشركات التي يمكنها التأمين على هذا النوع من الحوادث فهي تطلب مبالغ خيالية لا يمكن تسديدها.

وفي هذا المضمار، فإن قلة من الأماكن في استراليا، كلها، هي التي يمكن أن توضع في نطاق التأمينات على الفيضانات. في حين أن غالبية المناطق لا تحتوي بوالص التأمين فيها أي بند يتعلق بهذه الفيضانات. والسبب في ذلك، أن عمل المجالس المحلية أو البلديات أو حتى حكومات الولايات، ينص على أن تبلغ هذه الهيئات والمؤسسات من خلال الأرصاد الدقيقة التي تتم بأعلى الأجهزة التكنولوجية دقة. تبلغ بالأماكن التي من المحتمل أن تتعرض للفيضانات، وبالتالي تفرض على شركات التأمين وضع الفيضانات كبند أساسي في أي عقد للتأمين على الملكيات مهما كان حجمها ونوعها. وهو الأمر الذي لم يحصل.

فرغم الكارثة السابقة قبل نيف وثلاثة عقود في المنطقة نفسها. لم تجد سلطات بريسبن من داع، أن تسن قوانين، تجبر شركات التأمين، على وضع الفيضانات كبند رئيسي يحتمها التعويض عنه في حال حدوثه. وهو ما خلق لها مشكلة كبرى هذه الأيام وحشرها بزاوية لا يمكن بأي حال من الأحوال التملص منها بسهولة.

لا تخلو لعبة شركات التأمين، السابقة، من بذاءة درجت عليها هذه الشركات. ففي الوقت الذي فيه الناس مشدودين بعصب الأمل في تعويض من هنا أو هناك. تعلن الشركات أنها غير مسؤولة تماما عما حصل. وتعلن ذلك قراءة وكتابة وعلى الملأ، متحصنة بالقوانين من جانب وبقلة الذوق من جانب آخر. ذلك، تماما، في الوقت الذي بدأ فيه الاستراليون جميعا دفع مساهمات فردية وجماعية للمساعدة في تجاوز الأعطاب التي خلفتها هذه المحنة الوطنية. ومع أن هذه المساهمات لن تسد الكثير من العجز الحاصل، تقف شركات التأمين، كما لو أنها تتفرج على بطولة استراليا المفتوحة للتنس، التي كانت ترمى كراتها في المدينة، قبل يوم واحد من الكارثة.

مع ذلك، فثمة ما بين ثنايا هذا الواقع، الذي تتملص منه الشركات والحكومة معا. العديد من النقاط، التي يمكن لها أن تساهم بانتصار الحكومة على هذه الشركات. منها أن الواقع يقول بأن التأمينات، التي لا تشمل الفيضانات، بسبب خطأ حكومي برلماني صارخ. يمكن لها أن تجبر شركات التأمين على سد عجز لن يكون قليلا بأي حال. فالتأمينات التي تتعلق بالملكيات الخاصة، والتي يجنى منها الكثير، هي في الغالب تأمينات على الموجودات، من مثل التأمين على محتويات المنزل العادية والقمية في حال فقدانها أو تلفها لأسباب لا تتعلق بصاحب الملكية أو أنه لم يسهم شخصيا في تلفها. ورغم أن هذه الحجة، التي بدأ الحديث يدور بشأنها، مقنعة في الظاهر، فإنها حجة رخوة وتحتاج إلى أسانيد قانونية قوية لتجبر الشركات على دفع التعويضات.

وعلى هذا فإن الدموع التي كانت تذرفها آلن بليغ على التلفزيون مباشرة، يوميا، لن تكفي لتضميد جروح المصابين بأعطاب كبرى في منازلهم وملكياتهم. كما لن يكفي الأحد عشر ألف متطوع، الذين يمموا وجوههم شطر بريسبن لمساعدة سكانها في حملة التنظيف الكبرى التي تعيشها المدينة. فما بعد الأوساخ التي ستنظف حتما، ستكون دموع السيدة بليغ أمام امتحان التعويضات، التي بدأ منذ الآن ناقوس الخطر يدق بشأنها. فقبل يوم من هدوء الأنهر وتراجع مياهه إلى مجراه وسريانها بشكل طبيعي. كانت التقديرات بالخسائر تصل إلى نحو 11 مليار دولار أسترالي (11 مليار دولار أميركي)، وهي تقديرات، لم تكن تجانب الحقيقة، حيث المدينة كانت لا تزال غارقة بمياهها.

فغداة انكشاف حقيقة التخريب الذي طال المدينة وجوارها، تكشفت أرقام، لم تكن حكومة كوينزلاند بوارد عدها والوصول إليها. إذ ستصل الخسائر إلى نحو 30 مليار دولار، لن تذهب جميعها إلى التعويضات. بل هي لترميم البنية التحتية التي تأذت بشكل كبير، إلى الخسائر التي ترتبت عن شلل الاقتصاد المحلي، إضافة إلى التعويضات التي ترفض شركات التأمين المساهمة فيها، تماما كما ترفض البنوك المساعدة على تخطيها، هي التي أصيبت قبل الفيضانات بفترة بسيطة، بهزة مالية ضخمة، لم يغلق النقاش فيها لغاية اليوم.

فشرط عودة الحال إلى سابق عهده في الولاية الأكثر تضررا، هو العودة إلى بناء سدود جديدة بنسب استيعاب أكبر تفوق تلك التي تضررت، بكلفة تصل إلى 12.5 مليار دولار إلى جانب 13 مليار دولار لدفع عجلة التنمية المحلية في الولاية مرة جديدة، وإصلاح 16 محطة لتوليد الطاقة أدت الفيضانات إلى تدمير نحو 70 في المائة منها تدميرا ما بين جزئيا وكاملا. إلى جانب التعويضات والمساهمة بإعادة بناء ما تهدم أو ترميم ما يمكن ترميمه والإبقاء عليه. وأمام كارثة بهذا الحجم، وقفت السيدة بليغ تبكي كرد فعل أولي، على البيوت التي تهدمت والناس الذين تشردوا، وهي على الأرجح ستستمر بذرف دموعها لوقت طويل.