محامي الشعب

النائب العام في مصر عبد المجيد محمود سيحمل على عاتقه فتح ملفات الفساد تحضيرا لصفحة جديدة

صورة أرشيفية لعبد المجيد محمود يتحدث للصحافيين بعد معاينة متحف محمد محمود خليل في القاهرة (أ.ف.ب)
TT

«محامي الشعب»، لقب أطلقه المصريون عليه، ويرى مختصون أنه تتويج لمشوار حافل أنجزه الرجل الذي يتولى منصب الحارس الأول لبوابة القانون في مصر، النائب العام المستشار عبد المجيد محمود، الذي يشبهونه الآن بـ «رمانة الميزان» في مفترق طرق سيحدد مستقبل مصر ويصوغ أحلامها على جسر الثورة والتغيير.

فبعد أن اجتازت مصر المرحلة الأولى لثورتها بنجاح، تسعى الآن لاجتياز مرحلة ثانية شائكة في مختلف المجالات، ووسط الملفات الكثيرة التي تحظى بالاهتمام من قبل كافة الأطراف، يحتل ملف مكافحة الفساد مرتبة متقدمة في الاهتمامات المصرية. لكن عند ذكر مكافحة الفساد، يطمئن المصريون إلى أن مصير التحقيقات سيكون في يد أمينة، لما يتمتع به المستشار عبد المجيد محمود من تاريخ رائع وسيرة ناصعة، حتى إن المصريين لقبوه بمحامي الشعب، خاصة بعد إحالته العديد من الوزراء والمسؤولين ورجال الأعمال إلى التحقيقات والمحاكمات، دون النظر لمواقعهم ووظائفهم.. ليؤكد بذلك أنه لا هامة تعلو فوق القانون ولا أحد يعلو على الحساب إذا ما ارتكب جرما.

وعقب أحداث ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، أصدر المستشار محمود قرارات بتجميد أرصدة أموال كل من حبيب العادلي وزير الداخلية السابق، وأحمد المغربي وزير الإسكان والتعمير السابق، وزهير جرانة وزير السياحة السابق، ورشيد محمد رشيد وزير التجارة والصناعة الأسبق، وأمين أباظة وزير الزراعة السابق، ورجل الأعمال أحمد عز أمين التنظيم بالحزب الوطني السابق، ورجل الأعمال محمد أبو العينين القيادي السابق بالحزب الحاكم، ومنعهم من السفر، كما أمر بالتحقيق فورا مع وزير الثقافة السابق فاروق حسني، بناء على بلاغ تقدم به نخبة من علماء الآثار ضد الوزير يتهمونه بالفساد وإهدار المال العام.

التاريخ الإداري للمستشار عبد المجيد محمود، الذي ولد في 12 سبتمبر (أيلول) من عام 1946، حافل بالعديد من المنصب.. فعقب تخرجه في جامعة القاهرة وحصوله على ليسانس الحقوق في عام 1967، عمل معاونا بالنيابة العامة في عام 1969، إلى أن عين رئيسا للنيابة العامة في عام 1979. وفي عام 1985 عين محاميا عاما للنيابات، ثم المحامي العام الأول لنيابة أمن الدولة العليا، إلى أن ترأس محكمة استئناف القاهرة في 1992.

وانتدب المستشار محمود وكيلا أول لإدارة التفتيش القضائي بالنيابة العامة في أكتوبر (تشرين الأول) 1993، وعين بمنصب النائب العام المساعد ومدير التفتيش القضائي عام 1999. وتولى سلطة النائب العام في الأول من شهر يوليو (تموز) عام 2006، خلفا للمستشار ماهر عبد الواحد الذي ترأس المحكمة الدستورية العليا حتى عام 2009.

حصل المستشار عبد المجيد محمود على درجة الدكتوراه في موضوع «المواجهة الجنائية للفساد في ضوء الاتفاقيات الدولية والتشريع»، من كلية الحقوق بجامعة عين شمس في أكتوبر 2010، بدرجة «جيد جدا مع مرتبة الشرف».

وخلص محمود في رسالته إلى أن «اتساع دائرة الفساد وعالميته نتج عنه عواقب وخيمة أعاقت خطط التنمية الاقتصادية وعرقلت جهود الاستثمار في البلدان الفقيرة، وامتدت إلى الدول الغنية فانخفضت معدلات تحسين مستويات المعيشة، كما أنها تؤدي على المستوى الدولي إلى تشويه التجارة الدولية والتدفقات الاستثمارية وتسهل ارتكاب الجرائم المنظمة العابرة للحدود الإقليمية وأخصها الرشوة الدولية والاتجار في المخدرات والمؤثرات العقلية وغسل الأموال وكلها تعرض التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على مستوى العالم لأخطار كبيرة».

ويرى محمود أن «الفساد أصبح قضية عالمية أدرك العالم خطرها واستقر في يقينه الحاجة الماسة إلى سياسات فعالة للتصدي لها من خلال تعاون إقليمي ودولي جاد لا يقتصر على الحكومات بل يمتد إلى المنظمات الدولية وإلى المجتمع المدني بمنظماته غير الحكومية».

النتائج التي تمخضت عنها الدراسة تؤكد أن التوافق الكلى بين المنظومة التشريعية الجنائية المصرية لمكافحة الفساد، وما نصت عليه اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد من أحكام، يقتضى أن يتناول التشريع الجنائي المصري بالتجريم كافة صور سلوك الفساد في القطاع الخاص، وأن يقرر لهذه الصور عقوبات وجزاءات رادعة تتناسب مع خطورة الدور الذي يؤديه هذا القطاع في مجال النشاط الاقتصادي الوطني.

وأشارت رسالته إلى ضرورة أن يمتد نطاق مكافحة جرائم الفساد من حيث تحديد صفة الفاعل الذي تجوز ملاحقته عن إحدى هذه الجرائم ليشمل، إلى جانب الموظفين العامين بالمفهوم القانوني التقليدي في التشريع الجنائي المصري، الموظفين الدوليين والموظفين العامين الأجانب، وموظفي المنظمات الدولية بالتعريف الوارد في الاتفاقية.

ودخل المستشار محمود إلى دائرة العمل العام للمرة الأولى في عام 1980، عندما تم انتخابه عضوا بمجلس إدارة النادي الأهلي المصري، وظل عضوا بالمجلس حتى عام 1984، ثم لفترة أخرى من عام 1988 وحتى عام 1992، كعضو منتخب.. ثم كعضو معين بمجلس الإدارة، من قبل الجهة الإدارية، في الفترة من بين عامي 1992 حتى 1996، ومن عام 1996 وحتى عام 2000.

وإبان فترة عمله بالنيابة العامة، انتدب المستشار عبد المجيد محمود لمباشرة العمل بعدد من القضايا الكبرى التي شهدتها مصر، من أبرزها أحداث تظاهرات 18 و19 من يناير عام 1977، والتي سماها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بـ«انتفاضة الحرامية»، حين خرج آلاف المصريين إلى الشوارع احتجاجا على إلغاء الدعم ورفع أسعار السلع الغذائية الرئيسية.

كما باشر المستشار عبد المجيد محمود التحقيقات التي أجريت مع العديد من التنظيمات اليسارية التي اعتنقت الفكر الشيوعي إثر نشاطها الملحوظ في نهاية حكم الرئيس السادات، إلى جانب التحقيق مع مرتكبي جريمة قتل الرئيس الراحل أنور السادات في أكتوبر من عام 1981، والذين شكلوا فيما بينهم تنظيم «الجهاد المسلح»، الذي ضم 299 متهما، كان من أبرزهم الدكتور عمر عبد الرحمن مفتي التنظيم، وعبود وطارق الزمر، وعصام دربالة وناجح إبراهيم وأيمن الظواهري وغيرهم، حيث باشر بنفسه التحقيق والمرافعة في القضية. كما تولى أيضا التحقيق والمرافعة في العديد من القضايا التي اتصلت بمحاكمات التنظيمات الدينية المتطرفة، والتي ظهرت في أعقاب اغتيال السادات.. وكان من بينها تنظيم «الناجون من النار»، الذي ارتكب محاولات اغتيال وزيري الداخلية السابقين النبوي إسماعيل وحسن أبو باشا والكاتب الصحافي مكرم محمد أحمد.

وباشر أيضا التحقيق والمرافعة مع قتلة الدكتور رفعت المحجوب، رئيس مجلس الشعب (الغرفة الأولى للبرلمان المصري) السابق، الذي اغتالته عناصر الإرهاب الذين كانوا يترصدون لاغتيال اللواء عبد الحليم موسى وزير الداخلية الأسبق بطريق الخطأ، حيث اعتقدوا أن موكب المحجوب هو موكب موسى فقاموا بإمطار سيارته بنيران أسلحتهم.

ومن بين أشهر القضايا التي باشر التحقيق والمرافعة فيها أيضا تنظيم «ثورة مصر» الذي ترأسه الكادر الناصري المعروف محمود نور الدين، وضم في عضويته خالد جمال عبد الناصر، نجل الرئيس المصري الأسبق.. ونسب إلى التنظيم ارتكاب سلسلة من الاغتيالات والشروع في قتل عدد من الإسرائيليين الموجودين في مصر، والذين كان من أبرزهم الملحق الإداري الإسرائيلي لدى القاهرة، والمسؤولين عن الجناح الإسرائيلي بمعرض القاهرة الصناعي الدولي في منتصف الثمانينات، وهو التنظيم الذي أرشد عنه أحد أعضائه ويدعى محمد عصام الدين.

وعلى مدار السنوات الماضية، وبعد تعيينه كنائب عام، تصدى المستشار محمود للعديد من القضايا التي أثارت وتصدرت بؤرة اهتمام الرأي العام المصري.. حيث لم يتوان عن إصدار قرار يقضي بإعادة شحنة معيبة من القمح الروسي إلى مصدرها، مع رد كامل قيمتها إلى خزينة الدولة في يونيو (حزيران) من عام 2009.. وذلك بعد ثبوت عدم صلاحيتها للاستهلاك الآدمي. كما كلف في ذات العام المستشار ياسر طه، المحامي العام الأول لنيابات الإسكندرية، بالسفر لمتابعة التحقيقات في حادثة مقتل المصرية مروة الشربيني على يد ألماني عنصري بساحة محكمة دريسدن في ولاية سكسونيا.

كما باشر المستشار محمود قضايا «غرق العبارة السلام 98» التي غرقت أمام السواحل المصرية في 2 فبراير (شباط) من عام 2006، وقضية مقتل ابنة الفنانة «ليلى غفران» وصديقتها التي وقعت في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2008، وجريمة الاعتداء على مطرانية «نجع حمادي» عشية احتفالات المسيحيين المصريين بعيد الميلاد في 7 من يناير عام 2010، وقضية الفساد التي عرفت إعلاميا بـ«رشوة المرسيدس» في عام 2010، وقضية مقتل الشاب «خالد سعيد» بالإسكندرية التي اتهم فيها شرطيان باستخدام العنف المفرط وسوء استخدام السلطة في مطلع شهر يونيو (حزيران) من عام 2010.

إلى جانب قضية الخلية الإرهابية التابعة لحزب الله اللبناني، والتي كان أعضاؤها بصدد ارتكاب اغتيالات وعمليات تفجيرية بشمال سيناء، وتمت إدانتهم بأحكام قضائية متفاوتة ما بين السجن المؤبد وحتى الحبس لمدة 6 أشهر في أبريل (نيسان) من العام الجاري. وقضية المتهم بالتخابر على المفاعلات النووية المصرية محمد سيد صابر الذي أدين بالسجن المؤبد. والقضية التي عرفت إعلاميا بـ«أكياس الدم الفاسدة»، والتي اتهم فيها البرلماني المعروف هاني سرور، إلى أن قضت محكمة النقض ببراءته في يوليو من العام الجاري.

ومن القضايا التي أحالها المستشار محمود أمام المحاكم، ولا تزال متداولة حاليا، قضية مقتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم، والمتهم فيها رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى وضابط الشرطة السابق محسن السكري، والتي لا تزال متداولة أمام القضاء بعد إدانة المتهمين فيها بالإعدام، ثم بالسجن المؤبد والمشدد. وقضية «خلية الزيتون»، التي كان أعضاؤها يخططون لعمليات إرهابية لقلب نظام الحكم. وقضية المتهم بمحاولة نسف المعبد اليهودي، وقضية التخابر على مصر وسورية ولبنان لصالح الموساد الإسرائيلي.

وعرف عن المستشار محمود حرصه منذ توليه مهام منصبه كنائب عام على أن يتوجه بنفسه إلى مواقع الأحداث المهمة لمعاينة مواقع الجرائم والأحداث، والتي كان آخرها حادث تفجير كنيسة القديسين، ومن قبلها حادث سرقة لوحة «زهرة الخشخاش» من متحف محمود خليل وحرمه بالجيزة، وحادث التفجير بمنطقة المشهد الحسيني الذي أسفر عن مقتل العديد من السياح والأجانب.

كما أرسل النائب العام بتعليمات مشددة إلى سائر النيابات منذ توليه مهام منصبه وحتى الآن بحسن معاملة المواطنين والمترددين على النيابة العامة سواء من المتهمين أو المحامين، أو المتقاضين والحفاظ على كرامتهم وعدم الإسراف في الحبس الاحتياطي إلا عند مقتضيات الضرورة.

وفيما كان الثوار الشباب يغادرون ساحة ميدان التحرير الذي غدا واحدا من أشهر ميادين العالم بعد أن أصبح رمزا للثورة المصرية، وجد المستشار محمود نفسه أمام كم هائل من ملفات فساد قالت عنها قيادات بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية إنه «هالها حجمها».. ويبدو أن المستشار عبد المجيد محمود سيكون آخر من يغادر قطار الثورة بحثا عن مساحة من الوقت ولو متأخرا قليلا ليحتفل بما أنجزه شباب مصر.