هواجس العملاق الصيني

الصعوبات المستقبلية تتمثل بانخفاض اليد العاملة وازدياد طبقة الأثرياء

مشهد من محطة قطارات في الصين التي تمكنت من احتلال مركز اليابان كثاني أكبر اقتصاد في العالم (أ.ف.ب)
TT

تتخذ الحياة في الصين شكلا مختلفا عن سائر دول العالم. تبدو صاخبة، سريعة، وتتزاحم الحركة في كافة مرافقها الحيوية. يرصد الزائر من الأعلى أنوارا تتلألأ على سائر رقع الصين الجغرافية، ويلتمس ضوضاء المدن لدى نزوله إليها: عمال، تجار، بائعون... ومبتكرون أجادوا اصطياد «فئران» العالم بقط «لا يهم إن كان لونه أبيض أم أسود»! نجح العملاق بذلك، واستطاع أن يتفوق النمو الاقتصادي فيه على غريمه التاريخي، اليابان، وفق آخر المؤشرات، ليصبح ثاني أكبر اقتصاديات العالم بعد الولايات المتحدة. حفاظا على هذا الموقع، وضع التنين خططا مستقبلية للحفاظ على ريادته، لكن هواجس المستقبل تحوم فوق كتفيه، تلك المتمثلة في انخفاض اليد العاملة فيه، وارتفاع عدد الأثرياء بسبب نظام الولد الوحيد.

ومن المؤكد أن الصين ما كانت لتحتل موقع الريادة في العالم لولا وجود مجموعة عوامل أسهمت في ذلك، تتمثل في الاستثمارات الحكومية التي تتوسع في العالم، والاتفاقيات الدولية للحصول على المواد الخام، بالإضافة إلى قدرة الشعب على الإنتاج والابتكار، ومواظبته على العمل، وارتفاع عدد اليد العاملة وتدني كلفة الإنتاج. بيد أن مؤشرات النمو، تنذر بكارثة مستقبلية على الصين، إذ سينخفض عدد اليد العاملة بسبب اتجاه الهرم السكاني نحو الكهولة، وتقلص فئة الشباب، وهي القوة العاملة الأساسية في البلاد، كما سيزداد عدد الأثرياء خلال السنوات الثلاثين المقبلة. تلك المؤشرات، بلا شك، يرجعها الخبراء إلى نظام الولد الوحيد الذي «يصيب البنية الاقتصادية بمقتل».

وفق نظام الولد الوحيد المعمول به، أو الولدين إذا كان الولد البكر أنثى، يرتفع عدد الأثرياء بشكل مطرد. الولد، سيرث ستة أفراد هم الجدين من أمه، والجدين من والده، بالإضافة إلى الأم والأب. ذلك الواقع يحتم عليه أن يتجه إلى التجارة، أو إلى إدارة شؤون عمل خاص أو شركة، مما يبعده عن المشاركة في صناعة سلع تحتاج إلى يد عاملة. «جدي كان عاملا، أما جدي الآخر فامتهن التجارة لدى بلوغه الخمسين... الآن، وبعد تخرجي في الجامعة باختصاص التجارة الدولية، بات خيار العمل في التجارة حتميا، ومن المستحيل أن أتجه إلى مهنة أخرى»، تقول سيلين التي تدير متجرا لبيع السيراميك مع والديها في مدينة فوشان، مشيرة إلى أن شقيقتها ستشاركها العمل في المتجر لدى تخرجها في الجامعة.

وينسحب ذلك الواقع على عدد كبير من الشباب الصيني الذين يعزفون عن العمل في شركات الآخرين، أو في القطاعات التي تحتاج إلى يد عاملة إلا إذا اضطرتهم الحاجة لذلك. مايك (28 عاما، ويعمل مديرا في مكتب تجارة مثلثة) يؤكد أنه لن يعمل في القطاع الزراعي أبدا، بعد أن هجر والده هذه المهنة قبل عشرين عاما، ونقل مكان إقامته إلى مدينة غوانزو.

وتضاف تلك الأسباب إلى أسباب أخرى، تتمثل بمحدودية الضمانات التي تحمي العامل في فترات الشح الإنتاجي، وانخفاض الرواتب التي تتقاضاها اليد العاملة (نحو 300 دولار شهريا)، قياسا بالارتفاع الملحوظ بأسعار إيجارات السكن في المدن، وارتفاع ساعات العمل ومن ضمنها أيام الأعطال في فترات الذروة الإنتاجية.

ومؤخرا، بات الشباب الصيني، غير القادر منهم على إدارة عمل خاص، تواقا للعمل في الإدارات الرسمية بسبب ارتفاع الرواتب في تلك المؤسسات، ووجود حوافز وظيفية ضخمة منها مساعدة في إيجارات السكن والنقل، حتى وصل معدل الدخل الشهري للموظف إلى حدود الألف دولار شهريا، تضاف إلى حوافز أخرى كالعمل ساعات أقل، حيث إن الموظف يحصل على إجازة يومين أسبوعيا. جميع تلك الأسباب، تجعل العمل في القطاعات الإنتاجية، الزراعية والصناعية، خيار المضطرين فقط.

وإذا كانت المؤشرات تقود إلى أن الصين ستحتل الموقع الأول في اقتصاديات العالم في الثلاثينات من القرن الحالي، فإن هاجس اليد العاملة يبقى واقعا لا يمكن نكرانه، مما قد يحول دون تفوقها على الولايات المتحدة في العقد الثالث من هذه الألفية. غير أن الحكومة السياسية الاشتراكية التي فتحت آفاق النظام الرأسمالي في نظامها الاقتصادي، لن تستكين أمام معضلة من هذا النوع، وهي التي ذللت كل العقبات التي واجهتها في السابق، تلك المتمثلة بنقص المواد الخام. فقد عمدت إلى الاستثمار في حقول النفط والغاز ومناجم المعادن مثل الحديد والذهب والنحاس والبوكسيت في أفغانستان وإيران وبعض الدول الأفريقية. آخر المناقصات التي فازت بها الصين، كانت المناقصة التي فازت بها مجموعة التعدين الصينية المملوكة للدولة لاستغلال أحد أكبر مناجم النحاس في العالم في أفغانستان، حيث ستستثمر الشركة نحو ثلاثة مليارات دولار أميركي في المنجم الواقع في أيناك بإقليم لوجار جنوبي كابل.

أما في إيران فقد بلغ حجم استثمار الصين في قطاعي النفط والغاز في نهاية عام 2010 نحو 40 مليار دولار. ومن المتوقع أن يرتفع عدد استثماراتها في ذلك البلد بعد انسحاب الشركات الغربية من إيران بضغط من حكوماتها، عملا بالعقوبات الاقتصادية على إيران بسبب برنامجها النووي.

وتزامن هذا الانفتاح الحكومي مع خطط لزيادة الصادرات إلى تلك البلدان، حيث ارتفعت الصادرات الصينية إلى أفريقيا بنسبة 40 في المائة. كما ارتفعت صادراتها إلى روسيا والهند ودول آسيا الوسطى وأميركا اللاتينية بنسبة كبيرة في السنوات الأخيرة، حتى أصبحت الصين، بحق، العملاق الاقتصادي في العالم الذي يسير باتجاه التطور أكثر فأكثر.

ويبدو أن الخطط الاقتصادية التي وضعتها الحكومة، خصوصا تلك المتعلقة بالتطور الصناعي وفتح الآفاق الاقتصادية في العالم، أبلغ دليل على التكامل بين المؤسسات الخاصة والحكومة المركزية. فقد حصرت الدولة استيراد المواد الخام بها، وبيعها للمصانع بأسعار تتضمن الضريبة وحصتها من الأرباح. كما أسهمت في تعزيز القطاع الصناعي وتشجيع التصدير عبر سلسلة حوافز للمصانع، تتمثل في خفض الضريبة على المصانع بعد تقديم إيصالات التصدير، مما يتيح لتلك الشركات فرصة المنافسة الدولية على السلع المتوفر شبيه لها في السوق العالمية. أما في الداخل، فقد قامت الحكومة بإجراءات تسهيلية للمستثمرين المحليين الذين يتوجهون إلى السوق الداخلية عبر منحهم قروضا طويلة الأمد لتطوير مؤسساتهم.

وإذا كانت الصين قد صورت في فيلم 2012 أنها منقذ العالم من الغرق، فهي بالفعل منقذ شعوب الدول الفقيرة من الحرمان المتمثل بعدم القدرة على اقتناء السلع الضرورية في حياة تلك الشعوب اليومية. ففي حين تنظر الدول الصناعية إلى بكين على أنها المنافس الأول لها في الأسواق التقليدية، في أميركا اللاتينية وأستراليا وأفريقيا والشرق الأوسط، يرى تجار تلك الأسواق أن الصين هي «منقذ الفقراء في العالم»، في إشارة إلى أسعار السلع الزهيدة التي أدخلت إلى دول العالم الثالث، تلك التي أتاحت للفقراء فرصة اقتناء المنتجات المنافسة للسلع الأوروبية بسعر أقل. ويقول سامبا دياكيتيه، التاجر الأفريقي الذي اعتاد على استيراد الأدوات الكهربائية إلى بلاده: «السلع الزهيدة الثمن، فتحت أمامنا أسواقا كثيرة في ساحل العاج وسيراليون وبنين ومالي وليبيريا، وجعلت من المنافسة ممكنة مع السلع التقليدية الأوروبية الصنع، وجعلت المواطن الفقير قادرا على اقتناء السلع لأن الأسعار تصل إلى 60 في المائة أقل».

ويشير إلى أن الاستيراد من الصين قبل أربع سنوات كان أفضل من الوقت الحالي، ذلك أن سعر صرف العملة الصينية «اليوان» مقابل الدولار انخفض من 8 ريميببي في العام 2006 إلى 6.6 ريميببي في الوقت الحالي. هذا التعزيز في قيمة العملة المحلية التي يحصر بها التداول في الصين، تزيد من مخاوف المستوردين بأن تتعزز أكثر، مما يؤثر على حجم الأرباح التي يحققها الاستيراد من الأسواق الصينية. لكن بكين، تؤكد أنها تتحرك باتجاه إصلاح مستمر في عملتها، بعد اتهامات وجهتها إليها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأنها تبقي العملة الصينية عند معدلات منخفضة من أجل دعم الصادرات، وهو الأمر الذي أدى إلى فوائض تجارية كبيرة لصالح الصين قبل عامين، وعجز تجاري كبير من نصيب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

الصراع الاقتصادي على الريادة في العالم بين الصين والغرب، لا يعني أن الشعب الصيني يكتفي بما تقدمه له السوق المحلية. فظاهرة الترف عند الطبقة الثرية من الصينيين، تعد محفزا مهما لاقتناء السلع الغربية التي تصنف من العلامات التجارية العالمية، حتى لو كان سعرها يصل إلى ثلاثة أضعاف ما هو موجود من علامات تجارية صينية تتمتع بالمواصفات نفسها.

الطبقة الثرية المترفة تميز نفسها عن الطبقة الفقيرة باقتنائها تلك العلامات التجارية. وإذا كانت الشركات الغربية قد عمدت إلى صناعة منتجاتها في الصين، فإن تلك السلع مثل السيارات تصنع بغرض تغطية السوق الاستهلاكي الصيني، ويمنع تصديرها إلى الخارج، كما يمنع استيراد بعض تلك السلع جاهزة. ويحصر تصدير السلع التي تحمل تلك العلامات التجارية بالشركات التي تلجأ إلى الصين لصناعة منتجاتها تخفيضا لتكلفة الإنتاج.

وعلى الرغم من أن الصيني المترف يهوى اقتناء السلع الأجنبية، فإنه يمتاز بشعوره الكبير بالانتماء إلى بلده، وتأييد حكومته في سياساتها الخارجية والداخلية، وعلاقتها بجيرانها. هذه العلامة الفارقة في الانتماء إلى الوطن، يعبر عنها أحد مالكي المصانع في غوانزو بالقول: «أدعم السياسة الحكومية بكل شيء، إلى درجة أنه لو أرادت الحكومة تأميم مصنعي، فإنني لن أتردد ولن أكون حزينا، وسيكون ذلك بالغ سروري لأن حكومتي تعمل لصالح مواطنيها، وتختار ما هو الأنسب للمصلحة العامة».

المفارقة أن الشعب الصيني، نادرا ما يتحدث بالسياسة، أو يعنيه ما يجري في العالم. قليلون منهم الذين يعرفون عن شؤون الشرق الأوسط وشجونه. هم شعب مكافح، يلتزم القضايا الوطنية والشأن الإنتاجي، ويفكر على الدوام بتطوير نفسه اقتصاديا، والمساهمة في تطوير بلده لتحتل موقع الريادة الاقتصادية في العالم. أقصى اهتمامات الشعب الصيني الخارجية، هي الاهتمام بالأخبار الرياضية، والمنافسات التي تجري في بلدان العالم. يتابعون بشغف أخبار الرياضة والاقتصاد، ويفكرون بالسياحة الخارجية إلى أوروبا والولايات المتحدة. في الصين، حراك اقتصادي مستمر، وانتماء شعبي لحكومة تعمل لصالح شعبها. انتهج التنين استراتيجية اقتصادية مختلفة عن نظام الحكم الاشتراكي، عملا بنصيحة ثاني حكام الصين الذي قال يوما: «لا يهم إن كان القط أبيض أم أسود، المهم أن يجيد اصطياد الفئران».