مستقبل الطاقة النووية.. بعد اليابان

يوجد في العالم حاليا أكثر من 440 مفاعلا نوويا أقامتها 30 دولة تنتج نحو 14% من الكهرباء عالميا

مسؤولان يرتديان بزة واقية من الأشعة النووية يستعدان لمعاينة مستوى الأشعة النووية في مفاعل نووي (رويترز)
TT

كانت الدولة الوحيدة في العالم التي تعرضت لاعتداء بقنابل نووية، واليوم تعيش اليابان كابوسا نوويا هذه المرة تسببت فيه الطبيعة. فبعد أن كانت هدفا لأولى تجارب القنبلة النووية في هيروشيما وناغازاكي في الحرب العالمية الثانية، وما استتبعهما من أضرار طالت الأرض والبشر، ضربها زلزال مدمر يوم الجمعة الماضي بلغت قوته 8.9 درجة بمقياس ريختر، تبعته موجات المد البحري العاتية المعروفة باسم تسونامي، تسبب في حدوث تسربات إشعاعية من المفاعلات النووية اليابانية، في أسوأ كارثة نووية منذ حادث مفاعل تشيرنوبل في الاتحاد السوفياتي عام 1986.

ورغم فداحة الخسائر المادية والبشرية الناجمة عن زلزال الجمعة الماضي، الذي يعد أعنف زلزال يضرب اليابان منذ 20 عاما، وموجات تسونامي، فإنه سرعان ما تحولت الأنظار بسرعة نحو خطر أشد وطأة يكمن في حوادث تسرب إشعاعات نووية من المفاعلات النووية اليابانية، وهو ما أثار قطعا فزعا من نوع خاص في اليابان التي كانت الضحية الوحيدة للقنبلة الذرية، والتي لم تزل جراحها في هيروشيما وناغازاكي منذ عام 1945 لم تندمل بعد.

وقد نصحت الحكومة اليابانية قرابة 140 ألفا من المقيمين في إطار 18 ميلا من منشأة فوكوشيما النووية بالبقاء داخل المباني، بينما يمكن للباقين التحرك بأمان، لكن بعض الخبراء اتهموا السلطات اليابانية بتعمد التقليل من خطورة الكارثة. ونصحت السفارة الأميركية رعاياها الموجودين على مسافة 50 ميلا من المنشأة بالرحيل عن المنطقة أو البقاء داخل المنازل.

وتعد اليابان أكبر ثالث اقتصاد في العالم وتستورد تقريبا كامل احتياجاتها من الطاقة. وكانت المفاعلات النووية توفر لها نحو 27% من مجمل طاقة الكهرباء المولدة بالبلاد. ودفعت الكارثة اليابانية البعض على المستوى العالمي لإعادة النظر في خططهم للاعتماد على الطاقة النووية.

المفارقة أن الكارثة النووية اليابانية جاءت في خضم ما أطلق عليه الخبراء «عصر النهضة النووي»، حيث شهد العالم بمختلف أرجائه إقبالا واضحا على التحول للاعتماد على الطاقة النووية، انطلاقا من دوافع متنوعة على رأسها التغييرات المناخية التي يعد الوقود الحفري متهما أساسيا وراءها، مما عزز الحاجة إلى التحول لمصادر نظيفة للطاقة، وارتفاع أسعار النفط والرغبة في ضمان أمن إمدادات الطاقة.

بوجه عام، يضم العالم حاليا أكثر من 440 مفاعلا نوويا أقامتها 30 دولة، تنتج نحو 14% من إنتاج الكهرباء عالميا، ونحو 250 مفاعلا بحثيا داخل 56 دولة، إضافة إلى 180 سفينة وغواصة تعمل بالطاقة النووية. وتكشف بيانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن أن 47 دولة أبدت اهتمامها بالطاقة النووية، 16 منها من منطقة الدول الآسيوية والمطلة على المحيط الهادي (من الشرق الأوسط حتى المحيط الهادي)، و15 من أفريقيا، و10 من أوروبا، و6 من أميركا اللاتينية.

وطبقا للتقديرات الصادرة عنها عام 2007، توقعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية زيادة توليد الكهرباء من الطاقة النووية عالميا بمعدل 15% لتصل إلى 45% بحلول عام 2020، وبمعدل 25% لتبلغ 95% بحلول عام 2030، ومن المتوقع زيادة أعداد المفاعلات الطاقة النووية بحلول عام 2030 بمعدل يصل إلى 60%.

إلا أن الأزمة النووية اليابانية التي نجمت عن الزلزال قد تضع نهاية العصر الذهبي الذي شهده مجال بناء المفاعلات النووية عالميا، بينما قد ترتفع تكلفة المفاعلات التي يجري بناؤها بالفعل نتيجة إدخال تحديثات لتجنب تكرار سيناريو ما وقع باليابان. وبقدر تباين وجهي الطاقة النووية ما بين ملاذ من الوقود الحفري يوفر طاقة نظيفة آمنة ومصدر لخطر كارثي محتمل تستمر تداعياته لسنوات ويتعذر احتواؤه، جاءت التحليلات لتداعيات الكارثة اليابانية الراهنة متباينة. إذ يرى فريق من الخبراء أنها حقبة الازدهار النووي ستنهي ويزداد الطلب في الفترة القادمة على مصادر طاقة أخرى، منها الوقود الحفري، وهناك توقعات بتنامي اعتماد اليابان على الواردات من المنتجات البترولية والفحم والغاز الطبيعي خلال الشهور المقبلة مع تحرك البلاد نحو التعافي من أزمتها الراهنة. وقد جنت بالفعل قطاعات الغاز الطبيعي المسيل والطاقة الشمسية مكاسب خلال الأيام القليلة الماضية.

وفي المقابل يرى فريق آخر أن الأزمة لن تخلف سوى تداعيات محدودة قصيرة الأجل على أسواق الطاقة العالمية، وعلى الصناعة النووية، وفي الوقت الذي تعالت دعوات جماعات معنية بالبيئة لتحول مختلف اقتصاديات العالم للاعتماد على صور الطاقة «النظيفة» مثل الشمس والرياح، بدلا من النووية، يرفض خبراء هذا الطرح باعتباره غير عملي لأن هذه المصادر تنتج طاقة متقطعة، تعتمد على عناصر من الطبيعة يتعذر السيطرة عليها، علاوة على أنها لا تقدم سوى نسبة بالغة الضآلة مما يمكن لمفاعل نووي تقديمه من طاقة، خصوصا في ظل توقعات الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتزايد استهلاك الطاقة بنسبة 50% بحلول عام 2030، مع تضاعف استهلاك الكهرباء عالميا مرتين، وثلاثة أضعاف بالدول النامية.

من ناحية أخرى يعتقد البعض أن أي تأثير سلبي محتمل لكارثة اليابان على الصناعة النووية العالمية سيتجلى بقوة أكبر داخل الدول الأوروبية، بينما ستستأنف الدول النامية قريبا سعيها النووي، وعلى رأسها الصين، التي ستنفق 511 مليار دولار على بناء 245 مفاعلا نوويا في السنوات المقبلة، والهند التي تنوي إنفاق 150 مليار دولار على بناء مفاعلات نووية على امتداد العقود القليلة المقبلة، بسبب احتياجاتها الشديدة للطاقة وعدم امتلاكها رفاهية الاختيار بين كثير من الخيارات في هذا الشأن.

يذكر أن 15 من إجمالي دول الاتحاد الأوروبي الموسع الـ27 تضم مفاعلات نووية عاملة يبلغ إجمالي عددها 146 مفاعلا، ما يعادل قرابة ثلث المفاعلات الموجودة عالميا. وتقع الغالبية العظمى من هذه المنشآت، 125 مفاعلا، في ثماني دول أوروبية غربية، مما يعني أن تسعة من بين كل عشرة مفاعلات نووية أوروبية عاملة تقع غرب القارة، ويعتمد الاتحاد الأوروبي على الطاقة النووية في توليد 30% من احتياجاته من الكهرباء.

وفور وقوع أزمة اليابان النووية أغلقت ألمانيا سبعة من مفاعلاتها النووية، وكشفت استطلاعات الرأي أن قرابة 70% من الألمان يعارضون الاعتماد على الطاقة النووية. وعززت فرنسا إجراءات التفتيش على مفاعلاتها النووية التي تمدها بـ80% من احتياجاتها من الكهرباء. يذكر أن فرنسا تنتج وحدها 45% من إجمالي الطاقة الكهربائية المنتجة نوويا على مستوى الاتحاد الأوروبي.

وبالمثل، فقد جمدت الصين، التي تضم قرابة 40% من إجمالي المنشآت النووية المقرر بناؤها في العالم، الموافقة على بناء مفاعلات جديدة لحين مراجعة إجراءات السلامة. أما داخل الولايات المتحدة فتعد الطاقة النووية واحدة من القضايا النادرة التي يتفق بشأنها الديمقراطيون والجمهوريون. وقد ضمن الرئيس باراك أوباما في ميزانيته المقترحة لعام 2012 مبلغ 54.5 مليار دولار كضمانات قروض لبناء مفاعلات نووية جديدة، وهو ما يبلغ ثلاثة أضعاف المبلغ الذي طلبه بميزانية العام السابق. لكن مع وقوع الكارثة اليابانية تعالت أصوات بعض أعضاء الكونغرس الأميركي، مثل السيناتور الديمقراطي جو ليبرمان، بتجميد بناء أي مفاعلات جديدة بالبلاد. وجمدت تكساس بالفعل خططا لتوسيع منشأة نووية في جنوب هوستون، وإن كان البيت الأبيض لا يزال متمسكا بموقفه المعلن المؤيد للطاقة النووية.

المعروف أن الولايات المتحدة تملك 104 مفاعلات نووية تولد قرابة 20% من احتياجات البلاد من الطاقة الكهربائية، لتحتل بذلك البلاد المرتبة الأولى عالميا من حيث عدد المفاعلات العاملة. لكن لم يتم تشغيل أي مفاعلات جديدة خلال الأعوام الـ30 الماضية تقريبا في أعقاب حادثة التسرب النووي الجزئي بمفاعل ثري مايل آيلاند عام 1979. ورغم أن هذه الحادثة لا تقارن في خطورتها بكارثة اليابان الحالية، فإنها تسببت في انتكاسة كبرى لصناعة الطاقة النووية الأميركية لم تبدأ في التعافي منها سوى مؤخرا فقط.

وعلى الصعيد العربي، تملك غالبية الدولة العربية قدرات ونشاطات نووية محدودة حاليا، وتتوزع المفاعلات النووية البحثية بالعالم العربي على النحو التالي: اثنان في مصر، واثنان في الجزائر، وواحد في ليبيا، وواحد في سورية، وآخر في المغرب يجري بناؤه. وتكمن العوامل الرئيسية وراء الاهتمام العربي بالطاقة النووية في السنوات الأخيرة في تنامي الطلب على الطاقة الذي من المتوقع ارتفاعه للضعف بحلول عام 2030، وتقلبات أسعار الوقود الحفري وانخفاض تكاليف التشغيل بالنسبة لإنتاج الطاقة النووية والقلق حيال التغييرات المناخية وإمكانية استغلال الطاقة النووية في تحلية مياه البحر.

ومن أبرز الدول العربية الساعية لامتلاك الطاقة النووية الإمارات العربية المتحدة التي ستصبح أول دولة تستخدم الطاقة النووية المدنية، وتواترت أنباء عن أنه بدأت بالفعل أعمال تشييد أول مفاعل نووي بها في ديسمبر (كانون الأول) الماضي قرب الحدود مع السعودية، ومن المقرر أن يبدأ تشغيله عام 2017.

يذكر أنه بحلول نهاية عام 2009 وقعت الإمارات اتفاقات تعاون ومذكرات تفاهم بخصوص الطاقة النووية مع فرنسا والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة واليابان.

وفي فبراير (شباط) 2011 وقعت السعودية اتفاقا للتعاون النووي مع فرنسا، يعد الأول من نوعه في تاريخ المملكة. وفي أبريل (نيسان) من العام الماضي أعلنت المملكة إقامة مدينة الملك عبد الله للطاقة النووية والمتجددة. ووقعت جارتها الكويت اتفاقا للتعاون النووي مع اليابان وأعلنت سعيها لبناء أربعة مفاعلات نووية خلال الأعوام الـ12 القادمة.

ويسعى كذلك الأردن، الذي يستورد 95% من استهلاكه من الطاقة، إلى بناء أولى مفاعلاته النووية بحلول عام 2015. وأفادت تقارير صحافية في ديسمبر 2010 أن مطلع هذا العام كان من المقرر إعلان مصر، التي أعلنت استئناف عمل برنامجها النووي بعد توقف دام قرابة 20 عاما، عن مناقصة لبناء مفاعل جديد في منطقة الضبعة بالساحل الشمالي الغربي بقوة 1 غيغاواط. وكانت مصر قد أعلنت عام 2009 عزمها بناء أربعة مفاعلات نووية بحلول عام 2025.

وأعلنت تونس عزمها بناء مفاعل نووي بحلول 2020، ووقعت في سبتمبر (أيلول) الماضي اتفاقا للتعاون النووي مع الولايات المتحدة. وطبقا لتصريحات رسمية عام 2009، أعلنت الجزائر عزمها بناء أول مفاعل نووي بحلول عام 2020 تقريبا، وبناء مفاعل آخر كل خمس سنوات بعد ذلك. وتنوي المغرب هذا العام فتح الباب التفاوض بشأن بناء أول مفاعل نووي بها بحيث يبدأ عمله ما بين 2022 و2024.