البطريرك الراعي.. الخيار الأقوى

غير محسوب على قوة سياسية مسيحية معينة.. ويعرف بجرأته وقوة شخصيته ومواقفه الواضحة

TT

قلة قليلة من اللبنانيين لم يسبق لها أن سمعت باسم المطران بشارة الراعي قبل أن ينتخبه مطارنة السينودس بطريركا لموارنة أنطاكيا وسائر المشرق. فمطران جبيل، عكس سلفه البطريرك نصر الله بطرس صفير، هو صاحب الإطلالات الإعلامية الكثيرة والمواقف الجريئة، وهو حاضر في كل مكان: يحل ضيفا في البرامج الحوارية والاجتماعية و«التوك شو» السياسية. يحاور طلاب الجامعات ويدرس في القانون، يفسر تعاليم الكنيسة ونظرتها إلى الزواج والطلاق والإجهاض والصوم والعائلة والعلاقة بين المؤمن والكنيسة... يدافع عن مقام بكركي، حيث مقر البطريركية المارونية، وعن الوجود المسيحي، في لبنان كما في العراق وفي مصر. مؤمن بالإرشاد الرسولي الذي قال «لبنان أكثر من بلد، إنه رسالة». محاور رصين ومنفتح حتى العمق، يؤمن بالحوار المسيحي - الإسلامي ويعمل من أجل ترسيخه. مؤمن باستقلال لبنان وسيادته على أراضيه وبدور المسيحيين التاريخي ووجودهم الفاعل على أراضيه.

هو البطريرك السابع والسبعون في تاريخ الكنيسة المارونية، بعد أن انتخبه زملاؤه المطارنة، خلفا للبطريرك صفير الذي قدم استقالته وسلمه مشعل قيادة الموارنة في لبنان وبلاد الانتشار، في زمن تكثر فيه التحديات ويواجه فيه مسيحيو الشرق تحديدا تناقصا تدريجيا بفعل الاضطهاد حينا والهجرة أحيانا أخرى.

من بلدة حملايا المتنية، شرق بيروت، يتحدر البطريرك الجديد، ابن الواحد والسبعين عاما (مواليد 1940)، وهي البلدة نفسها التي أعطت لبنان والعالم القديسة رفقا. نشأ فيها حتى بلغ الثانية عشرة من عمره، ويروي أحد أشقائه أن الراعي دأب منذ صغره على تقمص شخصية الكاهن، حيث كان يدعو الفتيان والفتيات لتمثيل دور «العرسان» ويقوم هو بتلاوة الطقس الكنسي المعتمد للزواج من أول حرف فيه حتى آخر حرف.

وكانت البلدة المتنية الصغيرة (لا مجلس بلديا فيها بعد)، استقبلت خبر انتخاب البطريرك بالتهليل ونثر الأرز والزغاريد، حيث أعرب أهاليها عن سرورهم لإيصال بلدتهم بطريركا إلى بكركي بعد أن أنجبت للعالم القديسة رفقا.

في العام 1962 انتسب إلى الرهبانية المارونية المريمية، ثم تابع دروسه اللاهوتية، فنال إجازة في الفلسفة واللاهوت ودكتوراه في الحقوق الكنسية والمدنية، ودرس المحاماة الروتالية في جامعة مار يوحنا اللاتران - محكمة الروتا الرومانية في روما. ارتسم كاهنا في العام 1967، ثم عينه البطريرك صفير نائبا عنه في العام 1986 وسيم مطرانا لأبرشية جبيل في العام 1990.

تولى الراعي مهمات عدة في الرهبانية المارونية المريمية، وخلال حياته الأسقفية، تنوعت بين الإشراف على مؤسسات تربية وتدريس مادة «الحق القانوني» واللاهوت في عدد من الجامعات، وبين الإشراف على المحكمة الروحية والعمل كقاض فيها، فضلا عن مهمات كثيرة أوكلت إليه مباشرة من قبل البابا يوحنا بولس الثاني، أو تم انتخابه للإمساك بها من قبل سينودس المطارنة في لبنان.

تنقل الراعي في مسؤوليات عدة داخل الكنيسة وفي مؤسساتها الروحية والرعوية والإنسانية والقضائية، ومواكبته لشؤون الطائفة وهمومها من خلال تعيينه نائبا بطريركيا عاما، ثم مطرانا لأبرشية جبيل، وعلاقته الوثيقة مع روما والتي تجسدت في تعبيرها عن ثقتها به في أكثر من محطة، فضلا عن مواقفه الجريئة دفاعا عن وجود المسيحيين في لبنان وفي المعادلة السياسية وتصديه لما يسميه محاولات «أسلمة النظام» في لبنان، كل ذلك يجعل من الراعي، الذي انتخب بطريركا توافقيا لتولي السدة على رأس الطائفة المارونية، قبلة أنظار المسيحيين ومحط آمالهم في المرحلة المقبلة.

يعرف البطريرك الراعي بمواقفه الجريئة، على أكثر من مستوى. في يونيو (حزيران) 2007، إثر إصدار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة قرارا بإلغاء عطلة يوم «الجمعة العظيمة» واعتباره يوم عمل عادي، حمل الراعي بشدة على حكومة السنيورة، وانتقد تجاوزها مجلس البطاركة والأساقفة في هذا الموضوع. وقال: «يوم الجمعة العظيمة هو العيد الأساس بالنسبة للمسيحيين وإلغاؤه يعتبر نسفا للاهوتنا»، موضحا «إننا لم نعترض يوما على الأعياد الإسلامية احتراما، ومن ثم لا تستطيع الحكومة، مع الاحترام لكل صلاحياتها تجاوز مجلس البطاركة والأساقفة في هذا الأمر». وأدى احتجاج بكركي الذي عبر عنه الراعي وما تلاه من مواقف إلى عدول حكومة السنيورة عن قرارها.

وفي فبراير (شباط) 2009، وإثر حملة سياسية شرسة شنها مسيحيو قوى «8 آذار» ضد البطريرك صفير قبل أشهر قليلة من الانتخابات النيابية إثر اتهامهم له بالانحياز إلى الفريق المسيحي الآخر وعدم وقوفه على الحياد وانتقاده ما سموه تدخله في الشؤون السياسية، عقد الراعي مؤتمرا صحافيا هدد فيه المتطاولين على الكنيسة المارونية والبطريرك صفير بتطبيق قانون العقوبات الكنسي وتحديدا إنزال عقوبة «الحرم الكبير»، أي حرمان الشخص من الكنيسة، أو طرده منها.

وفي العام 2010، نجح الراعي بعد حملة قادها في دفع قناتي «المنار» والـ«إن بي إن» اللبنانيتين إلى وقف عرض مسلسل إيراني مدبلج إلى اللغة العربية بعنوان «السيد المسيح»، لاستناد أحداثه على إنجيل برنابا المنحول (المحرف)، والذي لا تعترف به الكنيسة الكاثوليكية. وأوضح الراعي آنذاك أن «المسلسل ينكر أسس الديانة المسيحية وفكرة الخلاص، ويشكل تقويضا للأسس المسيحية، مما يضرب الميثاق الوطني والعيش المشترك». وفي تعليق على امتثال المحطتين لوقف عرض الفيلم، قال الراعي: «ما زلنا نسمع بعضنا البعض، وأننا نتهيأ أفضل تهيؤ من أجل شرق أوسط نعمل فيه سويا»، مشددا على «أننا ما زلنا قادرين على أن نضع الخير العام فوق كل قرار آخر».

وللراعي مواقفه السياسية الحازمة التي وافقه البعض عليها واعترض البعض الآخر: فسلاح حزب الله بالنسبة له هو «هذا السلاح العظيم والغالي والثروة... لكنه لماذا لا يكون داخل الاستراتيجية الدفاعية». ولا يتردد في القول: «يخيفني هذا السلاح إذا بقي خارج الاستراتيجية الدفاعية». وعن الدعوة لإلغاء الطائفية السياسية، يقول: «لست ضد إلغاء الطائفية السياسية ولكن مع توضيح التعابير». وعن الصراع السياسي القائم على السلطة في لبنان، يرى الراعي أن «الخلاف على من يحكم بين قوى 8 و14 آذار دليل على صراع سني - شيعي حول من يحل مكان المارونية السياسية». وبين العدالة والاستقرار، يفضل الراعي العدالة لأنها «هي التي تولد الاستقرار شرط أن تكون منزهة وخالية من أي تزوير أو تسييس».

تهميش المسيحيين في لبنان يقلق البطريرك الراعي، صاحب مقولة «أسلمة الإدارة اللبنانية». يعتبر أن «الحكم السوري همش المسيحيين ودورهم حتى بتنا نسأل هل لدى المسيحيين رأي». يرى أن «أسلمة الإدارة» تتجلى على مستوى القرارات والوظائف والوزارات والإدارات العامة، بعد أن بات الحضور المسيحي في الدولة وهيئاتها خجولا، مذكرا بأن «خطنا التاريخي» معروف والعنصر المسيحي كان «عنصرا فاعلا» في تاريخ لبنان.

طيلة سنوات خدمته الرهبانية والكهنوتية لم يساند الراعي أي فريق مسيحي على حساب الآخر، وهو إن كان أقرب إلى خيار الدولة ومؤسساتها، إلا أنه لا يمكن تصنيفه «سياسيا»، وما الالتفاف الماروني تحديدا والمسيحي عموما حوله بعد انتخابه بطريركا، إلا دليل على الثقة التي يوليها له مختلف الفرقاء على الساحة المسيحية، فضلا عن الوطنية.

وفي هذا الإطار، يوضح رئيس المجلس الماروني العام الوزير السابق وديع الخازن، المقرب من بكركي ومن قوى 8 آذار، لـ«الشرق الأوسط» أنه «كان للمطران الراعي مواقف عبر عنها في فترات سابقة، أيدها بعض المسيحيين وعارضها بعضهم الآخر»، متوقعا أن «يعدل البطريرك خطابه السياسي في المرحلة المقبلة ليكون جامعا لكل الأطراف السياسية باعتبار أن بكركي مرجعيتهم». والمطلوب اليوم من الراعي، وفق الخازن، أن «يكون منفتحا على كل الأطراف المسيحية وأن يكون صدره رحبا لتلقف إشارات إيجابية صدرت عن شخصيات مسيحية كانت بعيدة عن بكركي في الفترة السابقة».

ولاحظ الخازن أنه من خلال المواقف التي صدرت من بكركي على لسان مسيحيي قوى 8 آذار يمكن الاستنتاج بأن «صفحة جديدة فتحت في العلاقة مع بكركي والمطلوب أن يعمل البطريرك الجديد بكثير من الجهد لجمع شمل الأطراف المسيحية المتناحرة». تحت الشعار الذي اتخذه عنوانا لخدمته البطريركية «شركة ومحبة»، تنتظر الراعي مسؤوليات كبرى على الصعيد الروحي والرعوي وتنظيم الكنيسة والتواصل مع المسيحيين في بلدان الانتشار الماروني، وعلى مستوى المؤسسات التابعة للكنيسة وهيكليتها.

وفي هذا السياق، يعول مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الأب عبدو أبو كسم، في اتصال مع «الشرق الأوسط» على حكمة البطريرك الراعي، ويقول: «البطريرك رجل منظم وإداري وقانوني بامتياز، يعرف تنظيم حياته والمؤسسة المسؤول عنها ويعطي كل صاحب حق حقه».

يسهب أبو كسم، الذي عمل مع الراعي من خلال اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام التي ينبثق عنها مركز الإعلام الكاثوليكي، في الحديث عن صفات الراعي، المتجاوب مع «أي مبادرة تصب في خير الإنسانية والمجتمع والكنيسة». وجرأة الراعي «لا تتجلى بمواقفه وكلماته الواضحة فحسب»، بل في استعداده الدائم «لخوض غمار المشاريع»، على أن «الأفكار التي يضعها في رأسه ليست أفكارا خيالية بل غالبا ما تكون قابلة للتطبيق، خصوصا أنه عنيد في تحقيق ما يريده».

التزام الراعي بخيارات الكنيسة بدرجة أولى هو ما يجعل، وفق أبو كسم، عملية تصنيفه في خانة سياسية أمرا صعبا، إذ إنه ينطلق من مبادئ وطنية لا سياسية بما ينسجم مع توجهات الكنيسة ومع ضميره. والمطلوب منه اليوم أن يستفيد من موقعه الجديد حتى يجمع الفرقاء المسيحيين ويعودهم على روح الجماعة.

وإذا كانت القطيعة السياسية هي سمة العلاقة القائمة بين بكركي ودمشق طيلة العقود الفائتة، بسبب مواقف البطريرك صفير الحازمة والصريحة والداعية إلى استقلال لبنان وتحرره من «الوصاية السورية»، والتي جسدها نداء مجلس المطارنة في العام 2000 ممهدا لما عرف باسم الاستقلال الثاني في العام 2005، فإن وصول الراعي إلى السدة البطريركية ومسارعة السفير السوري في بيروت علي عبد الكريم علي إلى تهنئته، تؤشر لمرحلة جديدة من العلاقة بين دمشق وبكركي.

وكان لافتا ما أعرب عنه البطريرك الراعي، الذي سلمه السفير السوري دعوة لتفقد الرعية المارونية في سورية، لناحية حديثه عن «زيارة رعائية إلى دمشق»، انطلاقا من أنه «على البطريرك زيارة رعيته كل خمس سنوات»، داعيا إلى التمييز بين الزيارات الرعائية والسياسية». وتأتي هذه الخطوة السورية بعد تكرار البطريرك صفير مرات عديدة أنه مستعد لزيارة دمشق حين تحين الظروف ويتلقى دعوة رسمية لذلك. وإذا كانت سورية قد سارعت إلى التقاط الفرصة بإيفاد سفيرها إلى بكركي، معلنة مصالحتها السياسية مع بكركي، فهل ينجح البطريرك الراعي في تحقيق مصالحة المسيحيين، وتحديدا مسيحيي 14 آذار مع دمشق؟