جغرافية القتل في العراق.. موت عشوائي بأسلوب منظم

مطالبات بدور أكبر للمخابرات التابعة للحكومة.. وتحليلات بأن المنفذين «خلايا نائمة»

TT

في كثير من الأحيان لا أحد في العراق يعرف الكيفية التي يمكن أن «يموت» بها أو «يُقتل»؛ فثمة فرق بين أن تموت بواسطة عملية تفجير بسيارة مفخخة تستهدف سوقا أو تجمعا أو مؤسسة حكومية أو غيرها، وأن تقتل بطريقة الاستهداف الشخصي. وهذه العملية متعددة الأشكال والصيغ والأنواع. فكما أن للقتل رقعته الجغرافية التي تمتد من هذه المنطقة دون تلك أو بالعكس، فإنه كثيرا ما تجري عمليات الاغتيال طبقا لمواسم معينة يختارها القاتل بكل براعة وأحيانا بثقة متناهية بالنفس لاختيار ضحاياه.

وإذا كان الضباط، سواء كانوا ضباطا في القوات المسلحة أو الشرطة المحلية، هم المستهدفين بعمليات الاغتيال في كل المواسم وبمختلف الأساليب، فإن العمليات كثيرا ما تتنوع وتتباين في كيفية وطريقة استهداف ضحايا شبه دائمين، مثل الإعلاميين والقضاة وبعض كبار الموظفين الحكوميين من درجة مدير عام فأكثر، وضحايا يحصل أن يكونوا طارئين لأسباب معينة، مثل رجال المرور أو عمال النظافة أو الحراس في النقاط الثابتة.

ومع كثرة ما حصل في العراق خلال السنوات الثماني الماضية من عمليات قتل واغتيال، كانت أكثرها فجيعة تلك التي تحصل عبر السيارات المفخخة، سواء من حيث الكم (أحيانا تنفجر 10 سيارات أو أكثر في يوم واحد وفي بغداد وحدها)، أو النوع (يحصل أن يبلغ عدد الضحايا مئات الأشخاص في العملية الواحدة، مثلما حصل أكثر من مرة في مدينة الصدر شرق بغداد، وحي الصدرية وسط بغداد).

نقول على الرغم من كل ذلك فإن المشهد تطور في غضون السنتين الأخيرتين إلى أنواع أخرى من عمليات الاستهداف، تمثلت في اختيار العبوات الناسفة أو اللاصقة بوصفها الأسهل تكلفة، مع وجود إمكانية لتوزيعها في عدة أماكن في آن واحد، وأخيرا بواسطة المسدسات كاتمة الصوت التي شكلت، ولا تزال تشكل، أحد أبرز مصادر التحدي للأجهزة الأمنية والحكومية.

من المؤكد أن عاملي المكان والزمان يلعبان دورا مهما في الأسلوب والطريقة التي تجري بها مثل هذه العمليات. فقبل سنوات العنف الطائفي (أعوام 2006 - 2008)، لم تكن الكثير من هذه العمليات أو الأساليب قد عُرفت بعد، باستثناء ما كان يحصل في الطريق الدولي الرابط بين العراق والأردن، والمار عبر محافظة الأنبار، خصوصا ما كان يعرف بالكيلو 160، الذي كان مخصصا لاقتناص الضحايا، إما لأسباب طائفية أو لأسباب مادية بحتة كعمليات السليب، وهي المنطقة التي عرفت باسم «المثلث السني». أو الطريق الرابط بين بغداد والمحافظات الوسطى مثل بابل وكربلاء والنجف، الذي كثيرا ما شهد خلال تلك السنوات عمليات قتل «على الهوية» عبر ما عرف باسم «مثلث الموت» بين المحمودية واللطيفية جنوب بغداد.

وهناك مسألة مهمة لا بد من الالتفات إليها لكي نتدرج في فهم عملية الاستهدافات وطبيعتها، وهي أن السنوات الأولى للاحتلال، أي من العام 2003 وحتى عام 2005 كانت غالبية عملية الاستهداف تتجه نحو الكفاءات العلمية والأطباء وكبار ضباط الجيش السابق، خصوصا الطيارين منهم، وهو ما أدى إلى إفراغ العراق من أهم كفاءاته العلمية في ميادين الطب والعلم والهندسة وأساتذة الجامعات في شتى التخصصات. وبعد فرض خطة فرض القانون في بغداد، وظهور ما سمي بقوات الصحوة أوائل عام 2008، كان أبرز ما حصل من تطور أمني وسياسي معا هو مسك هذه الطرق غربا من بغداد باتجاه الأنبار فالأردن وسورية، وجنوبا من بغداد باتجاه المحافظات والمدن المقدسة التي يقوم الناس بزيارتها سنويا بالملايين، الأمر الذي جعل الجماعات المسلحة، وهي هنا تنظيمات القاعدة بالدرجة الأولى، تتخذ من مناطق معينة، سواء داخل بغداد أو حولها ملاذات آمنة.

وبعد أن تم مسك تلك الطرق والمنافذ إلى حد كبير، تحولت الكثير من العمليات داخل العاصمة، والأهم من ذلك فإن ما حصل بعد انتهاء سنوات الاقتتال الطائفي هو نوع من تقسيم العاصمة بغداد تقسيما شبه طائفي. صحيح أن الجانب الشرقي من بغداد، وهو الرصافة الذي يضم غالبية شيعية (مدينة الصدر شرق بغداد والكثير من الأحياء داخل العاصمة)، فإن هذا الجانب يضم أكبر حي ذي غالبية سنية في بغداد، وهو مدينة الأعظمية. والأمر نفسه ينطبق على الجانب الغربي من بغداد، وهو جانب الكرخ الذي يوصف بأنه ذو غالبية سنية، فإنه يضم أكبر حي ذي غالبية شيعية، وهو مدينة الكاظمية وما جاورها من مناطق شيعية، مثل الشعلة وغيرها. مع ذلك فإن التقسيم الجغرافي بين المسلحين انتهى عرفيا، وليس من خلال اتفاق مكتوب هو أن تكون الجماعات الخاصة التي توصف بأنها مرتبطة بإيران من حصة مناطق شرق بغداد وما جاورها، أما الجماعات التي تنتمي إلى تنظيم القاعدة فإنها من حصة مناطق غرب بغداد وما جاورها. يمكن وصف العملية برمتها بأنها شكل منظم من أشكال الاستهداف العبثي، وهذا يؤشر من ناحية أخرى على تطور الأساليب لدى الجهات المنفذة لعمليات الاغتيال، بحيث لا تبدو ذات طبيعة مذهبية، وبالتالي طائفية مناطقية، لأنها باتت تدرك أن عقارب ساعة العنف الطائفي وطبقا للهوية المذهبية لا يمكن أن تعود إلى الوراء.

ومع أنه يوجد نوع من الخصوصية المكانية والجغرافية في عمليات القتل في أماكن معينة من بغداد، مثل مناطق غربي بغداد كالعامرية والغزالية والخضراء والجامعة والعدل (كثيرا ما تجري معظم العمليات بالعبوات الناسفة أو اللاصقة)، فإن غالبية العمليات التي تجري في مناطق شرق بغداد، خصوصا تلك التي تجري على طريق محمد القاسم السريع ومقترباته، فإنها كثيرا ما تجري بالمسدسات كاتمة الصوت.

وبالتوزيع الجغرافي والمكاني للجهات المنفذة لعمليات القتل، فإن تنظيم القاعدة الذي ينشط غرب بغداد يستخدم أكثر مما يستخدم العبوات والأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة أو العبوات اللاصقة، بينما الجماعات المسلحة الخاصة التي تتهم إيران بدعمها، فإنها تنشط في مناطق شرق بغداد. ومما يبعد تهمة الاستهداف الطائفي أو المذهبي في عمليات الاغتيال أو القتل هي توزيعها من قبل المسلحين وفقا لهوية أخرى هي الهوية الوظيفية للمغدور. فمرة يتم استهداف الصحافيين، وبصرف النظر عن كون المستهدف مسلما أم مسيحيا، عربيا أم كرديا، شيعيا أم سنيا، فإن الهوية الجامعة هنا هي المهنة، وهو ما ينسحب على القضاة أو رجال المرور أو الضباط أو المديرين العامين. ومع ضعف الجهد الاستخباراتي والمعلوماتي، فإن المبادرة كثيرا ما تكون بيد الجهة المسلحة.

وفي هذا السياق، يقول الدكتور هاشم حسن أستاذ الإعلام بجامعة بغداد وعضو مجلس أمناء هيئة الاتصالات والإعلام في العراق الذي تحدث إلى «الشرق الأوسط»: «قناعتي أن هذه المجاميع التي تقوم بعمليات الاغتيالات في العراق أغلبها خلايا نائمة، لكن خطورتها تكمن في كونها لها خططها واستراتيجيتها، سواء كانت إعلامية أم أمنية. لذلك نراها تبادر في بعض المراحل إلى نوع من التصعيد النوعي في عملية الاستهداف من خلال شخصيات لها صفة محددة وفي مناطق معينة».

والأهم من ذلك، فإنها «عندما تقوم بأي عمل فلها توقيتاتها الخاصة، وكثيرا ما يكون تخطيطها يعتمد على نوع من دقة في التخطيط وأهداف مرسومة مع توفر معلومات وقاعدة بيانات وهو ما يجعلها أقوى من الأجهزة الأمنية». وفي الوقت الذي تقوم فيه بعمليات مختلفة، فإن لها «مرجعياتها المختلفة ولكن لها هدف واضح وهو إسقاط العملية السياسية وجزء من عملياتها يجري من خلال أجهزة السلطة، بل وحتى البرلمان، وهي كثيرا ما تعتمد على حرية حركة ولها هويات وهو ما يجعلهم أقوى بكثير من الأجهزة الأمنية التي لا تزال تفتقر إلى روح المبادرة إزاء هذه التنظيمات والجماعات». لكن للدكتور معتز محيي الدين، مدير المركز الجمهوري للدراسات الأمنية، رأي آخر في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، حيث يرى أن «المطلوب لمواجهة ما يجري من عمليات اغتيال «هو جهد استخباراتي ودعم مادي وبشري متدرب، ما ينفي أن يكون الأمر محصورا بعصابات أو مجاميع خارجة عن القانون تنفذ عملياتها الإجرامية طمعا في مال أو نفوذ معين». ويضيف: «الأمر أكبر من ذلك. ولكن الأجهزة الأمنية وغيرها في غرف العمليات تعجز عن الوصول إلى الحقيقة لحد الآن، لأن قياداتنا الأمنية، ومع الأسف، تطمئن المواطنين والسياسيين وحتى رئيس الوزراء، بأنها كشفت رأس الخيط في الوقت الذي يؤكد كل الخبراء العسكريين والعارفين بخفايا الأمور أن الخيط قد ضاع منذ زمن».

وردا على سؤال بشان ما تتحدث عنه الأجهزة الأمنية من وجود إجراءات كثيرة، وهو ما جعلها تلقي القبض على عشرات، إن لم يكن مئات، الإرهابيين والخارجين عن القانون، قال محيي الدين: «نعم، الإجراءات والخطط الأمنية ضرورية للغاية، ولكن ما جدواها إذا كان العدو قادرا على اختراق أشد المناطق تحصنا، وضرب الناس الآمنين في مقرات عملهم ودورهم، بمعنى أنه يستطيع توجيه الضربة في الوقت الذي يريد والمكان الذي يريده. أما ردات فعل الأجهزة الأمنية فهي متشابهة على الدوام. مزيد من السيطرات بعد وقوع الانفجارات، وبالتالي رفع نسب التذمر بين المواطنين الذين باتوا يتساءلون عن جدوى هذه السيطرات في ظل عدم قدرتها على مجابهة أو التعرف على منفذي تلك العمليات الإرهابية».

وحول الجهات التي تقف خلف هذه العمليات، قال محيي الدين: «إن الاغتيالات المنظمة في المدن العراقية بحاجة ماسة لبحث يميط اللثام عن أهدافها والجهات التي تقف وراءها. علينا ألا ننسى أن تلك العمليات التي استهدفت فئات معينة، مثل القضاة والأطباء والصحافيين ورجال المرور والطيارين وغيرهم، ولم يعد يكفي القول إن بيننا من يريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء».

الأسئلة المتكررة نفسها: هل الاغتيالات عشوائية؟ ومن الجهة التي تقف وراءها؟ وما هي الحلول؟ أسئلة طرحناها على عدد من أعضاء البرلمان العراقي والمحللين السياسيين، بل وحتى على ضحية ومتهم.

علي الشلاه عضو البرلمان العراقي عن ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء نوري المالكي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «الأمر يتعلق قبل كل شيء بالصراع مع الإرهاب.. هذا الإرهاب الذي يحاول أن يستهدف الجميع ويخلط الأوراق مرة سياسيين وأحيانا إعلاميين أو رجال مرور أو غيرهم، والملاحظ أن تغطيته تجري بصورة جيدة في وسائل الإعلام بل إنه يحتاج الإعلام دائما لكي ينفذ عملياته». ويستأنف الشلاه حديثه قائلا: «إن ما نلاحظه الآن أنه منذ بدء الأحداث في تونس ومصر بدأت العمليات تنخفض في العراق.. ناهيك عن أن هناك جرائم تحدث لأسباب مختلفة، منها التخلص من بعض الموظفين الذين يشكلون خطرا على بعض المفسدين».

أما النائب في البرلمان العراقي عن كتلة التحالف الكردستاني محسن السعدون فيقول لـ«الشرق الأوسط» إن «الأمر يتطلب تكاملا بين الحكومة والبرلمان لكي نتمكن من حصر المشكلة، وأعتقد أنه بعد تشكيل لجنة الأمن والدفاع في البرلمان الجديد، فسوف تكون هناك رقابة أكثر ولكن تظل المسألة مرهونة بمدى قدرة الأجهزة الأمنية على استثمار النجاحات التي تتحقق، والقياس عليها حتى لا تتكرر عملية الخروقات الأمنية هنا أو هناك».

لم تنته رحلتنا بعد مع هذا الموت العشوائي في شوارع بغداد، الذي يعترف الجميع بأنه يجري بأسلوب منظم. هذه الرحلة قادتنا إلى واحد من أبرز ضحايا هذا الموت، وهو الإعلامي المعروف عماد العبادي، مقدم البرامج في قناة «البغدادية»، الذي استقرت أربع رصاصات في رأسه في عملية استهداف بالكرادة وسط بغداد بواسطة مسدس كاتم صوت. ولكن العبادي، الذي أجريت له عمليات جراحية معقدة في ألمانيا كتبت له حياة جديدة. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «ما تعرضت له أنا لم يكن عشوائيا بل كانت عملية اغتيال سياسي، المتهم فيها الآن للأسف زميل، والأهم أنه مستشار في هيئة الإعلام والاتصالات، وهو الدكتور أحمد الأبيض».

وحول الأدلة التي يستند عليها في هذه التهمة الخطيرة، خصوصا أن مذكرة اعتقال صدرت فعلا بحق الأبيض، يقول العبادي: «لقد تمت عملية اغتيالي أمام منزله بعد أن اتصل بي لأمر ما، وقلت له سوف أحضر إليك في غضون عشر دقائق. وبالفعل ما إن نزلت من السيارة حتى انهمر علي الرصاص، ولكنني تمكنت من الإفلات».

الدكتور أحمد الأبيض الذي يواجه الآن مذكرة إلقاء قبض من إحدى المحاكم، يؤكد لـ«الشرق الأوسط» براءته، ويقول: «أنا واثق من براءتي، وعلى استعداد لمواجهة القضاء بكل سرور، ولكنني أحاول الآن عن طريق عشيرتي وعشيرة الزميل العبادي أن نحل القضية عشائريا قبل أن تستفحل الأمور». ويستطرد الأبيض قائلا: «صحيح الزميل عماد العبادي تعرض لمحاولة اغتياله بالقرب من المكان الذي كنت موجودا فيه، ولكن هل هذا ينهض دليلا على اتهامي وأنا الرجل الأكاديمي والمحلل السياسي والزميل والصديق له؛ هل يعقل هذا؟ وأين كان منذ سنة ونصف السنة؟ وهل لأنني لم أزره يتهمني بهذه التهمة الخطيرة؟».

القيادي في القائمة العراقية وعضو مجلس محافظة بغداد عصام العبيدي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «ما يحصل لا يخلو من الطابع السياسي». ويضيف: «هناك استهداف واضح ومبيت. وبشكل عام فإن الدولة هي المسؤولة عما يجري. فبعد سبع سنوات من الاحتلال لا بد أن تكون هناك استراتيجية أمنية، وإلا فإن الأوضاع ستزداد تفاقما». ويقترح العبيدي حلا يكمن من وجهة نظره في «إعادة التجنيد الإلزامي؛ ففي الوقت الذي يمتص فيه هذا الإجراء المزيد من البطالة، فإنه أيضا يسهم في ردم هوة التصدع الاجتماعي التي يعاني منها المجتمع العراقي».

المحلل السياسي جبار المشهداني يرى في حديثه لـ«الشرق الأوسط» بشأن هذا الملف أنه «من غير المعقول أن تكون الاغتيالات عشوائية، بل هي تعكس إلى حد بعيد شكلا من أشكال الصراع السياسي الداخلي، فضلا عن الصراع الإقليمي».

يضاف إلى ذلك بالطبع الاغتيالات التي تجري لأسباب تتعلق بملفات الفساد المالي والإداري وعدم الموافقة من قبل هذا الطرف أو ذاك على صفقات مريبة، ولذلك نرى أن الكثير من هذه العمليات تطال موظفين في هيئة النزاهة أو المفتش العام أو لجان التحقيق، وفي كل الأحوال، فإنه بالقدر الذي تبدو فيه الكثير من هذه العمليات محاولات لصرف الانتباه أو تصفية حسابات فإنها لا تزال تعكس صراعا متعدد الجوانب داخليا وخارجيا».