سورية.. ومسيرة الإصلاح

التعددية الحزبية نشطت قبل وصول حزب البعث إلى السلطة.. وبشار الأسد أعاد الآمال بإحيائها.. قبل دفنها من جديد

TT

مع المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث العربي الاشتراكي، الحزب الحاكم في سورية، الذي انعقد في يونيو (حزيران) عام 2000، وُعد السوريون بفتح صفحة جديدة بعد عقد كامل من الركود. حينها تم طرح تشكيل أحزاب جديدة، وإطلاق حرية الصحافة، والدخول في حوار وطني يمهد للمرحلة المقبلة، بعدما أعطى تسلم الرئيس بشار الأسد الحكم من والده حافظ الأسد إثر وفاة الأخير، دفعا كبيرا للآمال. وتمثل ذلك في ظهور منتديات وملتقيات ثقافية وسياسية في كافة أنحاء البلاد سعت لوضع أسس لحوار وطني، واكبتها جملة من القرارات والمراسيم، كإغلاق سجن المزة الشهير، وإطلاق سراح نحو 600 شخص من المعتقلين السياسيين، إلى جانب قرار السماح لأحزاب الجبهة بإصدار صحافتها العلنية، وأيضا السماح بصحافة خاصة ومستقلة.. وغيرها من إجراءات شكلت فاتحة لعهد جديد. إلا أن شهر العسل الذي عاشه السوريون سرعان ما انتهى، وراحت الأحلام تتبخر تباعا مع العودة إلى سياسة التشدد، وإغلاق النوافذ.

التوجس من الإصلاح السياسي وجد مسوغاته في الظروف الإقليمية الحرجة، بدءا من احتلال العراق، مرورا بالأزمة في لبنان التي تلت اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وما تبعهما من سياسات دولية أدت إلى عزل سورية ومحاصرة نظامها. ودخلت عملية الإصلاح والتغيير التي أطلقها الرئيس الشاب بشار الأسد، مرحلة من المراوحة.

ولكن النظام السوري حاول أن يأخذها في اتجاه الإصلاح الاقتصادي، وأطلق في المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم في عام 2004، اعتماد اقتصاد السوق الاجتماعي من دون أن يعطي توضيحا لمعنى هذا المصطلح. ولكن معانيه سرعان ما ظهرت على الأرض في خطط الحكومة التي دعمت الاستثمارات الخارجية والاقتصاد الخدماتي السياحي مع فتح باب الاستيراد، وتدفق الأموال إلى سورية. وقد أسهمت في ذلك ظروف احتلال العراق وتوجه جزء من رؤوس المال إلى سورية. وكذلك الأزمة في لبنان التي بدأت بعد اغتيال الحريري، وعودة جزء كبير من رؤوس الأموال السورية التي كانت تنشط هناك، بالإضافة إلى الاستثمارات العربية التي كانت ترى في سورية موقعا بكرا للاستثمار، ما أوحى بتحسن شكلي للاقتصاد تمثل في ظهور طبقة من رجال المال والأعمال على السطح. وانعكس ذلك على نمط الحياة الاجتماعية، التي راحت تتحول من «الاشتراكية المتقشفة» إلى «الرأسمالية المترفة».

وفي الطريق السريع الذي كان يسلكه الواقع الاقتصادي، راحت تتآكل الطبقة الوسطى بينما نمت بشكل كبير الطبقة الغنية. فازداد الفقير فقرا، بينما ازداد الثري ثراء. وكشف هذا التحول عن الارتفاع المتتابع في الأسعار مع بدء الحكومة التخلي عن سياسة دعم المواد الأساسية. كل ذلك ألقى ثقله على كاهل المواطن، وزاد فيها استشراء الفساد. ولم تعد قضية الحريات والإصلاح السياسي التي طرحت عام 2000 بقوة ترفا ثقافيا يتصدى له نخبة من المثقفين والسياسيين، يتم اعتقالهم وتكميم أفواههم، وإنما باتت القضية متعلقة بحاجات ومطالب ملحة للمواطن لا يمكن الوصول إليها من دون إصلاح سياسي يكفل على الأقل حرية التعبير عن المعاناة التي يعيشها المواطن. وما زاد من ذلك، أن وسائل الإعلام المستقلة التي أعيد السماح بصدورها في عام 2000، أثبتت في غالبيتها (عددها نحو 200 مجلة وجريدة وقناة تلفزيونية ونحو 10 إذاعات إف إم) خلال عشر سنوات، أنها لسان حال رجال المال فقط، وغير معنية بالهم الحقيقي للشعب، ودورها لا يتجاوز دور الدعاية والإعلان وتلميع طبقة المتمولين تحت يافطة إعلام اقتصادي اجتماعي ثقافي خال من السياسة. وإن وجدت السياسة في إحداها فإنها تستظل في وسائل الإعلام الرسمية وتمشي في هديها، ما عمق الشرخ بين الشارع والإعلام في سورية، وباعد بين طبقتين فقيرة وأخرى ثرية.

وإذا كانت الطبقة الثرية تعبر عن نفسها من خلال هذه الوسائل، فإن الطبقة الفقيرة وما تبقى من الوسطى، وجدت في الأحداث الأخيرة مناسبة للتعبير عن مطالبها بنفسها من خلال وسائلها الخاصة، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» و«توتير»، لتحاول أن تفرض نفسها على المشهد العام بعد عقود طويلة من الإقصاء نتيجة قانون الطوارئ، لتعود القيادة السورية اليوم إلى تقديم باقة من الوعود ذاتها التي طرحت عام 2000 مجددة الحوار حول كيفية تطبيقها على وقع أحداث ساخنة تحرق الوقت. فالمطلوب عاجلا قانون للأحزاب يعيد وصل ما انقطع في الحياة السياسية وإعلام حر قادر على كشف ما يجري بشفافية.

وإذا أعدنا قراءة التجربة الحزبية والصحافية السورية قبل صدور قانون الطوارئ عام 1962، يمكن تقدير حجم طموح السوريين اليوم الذي لا يريد فقط استعادة ما فقده طيلة 48 عاما، بل مواكبة التطور الحاصل في العالم على مستوى الحريات. فالاحتجاجات التي تخرج إلى الشارع السوري والتي وصفت السلطات السورية على لسان مستشارة الرئيس بثينة شعبان مطالبها بـ«المحقة» لم يخرجها الجوع - فالشعب السوري معروف بالصبر والقدرة على تدبير أموره - وإنما أخرجها الاحتجاج على الفساد الذي لم يعد يحتمل.

وعلى سبيل المثال، لعل أكثر ما يضايق السوريين اليوم مشكلة الاستملاك الجائر التي تقضم بيوتهم وأراضيهم، هذا عدا السياسات الاقتصادية التي كادت تقضي على الزراعة والصناعات والمنشآت الصغيرة، بحيث بات أبناء الطبقة الوسطى غير قادرين حتى على تدبير أمورهم. وترافقت هذه السياسات مع خمس سنوات من الجفاف جاءت على الزرع والضرع في كثير من مناطق البلاد.. ناهيك عن ارتفاع أسعار العقارات على نحو جنوني نتيجة الانصراف نحو تشجيع الاستثمار السياحي على حساب القطاعات الأخرى. كل ذلك على سبيل المثال، لأن الأمثلة لا تعد ولا تحصى تفوح من غالبيتها رائحة الفساد، بما يعنيه ذلك من مس بالكرامة أحيانا، وقض للمضاجع في كل الأحيان.

اليوم يفكر السوريون في استنهاض عملية الإصلاح السياسي، فالإصلاح الاقتصادي سيبقى أعرج ما لم يسبقه إصلاح سياسي وإعلامي يصوب خطاه. وإذا عدنا لتاريخ الحياة الحزبية السورية لن نجد في التعددية السياسية ما يخيف، بل هي السبيل لترشيد الحراك المجتمعي وتحصنه من الانحراف وتزيد منعته أمام محاولات العبث.

فمع نهاية العهد العثماني وخلال العقد الأول من عهد الانتداب الفرنسي، ظهرت تيارات سياسية، وكان أكثرها وضوحا على المسرح السياسي في عهد الاستقلال أربعة رئيسية: الأول وتمثله الأحزاب الإقليمية الهادفة إلى توحيد سورية الكبرى، والثاني الأحزاب القومية الوحدوية الرامية إلى توحيد كامل البلاد العربية، والثالث الأحزاب الدينية التي تنادي بوحدة الأمة الإسلامية، أما التيار الرابع فتمثله الأحزاب الماركسية اللينينية القائمة على مفهوم الأممية. وانعكست تلك التيارات على صفحات الصحافة الحزبية بتناقضاتها وتقاطعاتها، إذ مثلت الصحافة أداة أساسية في الصراع السياسي الحزبي. فكان لكل حزب أو تنظيم أو حركة، صحيفة خاصة تنطق باسمه وربما أكثر من صحيفة موزعة في المدن الرئيسية.

ولكن الأحزاب التي استمرت بعد الانتداب الفرنسي، كانت أربعة: الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، و«الإخوان المسلمين»، والحزب التعاوني الاشتراكي. كما تجدر الإشارة إلى تجمعات وأحزاب ولدت ثم تلاشت خلال فترة وجيزة، منها: منظمة اتحاد الأحرار عام 1946 وصحيفتها «الحضارة»، وفي العام نفسه ظهر حزب العربي القومي وصحيفته «الجهاد العربي»، وحركة القوميين العرب في عام 1948، والحزب الجمهوري الديمقراطي عام 1950، وصحيفته «الجمهورية» وكان هناك أيضا حركة التحرير العربي التي أسسها أديب الشيشكلي عام 1952 وصحيفتها «التحرير العربي». وفي عداد هذه التنظيمات «الاتحاد القومي»، وهو شبه رسمي فرضه نظام الوحدة عام 1959، وصحيفته «الوحدة» في دمشق، و«العهد» في حمص، التي أصدرها الاتحاد القومي عام 1961. وفي ما بعد ظهرت منظمة «الوحدويين الاشتراكيين » ومنظمة «الاتحاد العربي الاشتراكي» المتفرعة عن الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر.

من السمات البارزة على الحياة الحزبية في سورية، أن معظم الأحزاب في فترة الانتداب كانت متأثرة، إن لم نقل مستنسخة من حيث التشكيل والأهداف عن الأحزاب الفرنسية، لا سيما أن عهد سورية بالأحزاب آنذاك كان حديثا. كما أن طبقية المجتمع انعكست عليها فكان معظمها في فترة الانتداب وقفا على الطبقة البرجوازية. لكن مع ظهور تيارات اليسار في عهد الاستقلال، كانت الغلبة لأحزابها كونها حشدت الجماهير في العمل السياسي، ووسعت دائرة النخبة لتشمل أبناء الطبقات الكادحة. وأهم تلك الأحزاب من حيث الفاعلية السياسية كان حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يعتبر أبرز الأحزاب السورية، وأكثرها فاعلية وتأثيرا على الصعيدين المحلي والعربي. أسسه نخبة من الشباب المثقف على رأسهم ميشال عفلق وصلاح الدين بيطار عام 1940، وحمل اسم حركة الإحياء العربي. وقد جمدت الحركة لفترة وجيزة، ثم عادت عام 1943، وحملت اسم حزب البعث العربي، وشعاره «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة».

أما الانطلاقة العملية للحزب فكانت مع بداية عهد الاستقلال، عام 1946. وأصدر في العام نفسه صحيفته «البعث». وفي أبريل (نيسان) 1947 كان المؤتمر التأسيسي الأول وهو أول حزب عقائدي في عهد الاستقلال وأول حزب قومي يعمل على الصعيدين القطري والقومي. عقب انقلاب حسني الزعيم تعاون حزب البعث العربي مع حزب الشعب، فاشترك في الحكم، ولعب دورا سياسيا خلال عامي 1950 و1951. وبرّر ميشال عفلق تعاونه مع حزب الشعب بأنه لم يكن قد اكتشف بعد رجعيته. في العام التالي رفد البعث العربي الحزب الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني، وتم توحيد الحزبين في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) لينبثق حزب البعث العربي الاشتراكي، تكامل الحزبان إذ كان رصيد حزب البعث يقوم في أكثريته على المثقفين والطلبة، أما رصيد الثاني فيقوم على الفلاحين والطبقة الكادحة.

مر حزب البعث العربي الاشتراكي بفترات عصيبة، وحظر نشاطه في عهد أديب الشيشكلي، ومع عودة العهد الدستوري تمكن الحزب مجددا من العمل العلني، فأصدر صحيفة «البعث» في أبريل 1954، ثم تبعتها صحيفة في دمشق تدعى«الصرخة»، وأخرى في حلب موالية للحزب وتدعى «الجماهير»، إلى جانب صحف كثيرة كانت توالي حزب البعث العربي الاشتراكي. وقد كان لصحافة هذا الحزب في مرحلة حكم التجمع القومي مواقف مشهودة في مقاومة الأحلاف وإقرار المعاهدة العسكرية مع مصر عام 1955، ومقاومة العدوان الثلاثي على مصر، ثم في تحقيق الوحدة معها. وعلى أثر إعلان الوحدة حل الحزب نفسه تلقائيا، وتوقفت صحافته. ولكن بعدما انفجر الصراع بين القيادة الحاكمة في الجمهورية المتحدة وقادة الحزب، رجع الحزب إلى نشاطه سرا، وراح ينشر صحافته ونشراته السرية. بعد الانفصال باشر نشاطه العلني وعادت صحيفة «البعث» إلى الصدور، إلا أن انقساما بدأ في الحزب، خرج منه جناح أكرم الحوراني أو الاشتراكيين وصحيفته «الصرخة»، في حين بقي الحزب محافظا على تسميته وشعاره وأهدافه وبقيت صحيفة «البعث» الصحيفة الناطقة باسمه، حتى عطلت عام 1962. ولكن الوقت لم يطل حتى وصل الحزب إلى سدة الحكم ليصبح الحزب الحاكم في سورية منذ 8 مارس (آذار) 1963 وحتى يومنا هذا.

تميزت غالبية الأحزاب السورية بعد الاستقلال بكونها أحزابا علمانية تفصل الدين عن الدولة، وكثير منها تبتعد عن الطائفية ما عدا عددا قليلا جدا منها مثل «الإخوان المسلمين». ومن الظواهر التي عانت منها الحياة الحزبية في سورية، ولا تزال، ظاهرة الانقسام والتوالد.

في فترة الحكم القومي منذ عام 1952 كممت الصحافة، فماتت صحف اليسار العلنية، وبعض صحف اليمين، وانقطع الصراع بين اليمين واليسار في الصحافة السورية. واستمرت هذه الحال حتى سقط حكم الشيشكلي عام 1954، وعادت للصحافة حريتها، وفتح مجددا باب الجدل والحوار، لكن ليس على الوتيرة ذاتها من الحدة التي كانت في المرحلة السابقة حيث ظهر على ساحة الصراع الصحافة اليسارية وفي مقدمتها صحيفة «البعث» وصحيفة «النور». استحوذت صحيفة «البعث» على الدور الأهم في هذه المرحلة، بينما لم تلق صحافة الشيوعيين التجاوب الجماهيري، لأسباب قومية ودينية.

حملت صحافة حزب البعث العربي الاشتراكي راية النضال القومي الاشتراكي، فتصارعت مع أحزاب اليمين، وناضلت في صفوف المثقفين والعمال والفلاحين، ودخلت في معركتين: أولاهما المعركة من أجل القومية العربية والوحدة، وقد هادنتها صحافة اليمين، بينما تصدت لها صحافة «الحزب الشيوعي» لأن الوحدة العربية لا تعنيها، كما عارضت صحيفة «البعث» صحافة الحزب السوري القومي الاجتماعي لرفعها شعار وحدة سورية الكبرى. أما المعركة الثانية فهي ضد اليمين، إثر مطالبتها بتأميم المرافق العامة، والشركات الكبرى وبالأخص الأجنبية، وتوزيع الأرض على الفلاحين، هادنتها في ذلك صحافة الحزب الشيوعي، وإن لم تبد ارتياحا لهذه الاشتراكية الإصلاحية. بالمقابل تصدت صحافة اليمين مجتمعة لصحافة البعث، وفي مقدمتها «القبس» كأقوى صحيفة في ذلك الوقت، واتهمت الحزب بعدم النضج السياسي والسير في ركاب «حزب الشعب» لتحقيق مكاسب آنية بالحكم. كما هاجمت «القبس» صحافة الحزب الشيوعي وحذرت من خطره الفادح ومن تآمره على استقلال سورية، في حين اتهمت صحافة البعث الحزب الوطني بالتحزبية الكتلوية، والفساد، وحكم البلاد بروح العصابات.

ركزت صحيفة «البعث» هجومها على صحيفة «القبس»، وكبار التجار، والمتمولين الذين قاوموا الاشتراكية، واتهمتهم بالرجعية، والحقد على العروبة، واستعمال «القبس» مصطلح الأمم العربية بدل الأمة العربية. وكذلك هاجمت صحيفة «الرأي العام» الحزبيين «الرجعيين» حسب تعبيرها الوطني والشعب وطعنت بوطنيتهما. كما لعبت صحيفة «النور» دورا مهما في تلك الفترة في نقد سياسة الأحلاف ودعوات الحزب السوري القومي الاجتماعي ودعوات التيار الديني.

هكذا كانت صحف اليسار، تارة في تحالف، وأخرى في تنافر وتنابذ، تلتقي حيال «الأحلاف الاستعمارية» وتختلف حيال دعوة الحياد، تتعاون ضد اليمين وتختلف في طرح الشعارات القومية. وبلغت المعركة ذروتها بين صحافة اليمين واليسار لدى نفاذ صحافة اليسار، على رأسها صحيفة «البعث» إلى عمق المشكلات الاجتماعية المتعلقة بالنظام الإقطاعي، وحق الفلاح في السكن في عقار الإقطاعي، ونظام المرابعة، وتهجير الفلاحين، وزيادة الأجور، والخوة، وتحديد ساعات العمل ومقاومة التسريح التعسفي والضمان الاجتماعي، وتطوير التعليم، وإنعاش الريف، ومنع الرشوة، والوساطة، وسرية الانتخابات، ومحاربة الطائفية، والعشائرية والاستزلام، ونصرة المرأة.. إلخ مع تخصيص صفحات للفلاحين والعمال والشباب، فزاد من إقبال الجماهير عليها، وانتظارها بفارغ الصبر أثناء تعطيلها.

انتهى الصراع لصالح صحافة اليسار التي تحول خطابها من الإصلاح إلى الثورة، لكنه مع قيام الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 اختفى الصراع الحزبي ومعه الصراع على الساحة الإعلامية. وإثر إعلان الوحدة، رحبت الصحافة السورية بها، وأبرزت العناوين القومية، واستمرت انطلاقة الصحافة لفترة وجيزة، سرعان ما تراجعت بسبب حل الأحزاب وإبطال مفعول الصحافة الحزبية، التي صارت تنطق بلسان حالها لا لسان حال أحزابها. وفقدت الصحافة السورية حريتها وخضعت لتوجيه السلطة والتزمت بشعارات دولة الوحدة وسياسة الدولة العامة وتوجهت بنقدها إلى الموظفين والنقابيين. كما راحت وكالات الأنباء الرسمية تمد الصحافة بالمادة الخبرية. ولعل أسوأ ما تعرضت له في عهد الوحدة ما بين عامي 1960 و1961 إحكام قبضة الأجهزة الأمنية على الفكر والصحافة.

كما كانت الإجراءات القانونية في عام 1958 عاملا مهما في خنقها، بإلزام أصحاب الصحف بالتنازل عن امتيازات صحفهم لقاء تعويض مالي تقدره لجنة مختصة، أو كان على الصحيفة الاستمرار على مسؤوليتها دون دعم من الدولة. بقيت بعض الصحف لكنها لم تستمر طويلا إذ صدر قرار آخر عام 1959 يلغي طائفة من الصحف والمجلات السورية، تبعه قرار في عام 1960 لتنظيم الصحافة، وأصبحت موجهة واتخذت طابعا قوميا اشتراكيا في عهد الوحدة.

وحين وقع الانفصال في 28 سبتمبر (أيلول) 1961 تباينت مواقف الصحافة بين مؤيد ومعارض. وعادت بعض الصحف للصدور، ورفع الحظر عن الصحف المتوقفة، لكن حكومة الانفصال لم تكن أحسن حالا مع الصحافة من حكومة الوحدة واستمر الحجر والتضييق على الأصوات المعارضة وتميز العام التالي للانفصال 1962 بفتن كثيرة ومظاهرات واضطرابات عمت كل سورية مما اقتضى الدعوة إلى ميثاق وطني عام 1963. وحين قامت ثورة 8 مارس 1963 وجاءت بحزب البعث العربي الاشتراكي، اتخذت عدة إجراءات قانونية شملت الصحافة وغير الصحافة وكان في طليعة هذه الإجراءات صدور البلاغ رقم 4 بإيقاف جميع الصحف في سورية ما عدا صحف «البعث»، و«الوحدة العربية»، و«بردى».

بعد أيام من ذلك صدر المرسوم رقم 48 في 27 مايو (أيار) 1963 القاضي بإحداث «مؤسسة الوحدة للطباعة والنشر». وعن هذه المؤسسة صدرت في العام نفسه صحيفة «الثورة» شبه الرسمية، ثم أفرج عن بعض الصحف والمجلات الخاصة، وتوقفت نهائيا صحيفتا «بردى» و«الوحدة العربية». كما استمر العمل بعد عام 1963 بقانون المطبوعات رقم 53 لسنة 1949 بعد تعديلات أدخلت على مواده، كما شهد هذا القانون تعطيلا بسبب قانون الطوارئ الصادر في تلك الفترة.

حقق الصراع بين الأحزاب وصحافتها نتائج انعكس معظمها إيجابيا على الواقع السياسي، أسهم في القسم الأكبر منه المد القومي واليساري. فعلى الصعيد الفكري تعمق الاتجاه نحو النظرة العلمية النقدية في مناقشة البنى الاقتصادية والاجتماعية في سورية، وبرزت ذهنية سياسية جديدة تؤمن بالمشاركة، وتكافح التسلط والفساد والرشوة بروح معاصرة ومتحررة كما تراجعت كثير من المصطلحات القديمة لصالح تكريس أخرى بديلة تعكس توجهات القوى السياسية الفاعلة على الساحة، كالاشتراكية والروح الثورية والعقائدية والعالم العربي والتحولات الثورية.. من ألفاظ ساهمت صحيفة «البعث» أكثر من غيرها في نشرها وتعميمها. كما تمكنت الصحافة الحزبية عبر صراعها مع بعضها من تحقيق مبدأ الحياد بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وتحقيق الوحدة مع مصر، ومقاومة الأحلاف العسكرية الاستعمارية وإقصاء اليمين عن الحكم، وإلغاء الامتيازات والألقاب، وتحقيق التحولات الاشتراكية، وتعميم التعليم، والاتجاه بالدولة إلى دولة عصرية في هيكليتها الاجتماعية والاقتصادية.

بعد عام 1963 اختفت الصحافة الحزبية العلنية كما لم تشهد سورية ولادة أحزاب جديدة علنية. لكن ظهرت بعض الأحزاب السرية المعارضة كحزب الاتحاد الاشتراكي بزعامة جمال الأتاسي المتشكل عام 1965 الذي انضم إلى الجبهة الوطنية بداية تشكلها، ثم انسحب منها، ليعود إلى المعارضة، وكان لهذا الحزب نشرته السرية. كما تشكلت حركة الاشتراكيين العرب من بقايا تنظيم أكرم الحوراني، وقد دخلت هذه الحركة في ميثاق الجبهة كحزب بزعامة عبد الغني قنوت وكان له صحيفته السرية باسم «الاشتراكي».

وظهرت الكثير من التنظيمات السرية التي كانت لها نشراتها الخاصة كرابطة حزب العمل الشيوعي الناشئة في السبعينات ونشرتها «الراية الحمراء» في أواخر السبعينات، إلى جانب الكثير من التنظيمات اليسارية التي بقيت ضمن أطر ضيقة بحيث لم تمارس دورا ظاهرا على الساحة السياسية، وكانت تصدر نشراتها السرية. أما بالنسبة للتيارات الأخرى فكانت حركة «الإخوان المسلمين» وصحيفتها السرية باسم «النذير».

في عام 2000 سمحت السلطة السورية لأحزاب الجبهة بإصدار صحافتها العلنية وجاءت هذه الصحافة انعكاسا حقيقيا لدور أحزابها الهامشي في الحياة السياسية، ولم تتمكن من إنعاش الحد الأدنى المطلوب للتعددية السياسية والإعلامية، وذلك على الرغم من تشكل قناعة لدى السلطة في سورية بأولوية الإصلاح السياسي، فإنها لا تزال متخوفة من فتح الباب أمام التعددية السياسية، خشية ظهور أحزاب دينية وعرقية، مع تنامي التيارات الدينية، والنزعات القومية مع وجود أكثر من 10 أحزاب كردية تطالب بالاعتراف بها كجزء من النسيج الوطني. وأكثر من 50 حزبا وتجمعا أهليا ينشط في الحقل السياسي، جميعها تنتظر إقرار إصدار قانون للأحزاب وتعديل الدستور، تحديدا المادة الثامنة، بما يتيح المشاركة للجميع، الذين وجودوا في ثورة الإعلام مجالا فسيحا لتبادل المعلومات والتواصل التفاعلي. الأمر الذي أفقد وسائل الإعلام التقليدية الكثير من أهميتها، خاصة بعدما تحول المتلقي في معادلة الإعلام من موقع التلقي السلبي إلى موقع المرسل أو المشارك في إنتاج المادة الإعلامية.

وإذا كان ثمة رهان، فإنه على قوانين تعيد تنظيم الحياة السياسية في سورية وتمنح هامشا واسعا للحريات، وتطلق حوارا علنيا يكشف الطاقات الإبداعية الكامنة لدى جيل كامل من الشباب يأخذهم هوى التغيير في المنطقة، يهتفون «للحرية وبس» ويرددون: «نحن هنا لم يعد بالإمكان إقصاؤنا ولا تجاهل وجودنا».