نجوم الفضاء الافتراضي السعودي.. هوامش العالم الحقيقي

قراءة في «أسطورة» الإعلام الجديد وأدب «الخيال السياسي»

TT

المشهد السعودي حافل ولا شك، حافل بالمتغيرات والرؤى المتنوعة والمتجددة، ولكنه في ذات الوقت، حافل برؤى متناقضة ومتلونة في أحيان كثيرة.

مع موجة الانتفاضات الشعبية في العالم العربي، بزغ في السعودية مثل غيرها، نجم «الإعلام الجديد»، حيث قدمه بعض مستخدميه على أنه مفتاح التغيير السياسي في المنطقة. وانقاد خلفهم الكثير من رموز الإعلام المكتوب والمرئي.

وبالطبع ليس المقصود التقليل من قيمة ثورة التقنية والاتصال التي يعيشها العالم في عباءة العولمة، ولكن المراد هو محاولة فهم أحد جوانب هذا المشهد الذي يندرج تحت خانة مفاهيم الإعلام الجديد، والذي أوصله مريدوه إلى مرتبة أدب «الخيال السياسي».

وسيكون التركيز على المشهد السعودي، ولكن دون إغفال، ولو صور مبسطة من المشهد المصري الأكثر تأثيرا في تسويق هذا المفهوم لدور الإعلام الجديد.

قبل الخوض في تفصيلات المشهد المحلي في عام 2011، لندر رؤوسنا قليلا إلى الوراء حتى أواخر عام 1997، وهو بداية دخول الإنترنت للسعودية. حيث شكلت منتديات الإنترنت بأشكالها المتنوعة سياسيا وفكريا، أرضا خصبة في اتخاذ أساليب تعبيرية متجاوزة الرقيب التقليدي في الصحافة والإعلام، وإن كان تحت مسميات وهمية.

وفي لمحة سريعة نشير في البدء لأشهر تلك المنتديات الإسلامية، وكان أبرزها منتدى «الساحات» في شقه السياسي. و«أنا المسلم»، ومنتدى «الوسطية». غير أن مع موجة الإرهاب التي ضربت العالم، ومن ضمنه السعودية، تراجع تأثير هذه المنتديات مع بدء كشف النقاب الأمني عن الكثير من المحركات المشهورة، التي تنتمي لتنظيمات إرهابية وحركية من بينها «القاعدة»، حتى إن أحد أشهر المطلوبين على قوائم الإرهاب في السعودية تم القبض عليه بعد رصد إحدى مداخلاته في موقع «الساحات»، كما أعلن في حينها.

وبالتالي مع الوقت بدأت تسقط أوراق الخريف عن هذه المنتديات تباعا بعد تبنيها لخطاب إسلامي متطرف، لا ينتمي للمجتمع الذي تتوجه له، وخفت تأثيرها كثيرا في وقتنا الحالي.

بينما كان في المقابل بزوغ نجم المنتديات «الليبرالية» وهو وصف مجازي في الوسط السعودي، بات يطلق على كل مظاهرة ثقافية غير تقليدية ولا تنتمي في قراءاتها الفكرية للشكل الإسلامي الحركي. وكان أبرزها منتدى «طوى»، «الطومار»، «دار الندوة»، «الشبكة الليبرالية السعودية». ولكنها أيضا مع الوقت، وقعت في فخ الانتهازية السياسية في تحويل معاركها لتصفية التيار الإسلامي والمنتمين له، حتى لو بخلق الشائعات. وغدت هذه المنتديات لا تختلف عن المنتديات الإسلامية في استخدام أقذع أنواع الشتائم لكل مختلف في الرأي، وتحولت من واحة لحرية التعبير، إلى مرتع لحرية الشتم والتشهير.

في الأعوام الأخيرة، ظهر نجم مواقع التواصل الاجتماعي مثل «فيس بوك» والمغردين في موقع «تويتر»، وموقع «يوتيوب»، والمجموعات البريدية، وكان قد سبقهم بضجة متفاوتة ثقافة التدوين التي عادت للخفوت مرة أخرى.

فأفرز هذا الفضاء الافتراضي في هذه المواقع نجوما افتراضية الملمح الأبرز لهم ارتداؤهم قناعا فكريا هذه المرة وليس قناعا اسميا، كما هو الحال في المنتديات الإلكترونية. ونشأت على أثره «شللية» إلكترونية تقول في الصباح على صفحات الجرائد غير ما تقول في المساء على صفحات العالم الافتراضي.

وسنضرب في هذا التقرير مثالين، على سبيل الحصر لا الجمع. علما أن هناك أكثر من اثني عشر نموذجا مشابها تستحق الرصد، ولكن عل هذين المثالين يفيان بالغرض في توضيح الفكرة.

ففي مجموعة بريدية، يقوم عليها الصحافي عبد العزيز قاسم، مشرف ملحق «الرسالة الإسلامي» سابقا في جريدة «المدينة»، ومقدم البرامج على قناة «دليل» الإسلامية والكاتب بجريدة «الوطن» السعودية حاليا، تم إرسال إحدى مداخلات الكاتب جميل فارسي لجميع المشتركين في المجموعة البريدية، وانتشرت على نطاق واسع. وكان نصها كالتالي: «قال حكيم اسبرطة باطاطس قلقالس: عجبت لقوم باعوا حقوقهم السياسية بمرتب شهرين، وأعجب من ذلك فرحهم بذلك.

فقال تلميذه صفيال: بل الأعجب من ذلك من فرح بذلك وهو ليس له مرتب كذلك، فقال الحكيم: غطيني يا صفيال يظهر مافيش فايده».

ليس موضع الرصد بالتأكيد هو تعبير الفارسي عن رأيه، فهذا حق للجميع لا فصال فيه، ولكن كيف يمكننا فهم الإعلان التالي المنشور في صحيفة المدينة المذيل باسم شيخ الجواهرجية جميل فارسي، وهذا نصه «مجوهرات الفارسي تشكر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، ومرضاة لله في معونة ولي الأمر، تقدم لموظفيها راتب شهر يصرف فورا، اللهم ارض عن عبدك عبد الله بن عبد العزيز، واجعل اسمه ضمن حكام المسلمين الذين سجلهم التاريخ كرواد للإصلاح، واجعله ممن شملهم الرفق في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه)».

ومصدر المراجعة الثاني، أن الفارسي كان ممن طالب بإصلاحات سياسية فورية وجذرية، ضاربا المثل بعواقب التأخير بتونس ومصر، في بيان جاء فيه: «إنّ الثورات التي بدأها الشباب وانضم لهم الشعب بكل فئاته ومكوناته في كل من تونس ومصر وليبيا وغيرها لتؤذن بأنّ القائمين على الأمر في البلاد العربية ما لم يستمعوا لصوت الشباب وتطلعاتهم وطموحاتهم ويصغوا لمطالب شعوبهم في الإصلاح والتنمية والحرية والكرامة ورفع الظلم ومقاومة الفساد فإنّ الأمور مرشحة لأن تؤول إلى عواقب وخيمة»، إلى القول: «إنّ بلادنا بحاجة شديدة إلى إصلاح جذري جاد وسريع يعزز وحدة هذا الوطن ويحفظ مكاسبه ويحقق له الأمن والاستقرار».

واللافت بالطبع أن جميع المطالب الثمانية كانت ذات طابع سياسي، وليست ذات صبغة اقتصادية، كما جاءت في قرارات الدولة الأخيرة. وهو الإصلاح الذي ينتقده فارسي في الفضاء الافتراضي، ويعود ليمتدحه في إعلام العالم الحقيقي.

النموذج الثاني في هذا السياق، الدكتور عبد العزيز الصويغ، وهو أيضا أحد الموقعين على البيان أعلاه، والذي انتشر في مواقع الإنترنت، ونعود لنؤكد على أنه بيان ذو طابع مطالب سياسية بحتة. فماذا كتب الصويغ بعد الأوامر الملكية؟ هذا نص اقتباس من مقاله في صحيفة «المدينة»: «جاء ترقب الشعب السعودي لكلمة خادم الحرمين الشريفين وما يمكن أن تحمله لهم من قرارات غير بعيدة عن توقعات أطلقها بعض الخبراء. فلم يكن الشعب السعودي، كما رأى هؤلاء، يريدون مطالب سياسية ثورية كما حدث في تونس ومصر وليبيا، بل إن مطالبهم كلها، كما توقعوا».

والتناقض هنا ليس بحاجة لتوضيح، فبعد ستة أيام من توقيعه على البيان الذي انتشر مثل النار في الهشيم في مواقع الإنترنت، عاد ليسمى نفسه والموقعين بـ«هؤلاء».

ما تقدم نموذجان، لطرح شائع بين ما يقال في العالم الافتراضي وفي مواقع التواصل الاجتماعي، والمنتديات، والمجموعات البريدية، وما يقال من ذات الشخوص على أرض الواقع.

أما المثالان الخاصان بأشهر شبكة تواصل اجتماعي «فيس بوك» على سبيل المثال لا الحصر، فكان أبرزها ما سمي بثورة «حنين» في السعودية في الحادي عشر من مارس (آذار) الماضي، فرغم أن حجم المشتركين في الصفحة فاق الخمسة وثلاثين ألف مشترك، فإنها انتهت بمتظاهر واحد في الرياض، تحدث لقنوات الإعلام الغربية، وركب سيارته الرياضية وغادر، وليس كما تم الترويج له بأن مدنا سعودية ستتظاهر.

هذا المثال يوضح أن ليس كل ما يلمع في وسائل الإعلام الجديد ذهبا، بل في أوقات كثيرة لا يحتاج أكثر من الوقت لينكشف أنه مجرد هباء.

وللرؤية من زاوية أخرى، فكثير من حملات الإعلام الجديد ونشاطاته لا تجد شرعيتها إلا من خلال تصيد الإعلام التقليدي لها، وصنع البهرجة الإعلامية حولها. وعلى سبيل المثال، أذاعت قبل نحو عشرة أيام قناة «فرنسا 24» خبرا عن إطلاق سعوديات لما سمته ثورة «النساء السعوديات» على صفحات «فيس بوك»، ولكن عند البحث وراء هذه الصفحة التفاعلية، ستجد أن عدد مشتركيها وقت إذاعة الخبر نحو ألف مشترك فقط، فضلا عن أن إدارة الصفحات في بعضها تذيل بأسماء صحافيات عربيات ولسن سعوديات، وهذا ما يفسر بعض المعلومات المغلوطة التي وردت في خبر القناة من أن المرأة السعودية لا تملك بطاقة أحوال خاصة على سبيل المثال، وإن كان هذا لا يلغي أن المرأة السعودية لها مطالبها المشروعة كأي امرأة في دول العالم النامية.

ولكن، ماذا عن حرية «الإعلام الجديد» الذي يحب مستخدموه تقديمه على أنه مساحة غير متناهية من الحرية؟ والسؤال الملح هنا هو لماذا إذن شطبت إدارة «فيس بوك» صفحة «الانتفاضة الفلسطينية الثالثة» والتي كانت تضم ثلاثمائة وخمسين ألف مشترك؟ الجواب بسيط، لأنها رضخت للضغوط الإسرائيلية المطالبة بإقفال الصفحة.

والقصة لمن لا يعرفها، هي أن وزير الإعلام الإسرائيلي يولي ادلتشاين، بعث برسالة إلى مؤسس موقع «فيس بوك» قائلا: «الصفحة تحوي تحريضا سيلحق ضررا باليهود والإسرائيليين». وأكد موقع «فيس بوك» لموقع شبكة «فوكس نيوز.كوم» الأميركية كما ذكرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، إغلاق الصفحة، استجابة كما يبدو للطلب الإسرائيلي.

والحال، أن الفاعلين من شريحة المهتمين بالثقافة على مواقع «فيس بوك» و«تويتر» الذي عانى هبوطا ملحوظا في نشاطه مع مرور ما سمي بثورة «حنين»، أبدى بعضهم إحباطا كبيرا أولا من عدم خروج المظاهرات في السعودية، والثاني من القرارات الإصلاحية التي فضلت أولا التركيز على تدعيم البنية الاقتصادية للدولة والمواطن وتحسين المعيشة.

ورفض شرائح المثقفين لأوليات الإصلاح، هو ما لم يتسق بأي شكل من الأشكال مع حالة الفرح الشعبي بالإصلاحات الاقتصادية، والتي خرج من أجلها الشباب في كل المدن الرئيسية السعودية بالأعلام الوطنية وصور الملك عبد الله. مما يؤكد من جديد، أن «أسطورة» تأثير الإعلام الجديد على مناحي الحياة العامة، لا تعدو أن تندرج في خانة أدب «الخيال السياسي».

ولكن بالعودة لسياق الفكرة الرئيسية حول حجم تأثير الإعلام الجديد، كيف نشأ هذا التصور المبالغ فيه عن الإعلام الجديد ودوره في العالم العربي. ربما يجدر هنا، الإشارة إلى أن لانتفاضة الشارع المصري، بتقديمها وائل غنيم كـ«أيقونة» مناضلي الفضاء الافتراضي دورا كبيرا. وغني عن القول أن من صنع نجومية غنيم الحقيقة، هي وسائل الإعلام التقليدية المرئية والمكتوبة، والتي لولاها لظل غنيم يعيش عالمه الافتراضي.

ويظل السؤال هل حقا كان الإعلام الجديد المحرك والباعث على هذه الانتفاضات الشعبية في العالم العربي؟ يجيب عن هذا السؤال المؤلف والباحث الأميركي مالكوليم جلادويل، في لقاء مع المذيع الأميركي الشهير فريد زكريا على قناة «سي إن إن» حيث يقول: «لا أستطيع عند النظر في ماضي الثورات الاجتماعية إلا أن أجد أمثلة على حالات يكون فيها الناس تحت أقسى الظروف مما يجعلهم يتشاركون التعبير عن مخاوفهم. أعني، في ألمانيا الشرقية، تظاهر أكثر من مليون شخص تجمعوا في شوارع برلين. وكانت النسبة المئوية للأشخاص الذين يستخدمون الهاتف في برلين الشرقية في عام 1989 لا تتجاوز 13 في المائة».

ويضيف: «ذلك يعني، حتى في الحالات التي لا توجد فيها أدوات الاتصال، كان الناس قادرين على التجمع والخروج في مظاهرات معا. لذلك أنا لا أرى أن ما يجري بالنظر إلى التاريخ أمر فارق، وأنا لا أرى عدم وجود أدوات فعالة للاتصال باعتباره عاملا مقيدا على قدرة الشعب في التفاعل الاجتماعي».

وعلى نفس النسق، يرى الصحافي الأميركي روبرت كابلن، في كتابه الصادر في عام 2002 تحت عنوان «المحارب السياسي» أن ثورة المعلومات ليست بالضرورة ستقود إلى واحات من الديمقراطية والشفافية وحرية التعبير بمفهومها الوردي، ويقول ما نصه: «ومن المتوقع أن القدرة على استخدام الإنترنت من خلال أجهزة الكومبيوتر وأجهزة الجوال ستزيد من 2.5 في المائة بين السكان في العالم حاليا إلى 30 في المائة بحلول 2010. ولكن لا يزال الـ70 في المائة الباقون غير متصلين بهذه البيانات ونحو النصف لم يقوموا بمكالمة تلفونية. وسيكون مقدار التفاوت كبيرا، فيما سيتمتع الإرهاب الناشئ من هذا التفاوت بموارد تقنية غير مسبوقة».

ويزيد كابلن في قراءة لماحة سبق فيها الواقع بتسع سنوات: «ولن يشجع انتشار المعلومات الاستقرار بالضرورة. كما لم يؤد اختراع يوهانيس غوتنبيرغ للطباعة المتحركة في منتصف القرن الخامس عشر إلى الإصلاح فحسب، ولكنه أدى لاندلاع الحروب الدينية التي تلته، لأن الانتشار المفاجئ للنصوص شجع الخلافات المذهبية وأيقظ مظالم كانت هاجعة لفترة طويلة. ولن يؤدي انتشار المعلومات خلال العقود القادمة إلى ظهور تفاهمات ومواثيق اجتماعية جديدة فحسب، ولكنه سوف يؤدي إلى حدوث انقسامات جديدة مع اكتشاف الناس لمسائل جديدة ومعقدة يمكنهم الاختلاف عليها. وأنا أركز على الجانب المظلم لكل تطور ليس لأن المستقبل سوف يكون سيئا بالضرورة، ولكن لأن هذا ما كانت تدور حوله الأزمات السياسية الخارجية دائما».

الأكيد أن الإعلام الجديد جزء من الحراك، ولكن الأكيد أيضا أنه ليس كل هذا الحراك أو باعثه الأساسي. فهذا الإعلام الرقمي ما زال يعاني من تمثلاته القائمة على الفضائحية، والفوضى التعبيرية، من دون رادع قانوني، وهنا الحديث ليس عن الرادع الذي يحد من حرية التعبير بل الذي ينظمها ويرعاها. وهذه ليست أزمة العالم العربي وحده بل وأزمة دول العالم الأول مصدر هذه التقنية، التي تبحث في أروقتها الإعلامية عن تنظيمات قانونية للقضايا التي ترفع وتقدم بناء على محتوى بعض المواقع الإلكترونية. والذين هللوا للثورة المصرية، التي صوروا أن من قادها الإعلام الجديد، نسوا أن يسألوا نفسهم اليوم، ترى لماذا فشل ذات الشباب الرقميين في أن يقولوا «لا» على الدستور الجديد كما نجحوا في أن يقولوا «لا» لحسني مبارك؟ والجواب شأن المصريين وحدهم.

المراجعة المستمرة واجب ثقافي لمثل هذه الظواهر، وظهور المثقف الافتراضي يجب ألا يلغي دور المثقف الحقيقي، وكما قال أحد الفلاسفة مرة: «الكومبيوتر يجيبك بسرعة لأنه لا يفكر».

* صحافي سعودي من باريس