كوسا.. «الصندوق الأسود»

دخل الدائرة المقربة للقذافي منذ عشرات السنين ولعب دور المفاوض بين ليبيا والعالم

TT

يشكل الانشقاق عن نظام الرئيس معمر القذافي تحولا آخر في حياة وزير الخارجية الليبي موسى كوسا المهنية على مدى ثلاثة عقود من خدمة نظام العقيد معمر القذافي. فكوسا الذي وصل إلى لندن من باب الدبلوماسية الواسع عام 1979 سفيرا، يعود إليها بعد 32 عاما من الباب الضيق عبر مطار «فارنبورو» فارا من حكومة معمر القذافي، وهو ما يشكل تبدلا صارخا في وضعية الرجل الذي يعد خزانة الأسرار للقذافي.

ولد موسى محمد كوسا لعائلة متوسطة معروفة وتحظى بسمعة طيبة في طرابلس الغرب في الثالث والعشرين من مارس (آذار) 1949، وحصل على منحة وحاز شهادة ماجستير في علم الاجتماع من جامعة ميشيغان الأميركية عام 1978. قضى كوسا الذي يبدو على مظهره الهدوء والوداعة في حين يعرف المقربون منه شراسته ودمويته، معظم حياته بين مناصب الأمن والدبلوماسية في نظام القذافي، متنقلا بينهما عبر ثلاثين عاما. وفي كل مرة من باب أوسع وأرحب وإلى مقام أعلى، في ظل واقع سياسي تختلط فيه المناصب الدبلوماسية بالملفات الأمنية.

بدأ كوسا حياته المهنية في أجهزة الاستخبارات كمسؤول عن أمن السفارات الليبية في شمال أوروبا عام 1979، وهو المنصب الذي بزغ فيه نجمه عبر ملاحقته للمعارضين السياسيين الليبيين في شمال أوروبا، وأهله لاحقا لينتقل إلى دوائر الدبلوماسية حين تم تعيينه في عام 1980 كسفير لليبيا في لندن.

إلا أنه لم يمكث في هذا المنصب سوى أقل من عام، حيث تم طرده من بريطانيا في السنة ذاتها على خلفية قيامه بأنشطة وصفت بأنها «دموية» ضد معارضين ليبيين في أوروبا وعلى الأراضي البريطانية، وهو الأمر الذي لم ينفه كوسا، بل إنه وعد بالمزيد من عمليات التصفية بحق المعارضين الليبيين، متوعدا لندن بتسليح الجيش الجمهوري الآيرلندي ردا على عدم تسليمه المطلوبين الليبيين.

خرج كوسا عن البقية الباقية من صوابه في مقابلة مع صحيفة «التايمز» البريطانية عام 1980، حين توعد بقتل المنشقين الليبيين على الأرض البريطانية قائلا للصحيفة «اللجان الثورية قررت قتل شخصين آخرين في المملكة المتحدة.. أنا أقر هذا»، وزاد الأمر سوءا حين أعرب في تصريحات صحافية منفصلة عن إعجابه بمسلحي الجيش الجمهوري الآيرلندي. ورغم أن طرابلس تنصلت من ذلك فيما بعد وأعلنت أن تصريحاته بترت من سياقها، فإن ذلك لم يحل دون طرده من مهمته الدبلوماسية الأولى والأخيرة كسفير لنظام القذافي.

الغريب في الأمر أن طرد كوسا من قبل البريطانيين، رفع من مقام ومكانته لدى الزعيم الليبي، الذي كان حينها في أوج تحديه لما كان يطلق عليه الإمبريالية الدولية، حيث اعتبره القذافي مجاهدا ضد الإمبريالية الدولية، وحظي بعدها بمكانة متميزة في دوائر القذافي الخاصة.

ولكن ارتباط كوسا بمعمر القذافي يعود بالأساس إلى وقت مبكر في أوائل السبعينات، حين كان يعد رسالة الماجستير في علم الاجتماع بجامعة «ميتشيغان ستيت» الأميركية، وهي الرسالة التي أولاها القذافي اهتماما شخصيا، حيث أتاح القذافي لكوسا الفرصة لمواصلة دراساته العليا وإعداد رسالة الدكتوراه. إلا أن كوسا قرر العودة إلى طرابلس ليصبح بعدها رجلا نافذ القوة في اللجان الثورية ورجل الثقة المقرب من معمر القذافي، مفضلا السلطة والنفوذ عن العلم.

وفي شهادة عن كوسا، يقول كريستوفر كيه فاندربول، رئيس قسم الاجتماع بجامعة «ميتشيغان ستيت» الذي أشرف شخصيا على رسالة كوسا للماجستير، لصحيفة «لوس أنجليس تايمز»: «لو أصبح أستاذا في الجامعة أو خبيرا في علم الاجتماع لكان ناجحا جدا».

وعقب طرده من بريطانيا، واصل كوسا شغل المناصب الأمنية، حيث عهد إليه تنفيذ المهمات الحساسة والمعقدة أو «غير النظيفة» تجاه خصوم العقيد، خصوصا ما يتعلق منها باغتيال وتصفية المعارضين خارج الحدود، ليطلق عليه المعارضون لقب «مبعوث الموت». ووجهت الكثير من الدول الغربية، وبعض الدول العربية، أصابع الاتهام لكوسا بأنه العقل المدبر وراء التخطيط والإشراف على عدد من أبرز العمليات المسلحة التي نفذها النظام الليبي في حقبة الثمانينات، لعل أبرزها إسقاط وتفجير طائرة شركة «بان أميركان» فوق بلدة «لوكيربي» الاسكوتلندية في عام 1988، والطائرة الفرنسية في النيجر في عام 1989، وتفجير ملهى ليلي في برلين بألمانيا 1986، ومحاولات اغتيال بعض الرموز والزعامات العربية أو إخفاء البعض الآخر، إضافة إلى اتهامه بالضلوع في قتل شرطية بريطانية في عام 1984.

وفي عام 1992، عاد كوسا إلى أروقة الدبلوماسية مرة أخرى، في مقام أعلى من المنصب الذي طرد منه عام 1980، حيث تولى منصب نائب وزير الخارجية، إبان الفترة التي شهدت بداية العقوبات الدولية على بلاده. وبعدها بعامين، ارتقت مكانة كوسا بعد تعيينه على رأس جهاز الاستخبارات الليبية، المعروف باسم جهاز الأمن الخارجي، حيث شغل هذا المنصب لمدة 15 سنة متصلة منذ عام 1994.

وفي فترة إشرافه على جهاز الاستخبارات، كان من مهامه الأساسية استمرار مطاردة المعارضين، الذين يسميهم النظام الليبي «الكلاب الضالة» في الخارج، حيث جرى تصفية الكثير منهم في مانشستر الإنجليزية وباريس وبرلين.. وهي القضايا التي سجل معظمها ضد مجهول. كما أشرف كوسا على تجاوز وتسوية أغلب هذه الجرائم، عبر الاعتذار والتعويض عنها للمتضررين، خاصة الغربيين منهم. وهكذا قاد مفاوضات التعويض لضحايا تفجيرات الطائرات، وبخاصة تفجيرات طائرة شركة «بان أميركان» في لوكيربي عام 1988، وطائرة «دي سي - 10» الفرنسية فوق النيجر عام 1989، رغم اتهام البعض له بأنه هو شخصيا الذي خطط لهذا الهجوم، حيث ظل مطاردا من الغرب في ذلك الوقت بتهم الإرهاب.

يشار إلى أن كوسا متهم بأنه المسؤول عن اختفاء المعارض منصور الكيخيا، الذي تم اختطافه في القاهرة في التسعينات، ولم يعثر له على أثر حتى الآن. كما لعب دورا بارزا ومؤثرا في المفاوضات التي جرت بين النظام الليبي والحكومتين البريطانية والاسكوتلندية من أجل الإفراج عن المدان الليبي في تفجير لوكيربي عبد الباسط المقرحي.

ثم تحولت دفة مهامه كرئيس للاستخبارات من العنف الدموي إلى إخراج بلاده من العزلة التي كانت تحيط بها، حيث لعب كوسا دورا رئيسيا في الكثير من الملفات الليبية الشائكة في العقد الأخير، وكان له دور رئيسي في إعادة صياغة علاقات ليبيا مع الغرب بعد رفع الحصار الذي فرضته الدول الغربية على بلاده في الفترة من عام 1992 حتى بداية الألفية الثالثة.

وكان كوسا مسؤولا عن الصفقة الليبية مع الاستخبارات البريطانية والأميركية عام 2003، والخاصة بتفكيك البرنامج النووي الليبي مقابل رفع اسم ليبيا من لائحة الإرهاب الدولي ورفع العقوبات عنها، وهو الأمر الذي أثار استغراب الكثير من المراقبين في ذلك الوقت كخطوة مفاجئة لم تكن متوقعة. حيث صاغ صفقة تخلي ليبيا عن السعي لامتلاك أسلحة دمار شامل، مقابل انفتاح أميركي بريطاني يتبعه انفتاح مع أوروبا وباقي دول العالم، وهي الصفقة التي أخرجت النظام الليبي من عزلته الدولية. كما فتحت الصفقة التي قام بها كوسا مع الغرب، الباب أمام رفع الحظر التجاري الذي كانت تفرضه الولايات المتحدة على ليبيا منذ عام 1986.

في مارس عام 2009، دارت العجلة بـ«كوسا» للمرة الأخيرة، وذلك حين انتقل مجددا إلى الدبلوماسية، حيث تم تعيينه على رأس الدبلوماسية الليبية وزيرا للخارجية خلفا لـ«عبد الرحمن شلقم» الذي انتقل حينها لتولي منصب مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة، ويعد منصب وزير الخارجية هو المنصب الأبرز في تاريخ كوسا الدبلوماسي.

وفي يوليو (تموز) 2010، تولى كوسا مهام مستشار الأمن القومي بجوار حقيبة الخارجية، خلفا لمعتصم القذافي الذي أعفي من تلك المهمة بسبب خلافاته ومشكلاته مع الدائرة المقربة من والده.

وبحكم مناصبه المتعددة والخطيرة وقربه اللصيق من معمر القذافي، يحتفظ كوسا بكثير من الأسرار عن نظام القذافي وعن القذافي نفسه، حيث وصفه مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة عبد الرحمن شلقم بأنه «الصندوق الأسود» للنظام الليبي، وكاتم أسراره.

ولكن علاقة كوسا بسيده لم تسر على نفس الوتيرة. فقد شهدت توترا بالغا كاد أن يصل إلى حد الإطاحة به، حيث اختفى موسى كوسا لفترة عن المشهد السياسي والإعلام الليبي في مارس 2010، على خلفية شائعات قوية ترددت عن صفع المعتصم (أحد أبناء القذافي) له وخروج الأخير غاضبا مقدما استقالته. تلا ذلك تقديم عبد العاطي العبيدي باعتباره أمين اللجنة الشعبية العامة للاتصال الخارجي والتعاون الدولي المكلف، وهو ما يعني أن العبيدي حل محل كوسا وأصبح وزير خارجية القذافي «المكلف». ولكن القذافي تدارك الموقف لاحقا بعدها بشهور قليلة، حين عينه مستشارا للأمن القومي بديلا للمعتصم نفسه.

كما اصطدم بالمعتصم مجددا، وذلك عندما أعلن كوسا ترحيب طرابلس بقرار مجلس الأمن رقم 1973، ودعوته إلى عدم مهاجمة مدينة بنغازي، معقل الثورة، لتفادي هجمات التحالف الدولي ضد النظام الليبي، وهو الأمر الذي أثار القذافي أيضا، الذي خرج في اليوم الثاني، ليقول «طز» في القرار الدولي. كما اصطدم مع خميس القذافي، عندما كان كوسا مكلفا بتدريبه وإعداده لكي يتسلم منصبا دبلوماسيا رفيع المستوى، مما أحدث شرخا في العلاقة بين وزير الخارجية السابق ورئيسه.

أولى القضايا الدبلوماسية التي واجهها كوسا بعد توليه زمام الدبلوماسية الليبية كانت قضية سويسرا مع عائلة القذافي، على خلفية توقيف ابنه هانيبال الذي اعتدى على خادمة له في جنيف. حيث بدا وكأن وزارة خارجية القذافي شبه مشلولة، لتنتهي الأزمة بتصعيد غريب من القذافي معلنا للعالم أن سويسرا دولة كافرة وفاجرة وأعلن الجهاد ضدها، وهو ما اعترض عليه كوسا.

ومن أهم الملفات الشائكة، التي لم تستعص على المفاوض الشرس كوسا، قضية الممرضات البلغاريات اللائي حُكم عليهن بالإعدام بتهمة حقن مئات الأطفال بفيروس الإيدز. وظلت قضيتهن عالقة لسنوات طويلة بسبب تشابكها وتعقدها، وتداخل ما هو إنساني واجتماعي مع ما هو سياسي. واستخدم كوسا القضية كأداة ضغط في كثير من صفقاته مع الغرب، حتى تم تسليم الممرضات لبلغاريا في يوليو 2007 بعد قضائهن 8 سنوات في السجن.

ولكن تقريرا نشرته صحيفة «صنداي إكسبريس» البريطانية في عددها الصادر صباح 3 أبريل (نيسان) الحالي، قد يفسر العلاقة الوثيقة والمثمرة والمتناقضة في آن واحد، التي جمعت بين كوسا والغرب، لتثير نوعا جديدا من الجدل حول وزير الخارجية الليبي المستقيل والرئيس السابق لمخابرات العقيد القذافي.

وادعى التقرير أن كوسا عمل كعميل مزدوج لجهاز الأمن الخارجي البريطاني (MI6)، وقالت الصحيفة إن «كوسا التقى رئيس الجهاز البريطاني - آنذاك - جون سكاريت في لندن عام 2001، واتفق معه على إمكانية قيام عميل بريطاني بالعمل في ليبيا». وتناولت بعض المعلومات المسربة، من لندن عن كوسا، أن القذافي مول الحملات الانتخابية لعدد كبير من الرؤساء الأفارقة. وطرح كوسا أسماء عدد من الرؤساء الأفارقة في شمال وجنوب القارة، ممن كانوا يستفيدون من هبات العقيد القذافي لإبقاء ولائهم له وتحريكهم وفق نهج السياسة التي يرسمها القذافي.

ووفقا لتقارير غربية، ومن ضمنها التقارير التي كشف عنها موقع «ويكيليكس» للوثائق المسربة من وزارة الخارجية الأميركية، جرى تصنيف كوسا من جانب الدبلوماسيين الغربيين في طرابلس على أنه أقوى شخصية سياسية بعد القذافي وأبنائه، وهو ما جعل بعض المحللين يعتقدون أن إبعاد كوسا عن دائرة الجهاز الأمني وتعيينه في الخارجية كان مقدمة للتخلص منه، باعتباره قد أصبح من «مراكز القوة» في الدولة، وأصبح يتمتع بنفوذ «أكثر من اللازم» مما قد يشكل تهديدا على المستقبل السياسي لأبناء القذافي. وفي 28 من مارس الماضي، استقل كوسا سيارته الخاصة متجها إلى المجهول في آخر زياراته الخارجية، حيث وصل إلى تونس عن طريق منفذ رأس جدير الحدودي، قبل أن يستقل طائرة خاصة مساء 30 مارس متوجها إلى مطار «فارنبورو» الصغير في لندن، ليختم حياته المهنية الطويلة في خدمة القذافي بعاصمة الضباب، التي ودعها في عام 1980 مطرودا، وعاد إليها بعد 31 عاما فارا ومعلنا رغبته في عدم تمثيل الحكومة الليبية بعد هذه اللحظة.