روسيا تخشى عدوى الثورات العربية

شرخ في جدار الثنائي الحاكم ميدفيديف وبوتين حول التعاطي مع ليبيا.. مقدمة لبداية الاستعداد للحملة الانتخابية الرئاسية

ميدفيديف وبوتين يتحضران لخوض المعركة الرئاسية مطلع العام المقبل (أ.ب) - (ريا نوفوستي)
TT

تذبذب المواقف السياسية لروسيا تجاه الأحداث في المنطقة العربية، بداية بثورة تونس ونهاية بما جرى ويجري في بلدان عربية أخرى، مرورا بالثورة المصرية، يكشف عن خلافات في النسق الأعلى للسلطة في موسكو وتباين الرؤى بين قطبي الثنائي الحاكم تجاه هذه الثورات. ولعل ما أعلن عنه الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف حول أن بلاده كانت إحدى الدول التي استهدفها سيناريو قلب أنظمة الحكم في عدد من البلدان العربية، يميط اللثام عن مخاوف دفينة من احتمالات تكرار مثل هذا السيناريو في روسيا، وإن أكد في نفس الوقت عبثية إغفال تفاعلات الداخل، واعتبار أن قوى خارجية كانت وراء ما جرى في مصر. وكان ميدفيديف أشار إلى استحالة تطبيق مثل ذلك السيناريو في روسيا، مؤكدا أن ما كان معدا لها لم ولن يتحقق. وكان الرئيس الروسي كشف في اجتماع اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب الذي اختار لعقده اوسيتيا الشمالية في شمال القوقاز في فبراير (شباط) الماضي، عن أن ما جرى في المنطقة العربية سيؤثر على الأوضاع في بلاده. وأشارت إلى احتمالات حدوث كثير من المشكلات التي تتطلب بذل كثير من الجهد والجدية في غضون عقود طويلة، وهو ما قال إنه يحتم عدم جواز الكذب على النفس أو تضليل المواطنين. وقال إن الوضع المأساوي في الشرق الأوسط والعالم العربي، يمكن أن يسفر عن تفكك دول ذات كثافة سكانية عالية، فضلا عن احتمالات وصول المتطرفين إلى الحكم، وهو ما كان مجهزا لروسيا لكنه لم ولن يتحقق، بحسب تعبيره. وثمة شواهد تقول إن ما أعلن عنه ميدفيديف حول مخاوف احتمالات تكرار سيناريو الثورات العربية، يمكن أن يكشف عن أسباب تحفظات موسكو وتراجع ردود أفعالها إزاء الأحداث في المنطقة العربية بمسافات كبيرة عن مواقف الدوائر الأوروبية والأميركية، رغم التردد الذي اتسمت به مواقف الأخيرة تجاه النظام السابق في مصر. وكانت دوائر المعارضة الروسية عزت من جانبها هذا التراجع، وما رددته السلطات الرسمية، حول أن مثل هذا السيناريو يفتح الباب أمام احتمالات تسلل القوى الأصولية إلى شمال القوقاز سعيا وراء الاستيلاء على السلطة، إلى محاولات الأجهزة الرسمية تبرير حرصها على التمسك بالنهج التسلطي والانفراد بالقرار بعيدا عن التعددية وإطلاق الحريات واستخدام القوى الأصولية والإسلاميين كـ«فزاعة» لترهيب الداخل باحتمالات انتقال العدوى إلى منطقة شمال القوقاز.

ويذكر كثيرون أن سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي، كشف خلال زيارته الأخيرة لبريطانيا، عن تحفظات موسكو تجاه الثورات التي قال إن روسيا عاشت ويلات كثير منها. وهذا الموقف مشابه لما أعرب عنه سيرغي ماركوف عضو مجلس الدوما عن الحزب الحاكم في حديثه إلى صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، مشيرا إلى أن موسكو تعرب عن تحفظاتها تجاه أن الغرب يجاهر بتأييده للثورات في المنطقة العربية، وكأنه لا يدري أن روسيا عاشت ويلات كثير من مثل هذه الثورات التي غالبا ما تبدأ على غرار ثورة فبراير (شباط) (الديمقراطية عام 1917)، وتنتهي بمثل ثورة أكتوبر (تشرين الأول) (الشيوعية في نفس العام). وكان يفجيني بريماكوف كشف في حديثه إلى «الشرق الأوسط» عن موقف مماثل، حين قال إن الأوضاع في روسيا مختلفة عنها في غيرها من البلدان والمناطق، معيدا إلى الأذهان ما سبق وقيل حول هذا الشأن في أعقاب اندلاع الثورات الملونة في عدد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. على أن ذلك لم يمنعه من الاعتراف بوجود الساخطين والمتذمرين في روسيا من جراء تدهور الأوضاع الاجتماعية والمعيشية وانتشار البطالة التي قال إنها تزيد عن خمسة ملايين مواطن. غير أن مثل هذه التقديرات اصطدمت بموقف مغاير يقول بعدم صحة تقديرات السلطة الرسمية في موسكو مثل الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف الذي سارع إلى تحذير الكرملين من مغبة احتمالات وقوع مثل تلك الاضطرابات التي عصفت بالسلطة الرسمية في عدد من البلدان العربية. وقال بتزايد احتمالات تكرار سيناريو الأحداث المصرية في روسيا في حال بقاء نهج التسلط والحكم الفردي وإن أشار إلى أن النهاية ستكون أكثر فداحة ومأساوية.

ورغم أن الأحداث في المنطقة العربية عادت على موسكو بكثير من المكاسب الآنية، ومنها تضخم عائداتها من النفط والغاز بسبب الارتفاع المفاجئ لأسعارهما، فإن المستقبل القريب لا بد أن يسجل تراجع عائداتها من بيع الأسلحة إلى كثير من دول المنطقة، ومنها ليبيا والجزائر واليمن ومصر والأردن وسورية.

وكان الخبراء أشاروا إلى أن روسيا قد تخسر ما جرى الاتفاق على تنفيذه من عقود أبرمتها موسكو مع عدد من الدول العربية والأجنبية ومنها ليبيا وسورية والجزائر واليمن حول بيع السلاح في غضون هذا العام، وهو ما تزيد قيمته عن عشرة مليارات دولار. وتقول الأرقام إن حجم الخسائر الاقتصادية التي يمكن أن تتكبدها روسيا بسبب الأحداث الجارية في ليبيا ومنها عدم تنفيذ عقد صادراتها من الأسلحة الذي وقعه رئيس الحكومة فلاديمير بوتين مع وزير الدفاع الليبي أبو بكر يونس في مطلع العام الماضي، يتجاوز ما قيمته مليار و300 مليون دولار قيمة الصفقة التي توصل إليها بوتين خلال زيارته لليبيا في أبريل (نيسان) 2008 حول توقيع عدد من العقود مقابل شطب موسكو لديونها المستحقة لدى طرابلس فضلا عن ضياع العقود النفطية لكبريات المؤسسات الروسية وعقد بناء أول سكك حديدية في تاريخ ليبيا. وكانت الأجهزة الرسمية عكفت على دراسة أبعاد المكسب والخسارة من جراء تبعات انضمام روسيا إلى قراري مجلس الأمن حول العقوبات ضد ليبيا واحتمالات ضياع كل العقود والمشاريع المشار إليها عاليه. وانخرط المراقبون في متابعة ما يصدر عن أقطاب السلطة من إشارات وتصريحات تكشف عن الخلافات التي تدور تحت السطح وتقول في بعض جوانبها بملامح بداية الاستعدادات لخوض الحملة الانتخابية الرئاسية في مطلع العام المقبل. ففيما أعلن الرئيس ميدفيديف عن إدانة بلاده للجوء السلطات الليبية إلى استخدام القوة ضد المدنيين، ووصف تصرفاتها بـ«الإجرامية»، وأصدر تعليماته إلى مندوبه في مجلس الأمن بعدم استخدام حق «الفيتو» ضد القرار 1973 الذي يقضي بفرض الحظر الجوي ضد ليبيا، وصف بوتين هذا القرار بأنه مدمر ويشوبه العوار لأنه يسمح بكل شيء ويعيد إلى الأذهان ما سبق وتعالى من نداءات كانت تدعو إبان سنوات القرون الوسطى إلى شن الحروب الصليبية، على حد قوله. وكان بوتين قد انتقد هذا القرار، مشيرا إلى أنه يسمح بالتدخل الأجنبي في أراضي دولة مستقلة ذات سيادة ووصفه بأنه أشبه بدعوات القرون الوسطى لشن «حملات صليبية» وهو التعبير الذي وصفه ميدفيديف بأنه «غير مقبول»، باعتباره دعوة إلى صدام الحضارات يمكن أن تفضي إلى ما هو أكثر مما يجري على أرض الواقع. وكان بوتين قال أيضا إنه ورغما عن أن السياسة الخارجية لا تدخل ضمن دائرة صلاحيات الحكومة، فإن لهذه الحكومة وجهة نظر تقول إن نظام معمر القذافي وإن كان لا يتطابق مع المعايير الديمقراطية، فإن ذلك لا يعطي البلدان الأجنبية حق التدخل الخارجي في النزاعات السياسية الداخلية بما فيها المسلحة للدفاع عن أحد طرفي هذه النزاعات. وأعرب بوتين عن قلقه تجاه ما وصفه بالسهولة التي تتخذ بها واشنطن قراراتها بشأن استخدام القوة المسلحة في الساحة الدولية. ومضى بوتين في انتقاداته ليستعيد ما سبق وفعلته الولايات المتحدة إبان سنوات حكم الرئيسين بيل كلينتون وجورج بوش ضد بلغراد والعراق وأفغانستان. ولم يتوقف الأمر عند مثل هذا النوع من «المبارزات الكلامية» بين قطبي الساحة؛ إذ سرعان ما وجدنا بين أعضاء الأنساق الدنيا للقيادات الروسية، من يكشف عن انحيازه ويعلن عن ولائه لأحد هذين القطبين. وهو ما كشفه القرار المفاجئ الذي اتخذه ميدفيديف على النحو الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الدبلوماسية الروسية، وتمثل في الإعلان عن إقالة فلاديمير تشاموف سفيره في ليبيا الذي كان أعرب عن انحيازه لموقف بوتين. ونقلت وكالة أنباء «ريا نوفوستي» عن مصادر في الرئاسة الروسية، قولها إن السفير تشاموف قام بتمثيل مصالح دولة أخرى بدلا من العمل على تحقيق مصالح بلاده. وعاد تشاموف إلى موسكو ليؤكد في حديثه إلى إذاعة «صدى موسكو» صحة كثير مما جرى تداوله من شائعات وأخبار حول اعتراضه على قرارات الرئيس ميدفيديف تجاه الأحداث في ليبيا، مشيرا إلى أنه لم يتهم صراحة الرئيس ميدفيديف بأنه «خائن»، وإن أشار ضمنا إلى أن سياساته تكشف عن تفريط في مصالح الدولة ومكاسبها الوطنية.

وكشف عن لقائه مع القذافي الذي جمعه أيضا مع سفيري الصين والهند وتناول فيه ما يمكن أن تحصل عليه الشركات النفطية الروسية من مكاسب هناك، وما قد تتكبده من خسائر يمكن أن تؤول لاحقا إلى الشركات الغربية في حال انهيار نظام القذافي. وخلص تشاموف صراحة إلى الاعتراف بأنه أقرب في تقديرات الموقف مما أعرب عنه فلاديمير بوتين.

وكان مجلس الدوما انضم أيضا بزعامة أغلبيته من نواب «حزب الوحدة الحاكم» إلى موقف بوتين، مؤكدا ضرورة الكف عن مواصلة العمليات العسكرية ضد ليبيا. وفيما طالب بعض نواب الدوما بسحب جائزة نوبل من الرئيس الأميركي باراك أوباما، أعلن آخرون تأييدهم المطلق للقذافي بل ومنهم من خرج على رأس مظاهرات تحمل شعارات التأييد للقذافي، مثل فلاديمير جيرينوفسكي نائب رئيس مجلس الدوما وزعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي. ورغم وضوح الرؤية تجاه حقيقة مواقف روسيا تجاه الثورات في المنطقة العربية التي يمكن أن نعزوها إلى اعتمادها المنهج البراغماتي، فإن هناك ما يشير إلى أن المبارزات الكلامية التي اشتعلت بين قطبي الثنائي حول هذه المسائل وغيرها تبدو كمقدمة لاستعدادات كل من طرفي الثنائي الحاكم للانتخابات الرئاسية المرتقبة في مطلع العام المقبل.