تحول إيطاليا البطيء.. من العقيد إلى مجلس الثوار العتيد

علاقة برلسكوني الحميمة بالقذافي كانت مثار انتقادات خصوصا بعد زيادة الاستثمارات الليبية في الشركات الإيطالية

TT

حين وصلت دعوة من القسم الإعلامي بوزارة الخارجية الإيطالية منذ أيام، لعدد من الصحافيين، لحضور المؤتمر الصحافي المشترك لوزير الخارجية فرانكو فراتيني مع علي العيساوي، مسؤول السياسة الخارجية في المجلس الوطني الليبي الانتقالي والسفير السابق في الهند، شعر الصحافيون على الفور أن تحولا هاما قد طرأ على السياسة الإيطالية. فالرهان سابقا كان على تأييد رئيس الوزراء الإيطالي سلفيو برلسكوني لـ«صديقه الحميم» العقيد معمر القذافي الذي استقبله استقبال الفاتحين في روما قبل عام. ولكن ما الذي طرأ مؤخرا ودعا فراتيني، مهندس السياسة الخارجية الماهر، إلى الانعطاف واعتبار المجلس الانتقالي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الليبي، بل تصريحه أثناء المؤتمر الصحافي المشترك بأنه لا يستبعد تسليح الثوار في ليبيا «كحل أخير»؟ كما أكد على وجود ممثل للحكومة الإيطالية في بنغازي على اتصال مستمر مع عدد من المسؤولين الإيطاليين الذين يعملون مع المؤسسات والشركات الإيطالية في عدد من الميادين في ولاية البريقة. المطلعون على خفايا الأمور في روما، يؤكدون أن ضغط حلف شمال الأطلسي (ناتو) والرئيس الأميركي باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، كان له صدى واسع في أوساط الحكومة الإيطالية وأصحاب القرار. كما أن موقف عبد الرحمن شلغم، السفير الليبي السابق لدى إيطاليا الذي أصبح وزيرا للخارجية الليبية ثم الممثل الدائم في الأمم المتحدة بنيويورك قبل انشقاقه عن القذافي، رغم صداقته القديمة له، وتبعه مؤخرا وزير الخارجية الليبي موسى كوسا الموجود حاليا في بريطانيا، قد أثر على الوضع الحالي للسياسة الخارجية الإيطالية التي تعتمد الواقعية والبراغماتية ومحاولة الحفاظ على المصالح الاقتصادية في المقام الأول، خاصة بعد فشل المحاولات التركية واليونانية للوصول إلى حل وسط للأزمة الليبية. ويشاع أن رئيس شركة ايني للبترول باولو سكاروني قد يتم تبديله نظرا لعلاقاته الوثيقة مع نظام القذافي، في محاولة لاحتواء التقدم الفرنسي نحو زيادة نفوذها بعد أن دخلت قطر على الخط لبيع البترول في المنطقة التي يسيطر عليها الثوار في شرق البلاد. بين ليبيا وإيطاليا روابط لا تبلى منذ زمن بعيد. فقد احتلت إيطاليا ليبيا عام 1911 واستعمرتها في عهد موسوليني. كما قمعت ثورة عمر المختار عليها بقسوة فائقة ومارست على الليبيين محرقة سبقت فظائع النازيين ضد اليهود. ثم اعتذرت عن استعمارها منذ بضع سنوات فقط، ووافقت على تعويض ليبيا عن أضرار الاحتلال. وأصبحت علاقات رئيس الوزراء الحالي برلسكوني الحميمة مع الزعيم الليبي العقيد القذافي، مثار الانتقادات بعد تكرار زيارات القذافي إلى إيطاليا في السنوات الأخيرة وزيادة الاستثمارات الليبية في الشركات الإيطالية، مثل «ايني» للبترول وشركة «فيات» للسيارات وبنك ينويكريدت وغيرها، حتى أن أحد زعماء المعارضة اليسارية بيترو فاسينو اتهم برلسكوني الشهر الماضي بأنه لا يريد «إزعاج» القذافي بعد قيام الثورة ضده نظرا للصفقات الكثيرة بين البلدين، رغم انتهاكات حقوق الإنسان وقتل المدنيين في ليبيا.

الغريب في الموضوع أن خبر الاعتراف بالثوار في ليبيا جاء من وزارة الخارجية، بينما لم يصدر أي بيان أو تصريح من برلسكوني الذي اكتفى بالصمت المطبق. كما أن هذا الخبر الهام اختفى من عناوين الصحف الإيطالية في اليوم التالي لإعلانه. التلفزة الإيطالية وصحف اليمين واليسار، اكتفت بتغطية عادية للأحداث في ليبيا، بينما أفردت مساحات واسعة للحديث عن الهجرة غير الشرعية القادمة من تونس والقوارب الغارقة قرب جزيرة لامبيدوسا. كما تابعت حملتها ضد فرنسا واتهامها بأنها تحاول سحب البساط من تحت المصالح الاقتصادية والبترولية الإيطالية عبر التأييد القوي الواضح للثوار الليبيين، والعداء السافر للقذافي. وفي إحدى حلقات النقاش على التلفزيون الحكومي، هاجم أحد وزراء برلسكوني السابقين فيتوريو سكاربي، إحدى المشاركات في النقاش التي دافعت عن الثوار والموقف الفرنسي، قائلا: «إنك تتكلمين مثل الماعز الجاهل.. عودي إلى المدرسة وادرسي حقائق التاريخ». شركة «إيني» للبترول التي تنعم بنفوذ كبير داخل إيطاليا وخارجها، تعمل في 77 بلدا في العالم، ويعمل فيها ما يزيد على 78 ألف موظف. ومشاريعها في ليبيا التي بدأت عام 1959، تصل منذ عام 2008 إلى ثلاثة عشر مشروعا لاستخراج النفط الذي يقدر بما يفوق ثلاثمائة ألف برميل يوميا. وقد سحبت شركة «إيني» بناء على توصية وزارة الخارجية، كافة موظفيها من ليبيا اعتبارا من منتصف الشهر الفائت ولا يعرف متى ستتمكن من إعادتهم.

التاريخ الحديث يقول إن الدول الغربية بعد انتصارها على إيطاليا وألمانيا في الحرب العالمية الثانية واكتشاف النفط في ليبيا، أصبحت تماطل في إعطاء الاستقلال، بل إنها كانت تحاول تقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم: برقة في الشرق وعاصمتها بنغازي من حصة بريطانيا، وطرابلس في الغرب من حصة إيطاليا، وفزان في الجنوب من حصة فرنسا. لكن الأمم المتحدة منحت ليبيا الاستقلال عام 1951 كدولة موحدة عاصمتها طرابلس. ما زالت إيطاليا تعاني من هواجس تاريخية حتى الآن. ورغم انصياعها للخط السياسي الغربي وتحالفها مع الولايات المتحدة وتنفيذ مقررات حلف شمال الأطلسي وسماحها باستعمال قواعدها خاصة في تراباني بجزيرة صقلية للطلعات الجوية للحلف ضد قوات القذافي، فإنها تخشى أن تتضرر مصالحها الاقتصادية وأن تسبقها فرنسا في المنافسة. لذا تقرر عقد قمة ثنائية إيطالية - فرنسية في روما في 26 أبريل (نيسان) الحالي سيحضرها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء الإيطالي سلفيو برلسكوني، وسيشارك فيها من الوزراء الإيطاليين كل من وزراء الخارجية والداخلية والدفاع والاقتصاد، وسيشمل جدول الأعمال الوضع في ليبيا والهجرة من شمال أفريقيا والعلاقات الثنائية المتوترة.

السياسة الخارجية الإيطالية تعتمد أسلوب الصداقة مع كافة الدول العربية ضمن إطار اهتمامها بالبحر الأبيض المتوسط وعضويتها في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وتعتبر أن التزاماتها الدولية وتأييدها لمقررات الأمم المتحدة ستزيد من صداقتها القوية مع الولايات المتحدة، فهي تلعب دورا أساسيا في اقتصاد ومعونات الدول الغربية للمنطقة العربية كما أن إيطاليا واعية بأنها لعبت دورا مركزيا في حل أزمة البلقان. التفكير السائد الآن في دوائر صنع القرار في إيطاليا تدعو للانتظار لمعرفة نتائج الأزمة في ليبيا على أمل أن تلعب إيطاليا دورها التاريخي كبلد متوسطي يبشر بالسلام والتقدم الاقتصادي. الأيام المقبلة ستثبت إذا كانت توقعات إيطاليا ممكنة أم أن هناك من يسبقها إلى لعب الدور الرئيسي في الضفة الجنوبية من المتوسط.