الثورة اليمنية.. والورقة القبلية

الرئيس اليمني يلعب على الولاءات.. والبلاد مهددة بانهيار اقتصادي تام ما لم يتم تدارك الوضع

TT

عندما اندلعت الثورة التونسية، ثم تلتها الثورة المصرية، كان الرئيس اليمني علي عبد الله صالح يتحدث ويقول إن «اليمن ليس تونس أو مصر»، في إشارة واثقة إلى أن عدوى الثورة، بنفس الأسلوب، لن تنتقل إلى اليمن في ظل قبضته القوية على مقاليد الأمور، رغم أن البلاد كانت، وما زالت، تعيش في أزمة سياسية بين الحكم والمعارضة، وفي ظل جولات حوار عقيم، إن جاز الوصف، بين الطرفين. لكن الأيام أثبتت عكس ما كان يقال بشأن عدم التشابه.

من دون شك، اليمن ليس كتونس ومصر أو غيرهما من البلدان. ولكن في شق تعدد أزماته أو تنوع ملفاته، ففي اليمن أزمة سياسية بين النظام الحاكم والمعارضة، وتنظيم القاعدة وحرب على الإرهاب متواصلة منذ نحو عقدين، وثمة حرب أهلية طاحنة بين الكر والفر، بين نظام الحكم والمتمردين الحوثيين في شمال البلاد. ولدى اليمن في الجنوب حراك نشط يسعى منذ سنوات إلى ما يسميه «فك الارتباط» للوحدة اليمنية التي قامت في 22 مايو (أيار) عام 1990، بين شطري البلاد الشمالي والجنوبي. ولدى اليمن أيضا اقتصاد هش ومتداع، وملف توريث، وآخر لفساد يوصف بأنه أزكم الأنوف.. إضافة إلى قائمة من المشكلات التي لا توجد لدى مصر أو تونس وبلدان أخرى عديدة.

ويعتلي الرئيس علي عبد الله صالح سدة الحكم في اليمن منذ عام 1978، عندما انتخب من قبل مجلس الشعب التأسيسي فيما كان يسمى «الجمهورية العربية اليمنية» أو الشطر الشمالي لليمن. وطالما فاخر بأنه تجاوز صعابا ومشكلات كبيرة منذ توليه الحكم، بدءا بالقضاء على الجبهة الوطنية الديمقراطية التي كانت تخوض حربا داخلية ضد النظام في المناطق الوسطى منذ منتصف السبعينات وحتى مطلع ثمانينات القرن الماضي، بدعم من نظام الحكم الاشتراكي في الشطر الجنوبي، ثم تجاوزه حربين مع الجنوب، ثم قيام الوحدة وانتصاره على شركائه في الوحدة من قيادات الحزب الاشتراكي اليمني في الحرب الأهلية صيف عام 1994، وغيرها من المحطات التاريخية والمهمة في تاريخ اليمن والرئيس صالح.

ويعتقد مراقبون أن الرئيس اليمني أدرك جيدا أن رياح التغيير، إن جاز الوصف، مقبلة لا محالة إلى بلده ونظامه وأن تصرفاته منذ اندلاع «ثورة الشباب» في اليمن، كانت متناقضة تماما لأقواله ومحاولته الظهور كرئيس قوي. فأولى ثمار هذه الثورة أن أطيح بمشروع توريث الحكم لنجله الأكبر، العميد الركن أحمد علي عبد الله صالح، وذلك في سياق سيل التنازلات التي قدمها صالح لتهدئة الأوضاع والحيلولة دون أن تتوسع دائرة الاحتجاجات في بلاده. ومن تلك التنازلات تخليه عن التمديد أو الترشح لولاية رئاسية جديدة، ثم قبوله بمقترحات إصلاحات سياسية ودستورية كانت تطرحها المعارضة في تكتل «اللقاء المشترك» وغيرها من القوى السياسية منذ عدة سنوات وهو يرفضها، ومنها تعديلات دستورية تحول نظام الحكم من رئاسي إلى برلماني وتقسيم البلاد إلى أقاليم، أي إقامة نظام فيدرالي وإن بمسمى آخر.

وعندما اشتد عود الثورة واتسعت رقعة الاحتجاجات التي استندت إليها المعارضة، قبل بكل الطروحات مقابل أن يظل في الحكم حتى نهاية ولايته في 2013، لكن المعارضة و«شباب الثورة» المعتصمين في ساحات التغيير والحرية بالعاصمة صنعاء وباقي المحافظات، رفعوا من سقف مطالبهم وبات مطلبهم الوحيد هو إسقاط النظام ورحيل الرئيس صالح. ولم تعد هناك مطالب بإصلاحات سياسية، كما في السابق، وما عمق هذه المطالب وزاد الإصرار عليها، هو سقوط عشرات القتلى وآلاف الجرحى من المعتصمين برصاص قوات الأمن أو المجاميع التي باتت تعرف بـ«البلاطجة».

وخلال شهرين على هذه الثورة السلمية في بلد جميع سكانه يمتلكون السلاح، وجدت العديد من المبادرات والوساطات لإنهاء الأزمة منها الداخلية التي قام بها مشايخ قبائل ورجال دين، وخارجية قامت بها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأخيرا المبادرة الخليجية، وجل هذه المساعي فشلت لأن الرئيس علي عبد الله صالح يصر على البقاء في منصبه ويقبل بفكرة التنحي ولكن «وفقا للدستور» وللوقت الذي يحدده شخصيا.

وخلال فصول هذه الأزمة التي تراوح مكانها، استخدم صالح العديد من أوراق الأزمات الداخلية لإخافة خصومه والخارج من الآثار السلبية لمغادرته الحكم، ومن ذلك ورقة تنظيم القاعدة والتصريح والتلميح بأن «القاعدة» سوف تستغل الفرصة وستوسع نشاطها في البلاد، وبأنه الرجل المناسب لخوض الحرب ضد الإرهاب. لكن خصومه في المعارضة اتهموه ويتهمونه بأنه يستخدم ملف «القاعدة» كـ«فزاعة» للغرب والولايات المتحدة. وفي هذا السياق يعتقد الخبراء في مجال الحرب على الإرهاب أن الأميركيين، خاصة، والغرب عموما «ليس لديهم أي رئيس في بلد عربي أو إسلامي، يمثل ثقلا حقيقيا في الحرب على الإرهاب، بل في العالم أجمع».

ويقول عبيد سعيد الجمحي، مؤلف كتاب عن «تنظيم القاعدة في اليمن»، إن ما يدل على عدم ثقة الأميركيين بأي طرف ليكون مركز ثقل لديهم في الحرب على الإرهاب، أنهم «هم من يقومون بمحاربة الإرهاب بأنفسهم». ويضيف لـ«الشرق الأوسط»، أننا «إذا تخيلنا أن صالح أو غيره من الرؤساء يمثلون مركز ثقل وأهمية، فإن الأميركيين ليست لديهم هذه النظرة». ويعتقد أن أهمية الشخصيات التي يعتمد عليها في الحرب على الإرهاب كالرئيس صالح، مثلا «تكمن في قضية التسهيل للأميركيين الحركة في البلد وتذليل الصعاب أمامهم ليتحركوا بحرية، وأيضا ألا يتحملوا هم وزر أي خطأ يرتكب في المنطقة». ومن هذا المنطلق فإن مثل هذه المهام «يمكن أن يقوم بها أي شخص، والأميركيون ليست لديهم شخصية واحدة في العالم لا تنصاع لهم أو تخدمهم».

ولا يتفق الباحث اليمني الجمحي مع طروحات النظام والمعارضة في اليمن بشأن «القاعدة»، أي التهويل الرسمي والتقليل المعارض وما أشير إليه سلفا. ويقول، في سياق تصريحاته لـ«الشرق الأوسط»، إن هناك طرفا يقول إن لا أحد يستطيع اجتثاث «القاعدة» دونه لأنه صاحب الخبرة وهو طرف معروف، وطرف آخر مضاد يطرح بأن «القاعدة» لعبة بيد النظام للتخويف. يعتقد عبيد أن جميع «التفسيرات خاطئة»، وذلك لأن «القاعدة» رحل النظام أو بقي، ستبقى هي الخصم.

ويردف الخبير في شؤون الإرهاب باليمن أنه «وفي حال رحل النظام، سيأتي طرف آخر وسيحكم بالديمقراطية والتعددية السياسية والنظام البرلماني، وكل هذه مفردات للحكم المدني تعتبرها (القاعدة) مفردات كفرية، وبالتالي ستكون خصما لنظام الحكم الجديد إذا افترضنا أنه من يطالب حاليا برحيل النظام، وبالتالي فأنا أنصح وأقول بأن تتخذ كل الأطراف (القاعدة) عدوا حقيقيا، لا مجال للتلاعب به أو التلاعب معه».

وإحدى الأوراق التي يحاول الرئيس اليمني، هذه الأيام، التلاعب بها من أجل إجهاض الثورة أو الاحتجاجات المطالبة بتنحيه، هي الورقة القبلية، فمنذ قرابة الشهرين وهو يلتقي بصورة شبه يومية، مشايخ قبائل ويطلب منهم إعلان تأييده وتأييد «الشرعية الدستورية»، وهي جملة يفهم منها أنه يمثل هذه الشرعية، كما أن وسائل الإعلام الرسمية بمختلف أنواعها، تواصل الإعلان يوميا عن بيانات لقبائل يمنية معروفة تؤكد ولاءها للرئيس، لكن الشيء المهم واللافت، في آن معا، هو أن معظم وأهم القبائل اليمنية كحاشد التي ينتمي إليها صالح نفسه وبكيل، كبرى قبائل اليمن وغيرها من القبائل، أعلنت صراحة مساندة «ثورة الشباب» والتحق أبناؤها بساحات الاعتصام دون أسلحة من أجل التعبير بصورة مدنية وحضارية عن مطلب إسقاط النظام ورحيل الرئيس صالح عن الحكم هو وأبناؤه وجميع أقاربه.

وفي موضوع ما يعلن من تأييد قبلي للرئيس اليمني، يقول فيصل أبو رأس، سفير اليمن في بيروت الذي استقال مؤخرا من منصبه احتجاجا على قتل المتظاهرين، وهو أيضا أحد أبرز الشخصيات القبلية المتعلمة والمثقفة في اليمن، إن المشايخ انقرضوا من اليمن «إلا قلة منهم ممن بقي بينهم وبين قبائلهم عقد اجتماعي رائع وممن يربطون على بطونهم».

ويقول إن من يكتظ بهم اليمن اليوم من المشايخ ما هم إلا «متمشيخون على وزن مستصلحون أو منتفعون ممن يربطون على بطون غيرهم لتنتفخ كروشهم، والفرق واضح بين من يملك قراره وكرامته وكرامة قبائله ووطنه، ومن لا يملك قراره بيده». ويردف أبو رأس في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن من «يقفون على باب الرئيس اليوم أكثرهم متمشيخون ويأتون بكل أهواء الطيف وهؤلاء من عبدة الدينار لا خير فيهم لا للرئيس ولا لقبائلهم ولا للوطن»، ثم يستدرك ويقول: «بلا شك هناك بينهم قلة من المشايخ الأحرار المشهود لهم بالوطنية ويعتقدون في الرئيس وممن يرجحون كفة الوطن، ولهؤلاء أقول: أقسم بالله العظيم إني لو علمت أن علي عبد الله صالح يحب وطنه وشعبه لوقفت حارسا على بابه، والأيام بيننا».

ويعتقد الخبراء أن الوضع الاقتصادي يعد أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورة الشبابية المطالبة برحيل نظام الرئيس علي عبد الله صالح، ويقول مصطفى نصر، رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي (منظمة غير حكومية)، إن المشكلة الاقتصادية تعد أحد الأسباب التي أدت إلى اندلاع ثورة الشباب، لأن «الكثير من اليمنيين شعروا بفقدان الأمل في المستقبل مع النظام الحالي ولذلك خرجوا مطالبين بالتغيير، ووفقا لجميع المؤشرات فإن النظام الحالي لليمن لم يعد قادرا على تحقيق النمو الاقتصادي لأسباب متعددة لعل أبرزها الفساد المستشري داخل هياكل ومؤسسات الدولة، وفقدان الثقة بينه وبين المواطنين وعجزه عن اتخاذ أي قرارات جريئة تلبي طموحات المواطنين، إضافة إلى العجز عن توفير المتطلبات الأساسية للحياة كالكهرباء والمياه والصحة».

وعن وضع الاقتصاد اليمني مع استمرار الأزمة والاحتجاجات، يقول نصر لـ«الشرق الأوسط» إن الاقتصاد يعاني من «حالة ركود تام، لا سيما بعد أن وصل إلى مرحلة الفشل وفقا للمؤشرات الدولية، وإن كانت الأزمة الاقتصادية ليست وليدة اليوم إلا أن ما يشهده اليمن من اعتصامات ومظاهرات تطالب برحيل النظام جعل حالة الركود تنتقل إلى مرحلة الشلل في جميع القطاعات الاقتصادية باستثناء بعض القطاعات». ويشير نصر إلى أن أبرز مظاهر حالة شلل الاقتصاد اليمني تتمثل في «توقف كامل قطاع البناء والتشييد، وكذلك قطاع السياحة، وامتناع البنوك عن القيام بالإقراض، وتوقف كثير من العقود والصفقات في انتظار ما ستسفر عنه الأحداث الأخيرة، وفي انعدام العملة الأجنبية (الدولار) وتدني سعر الريال اليمني بنسبة تفوق 12 في المائة، حيث وصل سعر الريال إلى 240 ريالا للدولار الواحد مقارنة بـ213 ريالا للدولار مع بداية الأحداث».

ثم يقول إن هناك إنفاقا «عبثيا يقوم به الرئيس صالح لكسب الولاءات، وهذا أدى إلى استنزاف ملايين الدولارات من الخزينة العامة للدولة، إضافة إلى طبع عملات نقدية جديدة وهذه الإجراءات تعد ضريبة تفرض على الشعب اليمني حيث ينعكس كل ذلك سلبا على أسعار السلع والخدمات»، ويتمنى الخبير الاقتصادي اليمني أن تنتهي الأزمة في أقرب وقت، فإن اليمن «قد يدخل في مرحلة الانهيار الاقتصادي وهذا يشكل كارثة اقتصادية بكل المقاييس». وبحسب المركز الذي يديره الصحافي مصطفى نصر، فإن نسبة البطالة في اليمن تقدر «وفقا للتقديرات غير الرسمية بنحو 39 في المائة من القوى القادرة على العمل، فيما تشير التقديرات الرسمية إلى 17 في المائة، وتتعدد المفاهيم التي تنطلق منها تلك الدراسات إلا أن المؤكد هو أن البطالة أصبحت من أخطر المشكلات الاقتصادية التي يواجهها اليمن، حيث يواجه اليمن مشكلة مركبة، مشكلة البطالة السافرة وهم الذين دون عمل وعددهم يتزايد سنويا حيث لا تستطيع الحكومة سوى توظيف 13 ألف موظف من بين 130 ألف خريج جامعي سنويا، والبطالة المقنعة وتتمثل في تلك الأعداد الهائلة في المؤسسات ممن هم دون أعمال ويتسلمون مرتبات زهيدة».

ويراهن الرئيس اليمني على التناقضات الداخلية وبالأخص منها الولاءات، ويقول علي سيف حسن، رئيس منتدى التنمية السياسية (منظمة غير حكومية) إن صالح «حكم اليمن 33 سنة من خلال شبكة من العلاقات والمحسوبيات والمصالح المتبادلة مع معظم المكونات اليمنية الرئيسية القبلية والعسكرية والدينية والسياسية، كما أنه يجيد وبامتياز أسلوب اللعب على التناقضات والتنافس بين كل هذه المكونات، وهو ما زال حتى اليوم يمتلك بعض تلك الأدوات».

ويعتقد أن ما يعتمد عليه صالح هو «ما يطغى على مشهد الثورة اليمنية من صراع أسري حاد على السلطة وتنافس حزبي قاس، الأمر الذي أبهت مشهد الطبيعة الشعبية للثورة وتصوير ما يحدث في اليمن على أنه مجرد أزمة أو صراع بين أطراف أسرية وسياسية على السلطة، وعلى الرغم من أن هذا لا يتفق مع الحقيقة الشعبية والمدنية للثورة، فإنه استطاع إقناع دول الجوار والكثير من أصدقاء اليمن بذلك، وهو ما عزز مخاوف دول الجوار والعالم من مخاطر انهيار هياكل الدولة المهترئة أصلا وإمكانية توفير بيئة حاضنة للإرهاب، والآن وبعد تدخل السعودية بصورة جادة في ضبط تصرفات الأطراف الأسرية المتصارعة على السلطة بكل ما لديها من قدرة تأثير عليهم جميعا، فإن عوامل التوتر واحتمالات الحرب الأهلية قد تراجعت كثيرا لكون هذه الأطراف (الأسر المتصارعة على السلطة) هم من يمتلكون أدوات التأثير والفعل العسكري والقبلي، أما بالنسبة إلى الثورة الشعبية المدنية السلمية فإنها لا تمثل أي تهديد أو مصدر للصراعات أو الحروب الأهلية، فلا خوف منها ولا قلق عليها».