وتارا.. رئيس مشكوك في «عاجيته»

تبوأ منصبا عاليا في صندوق النقد الدولي.. ومنع من الترشح للانتخابات الرئاسية مرات كثيرة سابقا

TT

ليس من السهل في أفريقيا المعروفة بتعصب قومياتها المختلفة، واختلاف مشاربها السياسية، أن يتولى دفة أمورها رقم سهل في المعادلة الدينية والاجتماعية عبر مسار ديمقراطي، قبل أن تحاول الآلة العسكرية الزحف على مكتسباته.

هذه المفارقة نراها اليوم في ساحل العاج، حينما حسمت معركة الانتخابات الرئاسية، بعد أربعة أشهر من الصراع الدامي، للحسن درمان وتارا، الرئيس الشرعي المعترف به من لدن المجتمع الدولي، بعد أن تم القبض على الرئيس المنتهية ولايته، لوران غباغبو، من طرف القوات الموالية لوتارا في 11 أبريل (نيسان).

الحسن درمان وتارا، الرئيس الحالي لساحل العاج، ولد في الأول من يناير (كانون الثاني) 1942 في مدينة ديمبوكرو وسط البلاد، لأم عاجية، وأب يحكى أنه من أصل بوركينابي (نسبة إلى بوركينا فاسو)، مما سبب له الكثير من المتاعب في شق طريقه السياسي، حيث مُنع من الترشح للانتخابات الرئاسية مرات كثيرة في بلده ساحل العاج بحجة أن والده ليس من أصل عاجي، وهو ما يتنافى مع الدستور الذي كان موجودا آنذاك (وهو ما يعرف بالقضية الإيفوارية(. إلا أن الدستور عدل فيما بعد.

ويثار جدل واسع أيضا حول جنسية وتارا، حيث يثبت بعضهم أن له الجنسية البوركينابية، مؤسسا فرضيته على أن وتارا سبق أن شغل منصبا في البنك المركزي في غرب أفريقيا يعود إلى بوركينا فاسو. بينما البعض الآخر ينفي هذه الفرضية ويرجع سبب شغله للمنصب آنذاك بأن بوركينا فاسو كانت جزءا من ساحل العاج، حين كانت تسمى «فولتا العليا» إبان الحرب العالمية الثانية.

وعلى الرغم من الجدل الدائر حول جنسيته، فإن هناك إجماعا على أنه مسلم، وحاصل على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية من الولايات المتحدة. ويعرف وتارا بسياسته الاقتصادية الليبرالية، فقد شغل الكثير من المناصب المهمة في صندوق النقد الدولي في الفترة ما بين 1984 و1988 حتى عين في نفس السنة رئيسا للبنك المركزي لدول غرب أفريقيا.

وفي عام 1990، استدعاه أبو استقلال البلاد، هوفت بونيه للالتحاق به، ليعينه رئيسا للوزراء، من أجل إخراج البلاد من أزمة اقتصادية خانقة حلت بها نتيجة انخفاض مفاجئ لأسعار المواد الزراعية الأولية منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي.

وقاد وتارا الحكومة في السنتين الأوليين من مأموريته، بدعم كامل من الجمعية الوطنية التي يترأسها هنري كونان بدييا، حتى سأله الصحافي عالي كوليبالي، وهو السفير الحالي في باريس الموالي لوتارا، في مقابلة تلفزيونية، عن احتمال ترشحه للانتخابات الرئاسية. فكان جوابه ينبئ بأن الاحتمال وارد. وبدأ بدييا يبتعد عنه وينتقد تسييره الحكومي، ويعزف على الوتر الحساس في ساحل العاج، وهو «القضية الإيفوارية» التي ظل الرئيس الأول لساحل العاج يتحاشاها من أجل بناء أمة إيفوارية.

وبدأت الحرب الخفية بين وتارا وبدييا حول خلافته، بعد أن كان الرئيس هوفت بونيه على سرير المرض، إذ كان وتارا يرى أنه أحق بخلافته بحكم عمله الحكومي، بينما يرى بدييا أن الدستور حسم القضية سلفا، حيث ينص على أنه في حالة تم فراغ في هرم السلطة ينوب رئيس الجمعية الوطنية مكانه.

وعندما علم وتارا بنبأ وفاة هوفت بونيه في جنيف عام 1993، لم يشأ إعلانها حتى نبه الفرنسيون على أن طموحه إلى التمسك بالسلطة ليس في محله، وأن دستور البلاد واضح بهذا الشأن، في إشارة إلى ضرورة تسليم السلطة إلى بدييا. وبعد خضوعه لتسليم السلطة تحت ضغط الفرنسيين لرئيس البرلمان، غادر وتارا البلاد عام 1993 بعد استقالته من منصبه، ليتقلد مسؤوليته في صندوق النقد الدولي، بعدما أسس حزبا سياسيا سماه «التجمع الديمقراطي الوطني» انخرطت في سلكه الطائفة المسلمة من سكان الشمال وبعض المسيحيين من الجنوب غير الراضين عن النظام الحاكم.

ويقول بعض المحللين إن وتارا هو أول من كرس الطائفية في ساحل العاج بعد إنشائه حزبا لطائفة معينة، على الرغم من أنه اكتوى بنارها طيلة مسيرته السياسية.

ومع بداية عام 2003، تم التوصل إلى توقيع اتفاق يعرف بـ«اتفاق ماركوسي» بفرنسا، تمكن فيه أطراف النزاع من الاجتماع حول طاولة واحدة، وكان من أبرز محاور الاتفاق أن الرئيس لوران غباغبو يتمسك بالسلطة حتى تنظيم انتخابات جديدة، والدعوة إلى مصالحة وطنية، وإسناد حقيبتي وزارة الدفاع والداخلية إلى المعارضة، إضافة إلى انتشار 4 آلاف جندي من الجيش الفرنسي في مناطق النزاع بساحل العاج للحيلولة دون وقوع مواجهات. لكن هذا الاتفاق الذي تم برعاية فرنسية لم ير النور على الأرض، ولم يبق له أثر على الورق الذي كتب عليه. إذ قامت زوجة غباغبو ورفيقة الدرب، سمون، بتمزيق صك الاتفاق، ليتحول النزاع من جديد إلى مواجهات دامية في أنحاء من البلاد راح ضحيتها آلاف الضحايا.

وفي عام 1994، تمت مراجعة القانون الانتخابي، وكانت نتيجته أن المرشح للانتخابات الرئاسية في ساحل العاج يلزمه إثبات انحداره من أبويين «عاجيين» لتكون مواطنته صحيحة، وهذا ما أصبح عائقا أمام طموح وتارا، لما يلف جنسيته من إشكال، ويؤكد غرماؤه السياسيون أنه «أجنبي» على ساحل العاج، ولا يحق له المشاركة في اللعبة السياسية.

وفي عام 2005، نظمت الانتخابات الرئاسية، وواصل بدييا «مخترع القضية الإيفوارية»، بالعزف على وترها من أجل إبعاد وتارا، الذي يعتبره من أخطر منافسيه على منصب الرئاسة. وقام المعارض لوران غباغبو بمقاطعتها, ونجح بدييا وبقي متمسكا بالسلطة حتى عام 1999 حتى تمت الإطاحة به بانقلاب عسكري من طرف ضباط في الجيش، وتم استدعاء الجنرال كي ليتولى السلطة لمرحلة انتقالية، ثم قام بتنظيم انتخابات شاركه فيها لوران غباغبو، وتم استبعاد وتارا أيضا من السباق، بحجة حظه العاثر، وهو الشك في نسبته الوطنية.

نجح غباغبو في هذه الانتخابات، لكن حكمه لم يستمر عمليا أكثر من عامين من (2000 إلى 2002)، وتمكن خلال هذه الفترة من اتباع سياسة الانفتاح، حيث دعا قادة المعارضة إلى الدخول معه في شراكة تتمثل في تكوين حكومة وحدة وطنية. وخلال عام 2003 قام كيوم سورو المولود سنة 1972، وهو ناشط سياسي ووزير أول منذ عام 1997، بحكم اتفاق سياسي تم توقيعه بين الأطراف المتنازعة في واغادوغو وأقره وتارا في منصبه، بإشعال الثورة في الشمال. وتم تقسيم البلاد إلى شمال يسيطر عليه الثوار، وجنوب يسيطر عليه النظام. ومنذ تلك الفترة والرئيس غباغبو يعد بتنظيم انتخابات، ويتعلل بتأجيلها بأن الوضع للبلاد لا يمكن معه تنظيم استحقاقات حالما وضعت الحرب أوزارها، وحصل لم شمل شمال البلاد بجنوبه.

ويعتبر سورو، الأمين العام للقوات الجديدة، وهي الحركة الثورية في الشمال، وكانت تسيطر في عام 2007 على 48 في المائة من البلاد. وفي 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2010، بدأ أهل ساحل العاج يرون نورا في آخر نفق أزمتهم السياسية يحاولون من خلاله وضع حد للحرب فيما بينهم، حين بدأوا بممارسة حقهم الانتخابي لمن يختارونه رئيسا لهم، ويخرجون بلدهم من عنق الزجاجة. وما كادوا ينتهون من الشوط الثاني من الانتخابات ليقلبوا بها صفحة مؤلمة من صراعهم السياسي، حتى بدأ صراع من نوع آخر وهو صراح «الشرعية»، حيث ادعى كل من المرشحين الحسن وتارا، الذي حصل على 52 في المائة من الأصوات، ولوران غباغبو، الذي حصل على 45 في المائة، أنه هو الرئيس الشرعي لساحل العاج.

ووقفت إلى جانب كل منهما على التوالي مؤسسة دستورية، هما: اللجنة المستقلة للانتخابات، والمجلس الدستوري، حتى أضفت الأمم المتحدة مفهوم الشرعية للرئيس وتارا، واعتبرت غباغبو خارجا عنها، ودعته إلى التنحي عن السلطة.

من هنا بدأت فرنسا في اعتبار حليف الأمس، لوران غباغبو، خارجا على طاعة المجموعة الدولية، بعد أن رفض نتائج الانتخابات الرئاسية متمسكا بالسلطة ومعرضا بلده لحرب أهلية هو في غنى عنها، خصوصا وأنها إذا ما نشبت لن تضر العاجيين فحسب، ولكن تأثيرها سيطال المصالح الفرنسية في تلك المستعمرة السابقة، ومن أجل تأكيد وقوفها إلى جانب الشرعية، مارست باريس ضغوطا قوية على غباغبو لإرغامه على ترك السلطة والتسليم بخسارته في الانتخابات.

وعلى الرغم من أن غباغبو يعتنق الديانة المسيحية، فإن باريس كانت تحرص على خروجه حماية لمصالحها، وخاصة فيما يتعلق بتجارة الكاكاو، الذي تعد ساحل العاج من أكبر الدول المنتجة له، وتستفيد فرنسا من موقع ذلك البلد الاستراتيجي، باعتباره يطل على المحيط الأطلسي وقريبا من منطقة غرب ووسط القارة السمراء حيث تتشعب وتتشابك المصالح الفرنسية، ولذا توجد أكبر قاعدة عسكرية لفرنسا في القارة الأفريقية بدولة ساحل العاج.

إضافة إلى توسع الاهتمام الفرنسي بذلك الوجود العسكري عقب سحب قوات فرنسية من السنغال، وحاجة فرنسا إلى الاستقرار في المنطقة التي تعد على مقربة من منطقة الساحل الأفريقي حيث تنشط جماعات مسلحة تابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وحيث توجد أيضا استثمارات فرنسية في النيجر ومالي وموريتانيا. وإذا كان لباريس اليد الطولى في إسقاط غباغبو واعتقاله، ثم تسليمه لغريمه وتارا، فإنها أقدمت على هذه العملية المثيرة للجدل، ليس اعتباطا. سيكون وتارا مدينا لها بالكثير، خصوصا أنها سعت للدفاع عن شرعيته بقوة.

وعلى الرغم من أن الرجل خلفيته الدين الإسلامي، فإن الجالية العربية، وخاصة اللبنانية، المعروفة بمزاولة نشاطها التجاري لا تدعم وتارا، لأنها تتذكر إبان توليه لرئاسة الوزراء بساحل العاج في تسعينات القرن الماضي، أنه أرهق كاهل تجارها بدفع الإتاوات الضريبية حتى كاد يشل اقتصادهم. إضافة إلى الجالية الموريتانية التي تعتبر من أكبر الجاليات العربية، فإن ولاءها لوتارا غير مضمون لأنها تنظر إليه بكثير من التوجس، مخافة أن يفرض عليها نظام الإقامة بحجة أن موريتانيا خرجت من مجموعة غرب أفريقيا منذ عام 1999، ويفقدون التساهل الذي كانوا يتمتعون به مع الرئيس السابق غباغبو. وإذا كان الرجل وصل، في نهاية المطاف، إلى مبتغاه في تولي قيادة البلاد، بعد مسيرة سياسية أشابت نواصيه، ووهن منها العظم، فإن التحديات أمامه ما زالت كثيرة وكبيرة، ومن أبرزها الانقسام بين الشمال والجنوب، وإنعاش الاقتصاد المشلول، وقدرته على حل الميليشيات ودمجها في الجيش الوطني.

وقد تساعد وتارا على رفع هذه التحديات أشياء، من ضمنها أنه اقتصادي التكوين، وعلاقته الوثيقة بهيئات التمويل الدولية، إضافة إلى دعم المجتمع الغربي ومجموعة غرب أفريقيا. وعلى أي حال، فإنه من المؤكد أن مستقبل ساحل العاج في الفترة المقبلة مرهون برفع هذه التحديات أو عدم ذلك.