أريغوني.. فلسطيني أكثر من الفلسطينيين

كان يردد بالعربية «شهيد شهيد لا مشكلة».. وكان يصوم مع أهل غزة خلال رمضان ويفطر معهم

TT

كان المتضامن الإيطالي فيتوريو أريغوني، الذي قتل في غزة هذا الأسبوع، على يد سلفيين متشددين، فلسطينيا أكثر من كثير من الفلسطينيين أنفسهم.

ترك بلده الأصلي إيطاليا، وجاء إلى قطاع غزة الذي لا تربطه بأهله أي صلات أو دين أو عرق أو قومية، ليقول بصوت عال «لا» لحصار شعب أعزل وتجويعه.

لم يترك غزة أبدا، وحتى عندما رحله الإسرائيليون قسرا في 2008، إلى إيطاليا، بعدما اعتقلوه من عرض البحر، عاد من جديد، وعاش مع أهل القطاع يوما بيوم، وتحت الرصاص الذي صبته إسرائيل على رأس الغزيين في الحرب الأخيرة.

يتذكر الناس يوميات أريغوني بالتفصيل، كيف ارتدى زي المسعفين، وكيف ساعد على إنقاذ الجرحى، وكيف كان يذهب إلى الحدود ويشتبك مع الإسرائيليين، وكيف كان ينطلق إلى عرض البحر مع الصياديين المهددين، وكيف أصيب ذات مرة برصاصة في ظهره..

لم يترك مسيرة حدودية ولا تجمعا ولا مظاهرة ولا جنازة ولا بيت عزاء إلا وشارك فيه. كان يحب الجميع ويحبه الجميع. وكان دائما يقول بالعربية عندما يواجه خطرا إسرائيليا قريبا «شهيد شهيد».

غير أن أريغوني الذي كان يناديه أهل القطاع «فيكتور» لم يكن يعلم أنه سيسقط كما أراد «شهيدا» لكن على يد الفلسطينيين أنفسهم، وشخص آخر أردني. يقول كل من عرف أريغوني، إنهم مطمئنون إلى أنه قضى دون أن يعتقد للحظة أن فلسطينيين قتلوه، وإنما إسرائيليون.

وكان سلفيون اختطفوا أريغوني لمبادلته بأحد قادتهم المحتجزين لدى حكومة حماس، ومن ثم قتلوه بأبشع الطرق الممكنة، شنقا، من دون أن يشفع له أنه ضيف أجنبي متضامن مع غزة، وهو ما أثار غضبا وحزنا فلسطينيا غير مسبوق على أول متضامن يقتل في قطاع غزة بأيد غير إسرائيلية بعد ريتشل كوري وتوم هارنديل اللذين قتلا في عام 2003 بأيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي.

أريغوني هو أول متضامن أجنبي يصل إلى قطاع غزة قبل 3 سنوات، في رحلة بحرية لفك الحصار عن القطاع، وأول أجنبي يقتل في قطاع غزة منذ تولي الفلسطينيين إدارة القطاع عام 1994. ولد أريغوني في «بيسانا بريانزا» القريبة من مدينة ميلانو الإيطالية، من عائلة عرفت بنشاطاتها المؤيدة للسلام، وكان جده ناشطا بارزا في وقته ضد النازية.

زار إسرائيل قبل 9 سنوات، وفي باب العمود، لازمه شعور غريب، مثل صاعقة، كما وصف هو ذلك، وعرف أنه سيقضي حياته في هذه الأرض. انتمى إلى حركة التضامن الدولية الهادفة لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007، ووصل إلى القطاع مع أول دفعة متضامنين تصله في أغسطس (آب) 2008 في قاربين صغيرين.

لفت الانتباه كثيرا عندما سجد وحده من بين رفاقه، شكرا لله على شاطئ غزة عندما وصله، ومن ثم انخرط سريعا في علاقات واسعة مع أهالي القطاع. أصابته إسرائيل مرة عندما كان يبحر مع صياديين فلسطينيين لحمايتهم، في عام 2008، واعتقلته في رحلة أخرى، ورحلته إلى إيطاليا قسرا عبر مطار بن غوريون. لكنه عاد بعدها إلى قطاع غزة وقد وشم ذراعه بكلمة «المقاومة»، وحضر الحرب الإسرائيلية وواصل البقاء في غزة حتى أعلن مقتله في 15 أبريل (نيسان) الحالي.

لديه كتاب ألفه في غزة يسلط الضوء على معاناة أهل القطاع، وعنوانه «غزة.. أن تكون إنسانيا»، وترجم إلى 9 لغات، كما كان ناشطا في كتابة تقارير تنشرها وسائل إعلام أجنبية وإيطالية.

هذه سيرته المختصرة، لكن كيف كان يعيش يومه في قطاع غزة؟

قال المصور الصحافي مجدي فتحي، الذي كان صديق أريغوني، ورافقه لـ3 سنوات ليل نهار، لـ«الشرق الأوسط»، إن أريغوني، كان محبوبا إلى حد كبير، يحب أهل القطاع ويحبونه، ويقضي جل وقته مع الناس، يدردش ويعمل ويوثق ويشاركهم الطعام والنوم. كان مبادرا، يتعرف إلى الناس، ويسأل عن أحوالهم بلغته العربية الركيكة التي اكتسبها أثناء الفترة التي قضاها في غزة. يسال أي شخص، «مرهبا سديكي كيف الهال؟» (مرحبا صديقي كيف الحال)، فيجد أناسا طيبين يبادرونه التحية والسؤال ويستضيفونه كذلك.

وهكذا، كون أريغوني صداقات عددية في غزة. ورغم أنه كان يقيم مع اثنين من أصدقائه المتضامنين في شقة في غزة، فإنه قضى جل لياليه عند أصدقائه الفلسطينيين. وقال مجدي: «كان يحب أن يدعوه أصدقاؤه للنوم أو الطعام، كان يلبي كل الدعوات». كان ينام عند الأصدقاء في البيوت وفي بعض المكاتب الصحافية ومع الصياديين في الميناء وفي بعض الثكنات العسكرية أيضا.

وبحسب مجدي، فإن علاقته بكل الغزيين كانت مميزة، وتحديدا حماس. وقال: «كانت علاقته بحماس جيدة. كانوا يثقون به ومطمئنين له». أحب أريغوني أكل غزة كثيرا، وقال مجدي إنه كان يطلب بشكل خاص أكلة «المجدرة» و«السمك». وبحسب مجدي كان يعشق كثيرا أجواء رمضان، «أتذكر كيف كان يصوم معنا ويتلذذ بالطعام بعد الصيام».

وربما فإن الحالة المادية المتردية لأريغوني كانت أيضا تجبره على ذلك، وقال مجدي «جاء فقيرا ومات فقيرا». كان يتلقى بعض الأموال من كتاباته، وأهم دخل حصل عليه في غزة كان عندما طبع كتاب «غزة: أن تكون إنسانيا».

كان مجدي يجلس مع أريغوني بالساعات يعلمه اللغة العربية، وقال «كان يحب أن يتعلم، كان لا يتقن إلا قليلا من اللغة الإنجليزية، ويريد أن يتعلم العربية بقوة، تعلم بعض الكلمات التي تساعده على التعامل مع الناس، تعلم كلمات (مرحبا وكيف الحال والسلام عليكم)، وأحب كثيرا مصطلح مشكلة، كان يظل يقول اليهود مشكلة». وأضاف «تعلم أيضا كلمة (شهيد)، كنا كلما نحذره من الاقتراب من اليهود على حدود غزة، يشير إلى جسده ويقول «مش مشكلة شهيد شهيد».

تعلق أريغوني بغزة بشكل كبير، وكان يحب الفلسطينيين بشكل أكبر. وروت والدة أريغوني، إيجيديا بيريتا، قصة قد تكون بداية تعلقه بفلسطين، قالت «ما إن بلغ سن الرشد، حتى بدأ يسافر إلى خارج إيطاليا وقد وصل إلى إسرائيل بمحض الصدفة قبل تسع سنوات، قال لي إنه مر بباب العمود ودخل القدس الشرقية فشعر وكأن صاعقة ضربته». وأضافت الوالدة التي تشغل منصب عمدة في إحدى القرى الواقعة بين ميلان وبحيرة كومو تروي، «منذ تلك اللحظة أدرك أن نشاطه سيتركز هناك».

وفعلا تركز نشاطه في غزة، وظل أريغوني متعلقا بها، وحتى عندما أصابه الإسرائيليون في 2008 برصاصة في البحر، ومن ثم رحلوه لاحقا، أصر على العودة إلى غزة، وعاد فعلا على متن سفينة أخرى لكسر الحصار. غير أنه عاد هذه المرة أكثر حبا لغزة وأهلها، وأكثر تحديا للإسرائيليين، وقد وضع على ذراعه، وشم «مقاومة» باللغة العربية.

وقال مجدي «لم يضع الوشم في غزة كما كان يعتقد البعض، لكن في الخارج، بعد أن اعتقله الإسرائيليون مرة من عرض البحر ورحلوه بالقوة إلى إيطاليا، بعدها بشهور عاد على متن سفينة أخرى وكان يضع على ذراعه وشم المقاومة». كان أريغوني يفاخر بهذا الوشم وطلب من مجدي أن يصوره بالوشم في إحدى المسيرات الشعبية.

ترجم أريغوني حبه الشديد لغزة، بأن ظل صامدا هناك ولم يغادر حتى عندما بدأت الحرب الإسرائيلية على القطاع. ارتدى ملابس المسعفين، وكان يتحرك لنقل الجرحى والشهداء، وقال مجدي «لقد شاهد لأول مرة في حياته، أشلاء ودما وجثثا متفحمة، لكن معنوياته كانت عالية للغاية». استغل أريغوني كل ذلك، وراح يكتب عن كل ما شاهده وعايشه في غزة في مدونة خاصة أو على صفحته على «فيس بوك» أو لصحف ومواقع إيطالية، وألف بعدها كتابه الشهير «غزة: أن تكون إنسانيا». أردف مجدي «لقد خدم غزة كثيرا، لعنة الله على الذين قتلوه».

شجع حب أريغوني الشديد لغزة وأهلها، بعض أصدقائه لدعوته إلى الإسلام. ولا يخفي مجدي ذلك، وقال «كان يرد حينها بقوله، لا إله إلا الله ويصمت». وأوضح «لم يدخل الإسلام، لكنه كان وطنيا كبيرا وإنسانيا أكبر».

لفتات أريغوني الإنسانية كانت كثيرة. لعل آخرها مساعدة أسرة ناصر أبو سعيد الذي قضت زوجته بقصف إسرائيلي في وقت سابق في منطقة جحر الديك جنوب مدنية غزة. وقد نجح في توفير دعم لبناء بيت للأسرة بالإضافة إلى ثمن العلاج لعدد من أفرادها. كما كان أريغوني قد رتب قبل موته تنظيم رحلات بحرية لمراقبة الانتهاكات الإسرائيلية ضد الصيادين الفلسطينيين بقارب يحمل اسم «أوليفا»، أي الزيتون. وقبل يومين دشن رفاقه الأجانب القارب، وانطلقوا إلى عرض البحر وفاء لأريغوني.

وقال مجدي «كان إنسانيا بشكل كبير، فلسطينيا أكثر من بعض الفلسطينيين، زارني قبل اختطافه بساعات، احتضنني وقبلني وقال لي إنه سيسافر إلى إيطاليا، وكان ما كان».

أما الذي كان، فإن مجموعة من السلفيين المتشددين، أطلقت على نفسها جماعة «الصحابي الهمام محمد بن مسلمة» أعلنت فجأة في 14 أبريل اختطاف أريغوني، وطالبت ما يسمى بحكومة (إسماعيل) هنية المحاربة لشرع الله.. بالإفراج عن جميع معتقلي السلفية الجهادية وعلى رأسهم الشيخ هشام السعيدني، الملقب بـ«أبو الوليد المقدسي».

وهددت الجماعة في فيديو بأنه في حال لم يتم تنفيذ مطالبها خلال أقل من 30 ساعة فسيتم تنفيذ حكم الإعدام بحق الرهينة الذي ظهر معصوب العينين في الفيديو وتغطي وجهه الدماء. وقالت «نعلمكم بأنه إذا لم يتم تنفيذ مطالبنا على وجه السرعة وفي خلال أقل من 30 ساعة من تاريخ 14 أبريل بدءا من الساعة الـ11 صباحا فسيتم تنفيذ الإعدام في هذا الأسير بعد انتهاء المهلة».

وفعلا نفذ القتلة تهديداتهم تماما، وعُثر على أريغوني مشنوقا في أحد المنازل المهجورة شمال مدينة غزة، في تحد واضح لحكومة حماس. وقال السلفيون الذين تنصلوا من العملية وادعوا أنها عمل فردي، إن ما حدث هو نتاج طبيعي للسياسة التي تنتهجها الحكومة المقالة ضد السلفيين.

إذن، انتقم السلفيون من حماس بقتل أريغوني، متهمين إياها (حماس) بالتعاطف مع «النصارى والشيعة والعلمانيين»، في وقت تواصل فيه «التضييق والملاحقة والتنكيل بكل من يثبت صلته بأي عمل جهادي سلفي». واعترف مسؤول سلفي كبير لـ«الشرق الأوسط» بأن سلفيين هم الذين قتلوا أريغوني، فعلا، لكنه أصرّ على أنهم قتلوه «بشكل فردي ومن دون أن يتلقوا أي أوامر من مسؤوليهم»، واصفا ذلك بالمرفوض تماما.

أما حماس فردت سريعا بعد يومين، بمحاصرة منزل 3 متهمين بقتل أريغوني، وطالبتهم بالاستسلام، قبل أن تعلن مقتل اثنين منهم، بينهم عبد الرحمن البريزات (الأردني) المتهم بقتل أريغوني. وقالت الداخلية المقالة إن البريزات قام بإلقاء قنبلة يدوية على رفيقيه أدت إلى إصابتهما إصابة متوسطة، وقام بعد ذلك بإطلاق النار على رأسه من مسدسه الخاص، معتبرة ذلك بمثابة «درس مهم لكل من تسول له نفسه العبث بالوضع الأمني في القطاع».

أما أريغوني نفسه، فكان قد طار محمولا في تابوت من غزة التي أحبته وأحبها إلى بلاده التي تحبه، إيطاليا، بعدما طلبت عائلته دفنه هناك. انطلق موكب التشييع من مستشفى دار الشفاء بمدينة غزة، بكى الرجال والنسوة والأصدقاء، وهم ينظرون نظرة الوداع الأخيرة على أريغوني، ويرمون على جثمانه حبات الرز والملح.

ارتدى الغزيون قمصانا سوداء كتب عليها «بنحبك يا أريغوني» وهتفوا خلف جثمانه، «يسقط الإرهاب»، حتى وصلوا إلى معبر رفح البري وهناك راحوا يهتفون «يا إرهابي يا خسيس دم فيكتور مش رخيص». وقالت الناشطة الفلسطينية مجد أبو سلام «إن أريغوني كان فلسطينيا أكثر من الفلسطينيين، كان يوصل معاناتنا بطريقة لا يتقنها كثيرون منا، كان دائم الابتسام وأكثر من يحزن لآلامنا».

وقالت صديقة أريغوني المحامية كلاوديا ميلاني: «إن لحظة وداع أريغوني كانت صعبة للغاية». وما زالت حتى الآن تعيش في حالة من الذهول والصدمة لما ألم به وهو الذي يؤمن بالسلام والعدل والطمأنينة في ربوع العالم بأسره.

أما والدته، فهي لم تصدق خبر مقتله، وقالت: «ابني لم يضع نفسه في حالات خطرة وكانت حياته آمنة بين الفلسطينيين، وكان يتصل بي كل يوم أحد ويبدو عليه الهدوء دائما». وأضافت: «عندما تم اختطافه، كان على وشك أن يعود لإيطاليا للاحتفاء بذكرى الناشط السياسي جوزيبي أيمباستاتو الذي اغتالته المافيا عام 1978».

ونقلت وسائل إعلام إيطالية عن بيريتا قولها: «أريد أن أرى غزة التي آمن ابني بها وضحى من أجلها، وأقابل أهلها الطيبين الذين طالما حدثني عنهم، لأؤكد لهم أن مسيرة فيتوريو ستتواصل وأن الكثير من أصدقائه سيكملون مشواره».