الشرطية التي أشعلت غضب التونسيين

تقضي فترة نقاهة في منزل العائلة بعد خروجها من السجن.. ولا تزال تتساءل ما إذا كانت مذنبة بصفع البوعزيزي

TT

لا أحد كان يعلم شيئا عن مدينة سيدي بوزيد ولا عن أهلها ولا عن طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية السائدة في المنطقة منذ عقود.. إلا بعد إحراق محمد البوعزيزي نفسه أمام الملأ على أثر صفعة من قبل شرطية تدعى فادية حمدي، لم يكن أحد كذلك يعلم عنها شيئا.

وتسارعت الأحداث بسرعة لتضع الاثنين البوعزيزي وفادية وجها لوجه، ومالت الكفة في البداية لصالح محمد البوعزيزي وانتقل حادث إضرام النار في جسده من صفحات الحوادث إلى صفحات التاريخ، الذي غير الوجه السياسي لتونس بعد 23 سنة من الحكم الحديدي. وبقيت فادية حمدي في الظل، واتهمت اتهاما رسميا منذ يوم 31 ديسمبر (كانون الأول) الماضي بأنها أهانت البوعزيزي وتجاوزت سلطات عون التراتيب. ولم يسمع أحد صوتها لمدة قاربت الثلاثة أشهر، بعدها أطلقت العائلة أصواتها في كل الاتجاهات مطالبين بالإفراج عنها باعتبارها ضحية النظام السابق وضحية تعسفه في تطبيق القوانين على العاطلين عن العمل ممن يبحثون عن لقمة عيش. وبالفعل فقد أطلق سراحها يوم 19 أبريل (نيسان) الحالي.

تخرج فادية كل صباح من منزل العائلة بمدينة المكناسي التابعة لولاية سيدي بوزيد الواقعة على بعد 265 كلم عن العاصمة، لتتجه إلى مقر البلدية بالمدينة حيث تلتقي زملاءها في العمل. وغالبا ما يقع وضع برنامج متكامل لمحاصرة المخالفين للتراتيب القانونية وخاصة منهم ما يطلق عليهم في تونس الناشطون عن طريق الانتصاب الفوضوي في الشارع، وعددهم كثير بالنظر لجحافل العاطلين عن العمل من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية. وهي تعنى مثل بقية زملائها، بالعمل على تنفيذ القوانين في المناطق البلدية على غرار مراقبة البناء الفوضوي والدكاكين ومدى احترامها للقوانين البيئية، وكذلك منع البيع على أرصفة الطرقات، وملاحقة الباعة غير المرخص لهم وحجز بضاعتهم وتحرير محاضر ضدهم، إلى جانب المطالبة بإزالة كافة المخالفات في منطقة تدخلاتها.

تعمل فادية وفق التوقيت الإداري البلدي، أي من الساعة التاسعة إلا الربع صباحا إلى الساعة الواحدة ظهرا. وتتمتع براحة من الواحدة إلى الثالثة ظهرا حينها ترجع إلى العمل الذي يتواصل إلى الساعة السادسة إلا الربع مساء. ويتواصل هذا التوقيت من يوم الاثنين إلى يوم الخميس، لأن الجمعة والسبت تعمل خلالهما بنظام الحصة الواحدة من الساعة الثامنة صباحا إلى الساعة الواحدة ظهرا.

ذكرنا هذا التوقيت لنبين أنها يوم 17 ديسمبر الماضي، وكان يوم جمعة تعمل خلاله فادية بنظام الحصة الواحدة، وقد استرجعت فادية لـ«الشرق الأوسط» كل تفاصيل ذاك اليوم. فقالت إنها كانت ترتدي زي العمل الرسمي الذي ظهر مع صورتها في أكثر من مكان وهي تحرص على الخروج إلى العمل بذاك الزي الذي يحفظ لها هيبتها أمام الباعة وأصحاب العربات. تقول: «أعرف محمد البوعزيزي ولم تكن المرة الأولى التي أشاهده مع عربة الغلال، وقد حرر بشأنه في السابق عدة مخالفات باعتبار يبيع الفواكه دون ترخيص قانوني وهو ليس الوحيد في المنطقة. كنت أغلب نفسي في أكثر من مناسبة وأحتار كيف سأتعامل مع هؤلاء الناس (الغلابة) الفقراء المعدمين الذين يسعون إلى كسب قوتهم بعرق جبينهم».

تضيف فادية: «ولكن الواجب المهني ضروري في مثل هذه المواقع، ولا بد من تطبيق القانون بصرامة لأن أصحاب المحلات والباعة الآخرين للخضر والفواكه يطالبوننا بإجلاء الباعة الفوضويين، وحجتهم في ذلك أنهم يدفعون الضرائب مقابل عملهم في محلات قانونية، في حين أن الباعة، ومن بينهم محمد البوعزيزي، لا يدفعون شيئا للحكومة ويبيعون بضاعتهم بأسعار أرخص وهذا مضر بهم وبمهنتهم». في مثل هذه الظروف تقول فادية «يجد عون التراتيب نفسه بين نارين، فإما أن يقسو قليلا على الباعة ويلجم نهمهم وانتشارهم في كل أركان المدينة، وإما أن يتهم من قبل رؤسائه في العمل بأنه لا يؤدي واجبه على أحسن وجه، وفي ذلك تبعات وشبهات».

تواصل فادية حديثها موضحة، في الحقيقة يغض عون التراتيب الطرف في بعض الحالات عن بعض التجاوزات البسيطة، ولكنه مطالب بتطبيق القوانين الصارمة، وعليه في نهاية كل زيارة ميدانية أن يحرر محاضر الزيارة، وأن يقدم لرؤسائه حصيلة ما لاحظه خلال الزيارة، وأن يحجز آلات الوزن والبضاعة التي كانت معروضة كحجة على أن الزيارة قد تمت بالفعل وأن نتائجها ظاهرة للعيان. وتقول: «صرامة القوانين وسعي السلطة القائمة إلى تطبيقها بحذافيرها هي التي تجعل عون التراتيب في مواجهة قدره، وهو مهدد بكل المخاطر، لذلك عادة ما أخرج مع أكثر من زميل من الرجال حتى نتمكن من محاصرة ردود الفعل القوية، لأننا في نهاية المطاف قد نجد أنفسنا نهدد قوت عائلات بأسرها، ونحن ليست في أيدينا أي حيلة نلجأ إليها».

في حالة البوعزيزي المعروف في أوساط العائلة والجيران باسم «بسبوس» كاسم للدلع، تقول فادية إنها وجدت نفسها «في مواجهة نفس القصة التي ألوكها منذ 11 سنة من مزاولة وظيفة عون التراتيب البلدية». وتضيف: «هي سلطة بأيدينا ولكن تطبيقها يثير الكثير من المشكلات اليومية التي نعانيها في صمت. لقد حجزت له ميزان العمل حتى لا يواصل النشاط، ولكن رد فعله كان عنيفا على غير العادة. فقد حرر له أعوان التراتيب في السابق محاضر مخالفات لا تتجاوز العشرة دنانير تونسية (نحو 7 دولارات أميركية) ولكن يبدو أنه لم يستسغ خلال ذاك اليوم أن أحرر له أنا فادية حمدي محضر المخالفة، وربما كانت في نيته أنه من العيب أن يكون ضحية امرأة حتى ولو كان في إطار محضر مخالفة محرر بصفة قانونية، وأن المخالفة مسجلة ضده ولا مجال فيها للإنكار، فكانت الواقعة».

أدى فعل نادية بالبوعزيزي إلى إضرام النار في جسده. وقد صرحت منوبية البوعزيزي، والدة البوعزيزي، لوسائل الإعلام مطالبة بصرامة «أريد أن أرى الشرطية التي ضربت محمد، لأسألها عن الظلم الذي اقترفته، ثم محاكمتها علنا أمام الشعب». أما فوزي حمدي، شقيق فادية، فهو يقول عن أخته «لقد أمضت ربيع عمرها في القيام بوظيفة (مراقبة عون تراتيب) وقد حُمّلت ذنب النظام الذي كان سخط التونسيين موجها ضده، السخط هو ما أشعل الثورة ضد النظام المتهالك»، وليست أخته «الغلبانة»، كما وصفها.

لكن سالم شقيق محمد البوعزيزي فهو قد قال بمجرد حصول الحادثة: «أريد ملاحقة «فادية» ومحاكمتها أمام الرأي العام ليس التونسي فقط بل أمام الرأي العام الدولي». ويضيف «لن أتركها تفلت مني». ولكن عائلة البوعزيزي بمختلف أفرادها عادت وأسقطت الدعوى القضائية أمام المحكمة التونسية وقالت إنها لا تود أن تتابع فادية قضائيا، وهذا الانقلاب في المواقف من النقيض إلى النقيض فسره البعض بأن العائلة بعد أن استرجعت هدوءها اقتنعت أن عون التراتيب لا ناقة له ولا جمل فيما حصل.

فادية معروفة بوداعتها ولكن أيضا بصرامتها. يقول عنها الخيري مشي، أحد زملائها في العمل: «فادية زميلتي وهي من عائلة زوالية (متواضعة الحال) وهي دائما تتقن عملها وهي ذات سمعة طيبة بين زملائها». ويضيف أن «إتقان العمل في مثل هذه الحالات هو إنزال الميزان من الكفة الأخرى وتحرير أكثر ما يمكن من محاضر المخالفات ضد العاطلين والباعة المهمشين».

حمدي التي تبلغ من العمر 46 عاما، هي تحتل مرتبة وسطى من بين ثمانية أشقاء، تقول إنها «قضت أفضل سنوات عمرها في إعانة عائلتها ورفع أذن القفة مع والدها»، كما عبرت عن ذلك، وهي تتقاضى مرتبا شهريا لا يتجاوز 450 دولارا أميركيا (نحو 630 دينارا تونسيا)، تقول إنه «مرتب متوسط يفي بالكاد بالحاجة مقابل وظيفة بدأتها منذ سنة 1999». إلا أنها تؤكد أن الوضعية العائلية «مستورة والحمد لله». تقول «من الصعب أن أفارق وظيفة شغلتها منذ قرابة 11 عاما دون انقطاع ولا أظن أنني سأجد عملا آخر بسهولة أنا التي لا تحمل مؤهلا جامعيا يجعلني أطرق أبواب أخرى». وتؤكد أنها ستسترجع نشاطها في القريب العاجل بعد أن تتعافى من مخلفات الأيام الصعبة التي مرت عليها.

هل كانت فادية كبش فداء أراد النظام التونسي السابق أن يلصق بها كل مظاهر الفساد الاجتماعي والاقتصادي وأن حبسها لم يكن إلا إرضاء واستجابة لمطالب المتظاهرين الذين ملأوا الشوارع والساحات؟ وهل تم اقتياد فادية حمدي إلى غياهب السجن إرضاء للمحتجين، خاصة أن الجهات الأمنية تؤكد أنه لا يوجد من الناحية القانونية أية تهمة ضد فادية أو اتهام بأي جرم؟

جيران عم الطاهر حمدي (والد فادية المتقاعد من الشرطة منذ سنة 1987) لم يقتنعوا كما يقول بأن ابنته كانت مخطئة، لذلك ومنذ اليوم الأول لحبسها كانوا متعاطفين مع عائلته، والجيران كانوا متسامحين مع العائلة في الضجيج الإعلامي الذي أثارته عملية الاحتراق والبحث عن المتسببين في العملية. ولكن يبدو أن الإطاحة بنظام بن علي هي التي عجلت بإطلاق سراحها، ويقول: «وضحت الصورة واتضح أن ابنتي كانت ضحية مؤامرة محبوكة الأحداث تدور كلها وترجع إليها. هي كبش فداء للثورة في مرحلة ما ولكنها كذلك وربما هذا ما لا يعرفه الكثير من التونسيين قد ساهمت بدورها في إشعال الثورة بتطبيقها لبعض القوانين الجائرة التي أرساها نظام بن علي الظالم للشباب العاطل والمقدر في سيدي بوزيد لوحدها بعشرات الآلاف والبوعزيزي واحد منهم».

تقول فادية الآن: «دخلت السجن بقرار سياسي وخرجت منه بحكم قضائي». تعتبر نفسها الحلقة الأضعف في تلك الأحداث، لذلك طالتها كل المظالم وبقيت دون محاكمة. وتؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن عملية حبسها كانت بأمر رئاسي من قبل الرئيس المخلوع، وأن محمد الغنوشي رئيس الوزراء في آخر أيام بن علي بكى لما سمع بقرار سجنها إلا أنه لم يقدر على فعل أي شيء. فادية تقضي الآن أيامها في مدينة المكناسي في فترة نقاهة ومنزل العائلة لا يهدأ طوال اليوم. فالمهنئون بالسلامة بالمئات يوميا كما أن كل الأضواء الإعلامية مسلطة عليها وهي الآن تستعيد الكثير من حقها الذي تقول إنه كاد يهدر لولا العدالة الإلهية. بعد أيام من خروجها من السجن، تقول فادية إن كابوسا مؤلما قد مر فوق دماغها فجعلها لا تدرك لفترة طويلة حقيقة ما يجري وأنها كانت تتساءل ألف مرة وهي وراء القضبان «هل كنت مخطئة؟ هل كنت مذنبة؟ وإذا كنت كذلك فما هو الذنب الذي اقترفته؟».

في نهاية المطاف رجت فادية حمدي أن نشير إلى أن اسمها الحقيقي هو «فايدة» وليس «فادية»، كما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة، وهي اليوم تطالب الجميع بتصحيح اسمها.