عسكرة «سي آي إيه»

إسناد رئاسة الوكالة الأميركية إلى الجنرال بترايوس أثار جدلا.. ومخاوف من استيلاء وزارة الدفاع عليها

TT

في الأسبوع الماضي، اختار الرئيس الأميركي باراك أوباما الجنرال ديفيد باتريوس، قائد القوات الأميركية في أفغانستان، مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، خلفا للمدير الحالي ليون بانيتا الذي اختاره أوباما وزيرا للدفاع، خلفا للوزير الحالي روبرت غيتس الذي سوف يتقاعد بعد شهرين.

وكان أول ما لاحظه المراقبون في واشنطن هو إسناد مهمة رئاسة الوكالة «المدنية» إلى عسكري؛ إذ إن هذا ليس بالأمر العادي خاصة بالنسبة لوكالة مدنية مثل «سي آي إيه»، لا سيما في العصر الحديث، وذلك أن «سي آي إيه»، عندما تأسست قبل 60 سنة كانت تعتبر عسكرية، وجزءا من وزارة الدفاع، وكان اسمها «مكتب الخدمات الاستراتيجية»، ويشار إليه بأحرف «أو إس إس».

لكن، بعد سنوات قليلة، صارت الوكالة مدنية، وصار مديروها مدنيين، إلا قبل الأخير: الجنرال مايكل هايدن، الذي أثار تعيينه ضجة كبيرة. والآن يعيد تعيين الجنرال باتريوس الضجة مرة ثانية. وحسب الخريطة السياسية الأميركية، يظل قادة الحزب الديمقراطي أكثر معارضة من قادة الحزب الجمهوري في اختيار عسكري ليقود «سي آي إيه»، أو أي جهاز مدني آخر، أو عسكرة الحكومة، أو عسكرة الثقافة الأميركية.

لهذا، في سنة 2006، عندما اختار الرئيس السابق جورج بوش الابن (الجمهوري) الجنرال هايدن ليقود «سي آي إيه»، شن قادة الحزب الديمقراطي حملة عنيفة كادت أن تسبب انسحاب الجنرال:

أولا: قالت رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، ديان فينشتاين (ديمقراطية من ولاية كاليفورنيا): «لا يمكن أن تكون هناك سيطرة عسكرية على الجوانب الرئيسية للاستخبارات. وكالة المخابرات المركزية وكالة مدنية، والهدف منها أن تكون وكالة مدنية».

ثانيا: قالت عضو لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، جين هارمان (ديمقراطية من ولاية كاليفورنيا): «أسمع مخاوف من المهنيين داخل وكالة المخابرات المركزية من أن وزارة الدفاع تريد الاستيلاء على العمليات الاستخباراتية».

ثالثا: قالت نانسي بيلوسي، التي صارت لتوها رئيسة لمجلس النواب آنذاك (ديمقراطية من ولاية كاليفورنيا): «لا أرى كيف يمكن أن يعمل جنرالا بأربعة نجوم مع المهنيين المدنيين في وكالة الاستخبارات المركزية».

لكن المفارقة أن أوباما الديمقراطي اختار الأسبوع الماضي عسكريا لرئاسة «سي آي إيه». ورغم أن ديمقراطيين انتقدوا ذلك سيرا على منطق زملائهم نفسه قبل خمس سنوات، فإن النقد قل عما كان عليه سابقا. وفي الجانب الآخر، رحب كل قادة الحزب الجمهوري تقريبا بالقرار.

وقال مراقبون في واشنطن إن قادة في الحزب الجمهوري كانوا يريدون أن يكون بترايوس وزيرا للدفاع، وإنهم نقلوا هذا الاقتراح إلى أوباما. لكن، لم يجد الاقتراح قبولا من الرئيس الأميركي، ومن قادة الحزب الديمقراطي. وذلك لأكثر من سبب:

أولا: لم يعد سرا أن هناك جفاء بين أوباما وبترايوس، منذ قبل سنتين عندما انتقد بترايوس أوباما بطريقة غير مباشرة. وقال إنه لا يريد زيادة عدد القوات الأميركية في أفغانستان (في وقت لاحق، زاد أوباما عدد القوات).

ثانيا: لم يعد سرا أن بترايوس، الذي يميل نحو الحزب الجمهوري، له طموحات سياسية. وكان لعب دورا كبيرا في القضاء على المعارضة العسكرية للقوات الأميركية في العراق، ولهذا، يقول أنصاره إنه يمكن أن يدعي أنه قائد النصر في العراق (حتى أكثر من بوش).

ثالثا: لم يعد سرا أن أوباما يريد تخفيض ميزانية البنتاغون، التي تضاعفت خلال السنوات العشر الماضية، منذ هجوم 11 سبتمبر (أيلول). ولا يتوقع أوباما من الجنرال بترايوس أن يتحمس لذلك إذا ما صار وزيرا للدفاع.

وبالنسبة لاختيار الجنرال لقيادة «سي آي إيه»، توجد وجهتا نظر: في جانب، يقول معارضوه إنهم يعارضون لأكثر من سبب: أنه لا يملك خبرة في الوكالة. وإنه سينفر المدنيين منها، وإن شخصيته مشهورة بالاستعلاء، وإن الوكالة، عبر تاريخها، تخاف من سيطرة العسكريين. وإن منافسة الوكالة للبنتاغون في جمع المعلومات ستقل، والمطلوب أن تزيد. وإن هذا سيكون بداية عسكرة الوكالة ليستمر عسكريون بقيادتها في المستقبل.

في الجانب الآخر، يقول متحمسون للجنرال إن «سي آي إيه» سوف تستفيد منه لأكثر من سبب: أنه تعاون معها عندما كان في العراق وفي أفغانستان، وإنه ليس عسكريا فقط وحصل على شهادات في العلوم السياسية والاقتصاد، وإن الحرب ضد الإرهاب صارت حرب استخبارات أكثر منها حرب مواجهات عسكرية.

لكن، يتفق الجانبان والمراقبون على حقيقة أن «سي آي إيه» صارت تضطلع بمهمات أكبر مما كانت عليه في أي وقت مضى، وصارت كامتداد للقوة الأمنية العسكرية الفتاكة.

فقد صارت فرق «سي آي إيه» تعمل جنبا إلى جنب مع قوات العمليات الخاصة التابعة للقوات الأميركية المسلحة.

وآخر مثال لذلك تعاونها مع الفرقة التي قتلت أسامة بن لادن، مؤسس وزعيم تنظيم القاعدة. بعد قتل بن لادن، قال مصدر في البنتاغون، إن فرقة الكوماندوز حافظت على سرية عملياتها خلال سنوات كثيرة. وإنها تعاونت في ذلك مع «سي آي إيه»، وكأنه يشيد بالتعاون، وبمزية «سي آي إيه» في المحافظة على أسرار عملياتها.

وقال مصدر إنه حتى كبار المسؤولين الأميركيين لم يبلغوا بخطة قتل بن لادن إلا في السنة الماضية. وأن الخطة لم تكن عسكرية فقط، وكانت أيضا استخباراتية لجمع المعلومات وتتبع خيوطها.

غير أن فرقة الكوماندوز التي قتلت بن لادن (التي تعاونت معها «سي آي إيه») لم تسلم من الأخطاء خلال البحث عن بن لادن. منها قتل البريطانية ليندا نورغروف في السنة الماضية في أفغانستان. كانت ذهبت إلى هناك لتقديم خدمات إنسانية، عندما خطفها رجال طالبان. وشنت الفرقة هجوما لإطلاق سراحها. وبينما قالت بيانات الفرقة الأولى إن الخاطفين قتلوها عندما اقتربت منهم قوات الكوماندوز، اعترفت بيانات لاحقة بأن الكوماندوز هم الذين قتلوها خطأ خلال العملية. لكن، تنصلت «سي آي إيه» من المسؤولية بطريقة دبلوماسية، وكأنها تقول إن الخطأ لم يكن في جمع المعلومات، ولكن كان في التنفيذ.

ويبدو أن فرقة الكوماندوز لا تقل سرية عن «سي آي إيه». وهي، حسب مصدر البنتاغون، تتكون من بضع مئات فقط ورئاستها في ولاية فرجينيا. وتطلق على نفسها اسم «المهنيون الهادئون»، إشارة إلى أنها تخلط بين العمل والتفكير.. بين القتل والتخطيط.

ولأن الفرقة تعمل في كثير من الأحيان، مع «سي آي إيه»، تسمى أحيانا «الحرس الإمبراطوري للوكالة». وبدأت الشراكة بينهما في العراق. وعلى الرغم من أن الجزء الأكبر من قوات الكوماندوز هذه موجود في أفغانستان، فإن فرقا فرعية منها داهمت أهدافا في دول مثل اليمن والصومال في السنوات الماضية. ويقول نعوم تشومسكي، أستاذ في معهد ماساجوستس للتكنولوجيا، ومن كبار المعارضين للقوة العسكرية الأميركية المتزايدة، عن عسكرة «سي آي إيه»: «من قال إن (سي آي إيه) مدنية؟ إنها تعتقل وتسجن وتقتل دون إذن من أي محكمة. ما الهيئة المدنية الأميركية التي تفعل ذلك؟ نعم، القوات الأميركية المسلحة تفعل ذلك، ولهذا يجب أن نقول إن (سي آي إيه) ليست مدنية ولا تخضع للقوانين المدنية».

في حين قال مايكل مور، المخرج السينمائي الذي أخرج فيلما وثائقيا عن هجوم 11 سبتمبر (أيلول)، وفيه انتقاد كثير للوكالة: «حتى القوات الأميركية المسلحة لا تقدر على تأسيس سجون سرية في دول أخرى. هذه منظمة عسكرية أكثر من العسكريين أنفسهم»، في إشارة إلى أن «سي آي إيه» نقلت متهمين بالإرهاب إلى سجون سرية في شرق أوروبا، حتى كشفت ذلك صحيفة «واشنطن بوست» سنة 2005، رغم معارضة الرئيس السابق بوش الابن، وقوله إن الكشف «سوف يدمر قدرتنا على جمع المعلومات المهمة للأمن الوطني».

وقالت إيمي غودمان، مديرة مركز «ديموغراسي ناو» (الديمقراطية الآن): «الفرق بين القوات الأميركية المسلحة و(سي آي إيه) هو أن الأولى منظمة، وعلنية، ولها ميزانية تناقش كل سنة في الكونغرس، بينما الثانية سرية، ولا نعرف ميزانيتها، ولا نعرف العاملين فيها».

وكان يمكن لهؤلاء الناقدين أن يضيفوا أن «سي آي إيه» بدأت عسكرية. في سنة 1947، حسب قانون من الكونغرس وقع عليه الرئيس هاري ترومان، تأسست «سي آي إيه» بعد أن كانت «أو إس إس». وكانت «أو إس إس» تأسست سنة 1945، والفضل يعود في ذلك إلى الجنرال ويليام دونوفان الذي كان ضابطا في الحرب العالمية الأولى، ثم صار جنرالا في الحرب العالمية الثانية.

خلال سنتين، تبادل أربعة جنرالات رئاسة الوكالة. وبينما كان بعضهم يريدها أن تستمر عسكرية تحت إدارة وزارة الدفاع، فضل مؤسسها دونوفان أن تتحول إلى مؤسسة مدنية. وكتب دونوفان إلى الرئيس فرانكلين روزفلت بأن الوكالة الجديدة «ستقوم بتوفير الاستخبارات بالطرق العلنية والسرية. وسوف توفر التوجيه الاستخباراتي للرئيس. وسوف تحدد الأهداف الوطنية للاستخبارات. وسوف تقدم المواد الاستخباراتية التي تجمعها إلى الوكالات الحكومية المعنية»، في إشارة إلى وزارة الدفاع.

واقترح دونوفان أن تكون للوكالة سلطة إجراء «عمليات تخريبية في الخارج». (كلمة «سبفيرسيف» يمكن أن تترجم إلى «تخريبية» أو «سرية» أو الاثنين معا).

لكن، تعهد دونوفان بأن الوكالة لن تكون لها سلطات (تنفيذ أي إجراءات قانونية، أو مهام الشرطة سواء في الداخل أو في الخارج).

الذي يزور رئاسة «سي آي إيه» في ضاحية لانغلي في ولاية فرجينيا، عبر نهر بوتوماك من واشنطن العاصمة، يرى في المدخل، شعار الوكالة وارتفاعه عشرون قدما، و83 نجما لكل واحد من عملاء الوكالة الذين قتلوا خلال العمليات السرية، بالإضافة إلى عبارات توضح أن مهمة الوكالة هي «القيام بعمليات سرية تخريبية ضد دول أجنبية معادية، أو جماعات، أو لدعم دول أجنبية صديقة، أو جماعات».

ومنذ تأسيسها، حصلت على إذن من الكونغرس لتكون وكالة غير عادية تتمتع بما يلي:

أولا: تكون ميزانيتها سرية.

ثانيا: تستثنى من معظم القيود المفروضة على استخدام أموالها.

ثالثا: تعفى من قيود كشف الوظائف، والمسؤولين، والعناوين، والرواتب.

رابعا: تتصرف في حرية في مواضيع تخديم الأجانب، ونقلهم إلى الولايات المتحدة «خارج إجراءات الهجرة العادية، فضلا عن منح هؤلاء الأشخاص الدعم الاقتصادي».

وهكذا، يبدو أن «سي آي إيه»، إن لم تكن وكالة عسكرية، فهي ليست وكالة مدنية مثل بقية الوكالات، غير أن تعيين جنرال لقيادتها لا بد أن يزيد ميلها نحو العسكرية.