نساء العرب.. والسياسة

د. محمد عبد الستار البدري *

TT

كثيرا ما تتردد عبارة مفادها أن تاريخنا العربي والإسلامي مفرغ من العنصر النسائي وأننا اكتفينا فقط بالعنصر الذكوري لنكون ثقافة ذكورية ماحية للبعد الأنثوي، ويدلل أصحاب هذه العبارة عليها بأن التاريخ العربي لم ينجب لنا قيادات أو شخصيات أنثوية بارزة نقدمها نموذجا، بل يتمادون في ذلك مؤكدين أن دور المرأة في صناعة التاريخ يقرب من العدم وأنها كانت على مدار قرون طويلة وسيلة المتعة والإنجاب للرجال.

هذا الطرح في اعتقادي يحمل نوعا من الافتراء على ثقافة عريقة وممتدة، كما أنه ينم عن سطحية عفوية لمردديه، وفي التقدير أن جزءا كبيرا من ذلك يرجع إلى أنهم لم يقرأوا كواليس التاريخ العربي والإسلامي، إضافة إلى أن دور المرأة في صناعة التاريخ لم يكن العرف المتواتر سواء في شبه الجزيرة العربية أو أوروبا أو آسيا، مع وجود استثناءات بطبيعة الحال.

ولكن قبل الخوض في هذا الأمر، فإن علينا أن نعترف بحقيقة مهمة وهي أن المرأة لم تمنح في التاريخ العربي والإسلامي المؤسسية في صناعة القرار السياسي، فلم يتملكن ولم يقدن من الناحية السياسية، وهذه حقيقة ثابتة لا خلاف عليها، ولكني أدعي أنهن أثرن بشكل غير مباشر في مسيرة التاريخ العربي والإسلامي من خلال تأثيرهن على مؤسسة صناعة القرار سواء كانت ممثلة في الخليفة أو السلطان أو الحاشية أو البلاط السلطاني، بل إن لهن دورا حاسما في عملية ترشيح أولياء العهود خاصة خلال حكم الدولة العباسية عندما توغلت العناصر غير العربية من النساء في الشؤون السياسية.

لعل هذا يبرر السطحية غير المقصودة لمن هم من غير العرب والذين يتهمون النساء بعدم لعب دور في التاريخ الإسلامي، فلا بد للقارئ، خاصة الغربي، أن يطلع على كواليس وتفاصيل التاريخ ليعرف هذا الدور، واعتقادي أنهم سيغيرون من حدة رأيهم بشكل كبير.

البداية يجب أن تكون من خلال تقديم شخصية مثل هند بنت عتبة، واعتقادي أنها من أكثر الشخصيات النسائية التي أثرت في التاريخ الإسلامي ولعبت دورا حاسما في تطوره سواء سلبا أو إيجابا؛ فلقد كانت من أشد المعارضين للإسلام ولنبيه، ويدها في غزوة أحد ظاهرة، كما أن بصماتها على زوجها وجيه مكة أبو سفيان بن حرب لا تخفى، ناهيك بكونها أم الخليفة الأموي الأول وداهية العرب معاوية بن أبو سفيان الذي كان لها دور مهم في تثقيفه سياسيا، وتاريخها السلبي يضاهيه أيضا تاريخ ناصع بعد اعتناق الإسلام خاصة دورها في معركة اليرموك عندما تصدع أحد أجنحة الجيش الإسلامي أمام ضغط جيش الروم الذي كانت فيه أغلبية أموية، فخرجت بالعصا تقود النساء لتنشد شعرها الشهير «نحن بنات بني طارق..» وتضرب مع النساء رجالهن ليعودوا لساحة القتال، وقد كان من المعروف أن زوجها أبو سفيان لم يخش شيئا كما كان يخشى لسان زوجته، خاصة إذا ما كان على الملأ.

لعل المثال الثاني أيضا كان لشخصية تاريخية في الحقبة الزمنية نفسها ولكنها ذهبت لأبعد من بنت عتبة، وهي «خولة بنت الأزور» أخت الفارس الأسود المغوار ضرار بن الأزور، التي كانت تحارب على قدم المساواة مع الرجال في الميدان، وكانت تبهرهم بشجاعتها ومهارتها في فنون القتال، وهي نموذج ضمن نماذج أخرى ينفي تهمة أن المسلمات لم يحاربن مع الرجال.

لعل مثال السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها مثال قاطع على دور المرأة في حركة التاريخ السياسي الإسلامي، فدورها أكبر الأمثلة على دور المرأة في التاريخ الإسلامي، فدورها في نقل الأحاديث النبوية الشريفة وقيمتها العظيمة زوجة للنبي (صلى الله عليه وسلم) وابنة للخليفة الأول ودورها الكبير أثناء معركة الجمل.. إلخ، كل هذا يعكس ثقلها في التاريخ الإسلامي.

لعل أقوى النماذج كان دور المرأة في عصر الخلفاء العباسيين، التي في تقديري تعد مثالا مهما لدور النساء في التاريخ العربي والإسلامي، وأكاد أجزم أن النساء لعبن دورا محوريا في إضعاف هذه الخلافة قرب نهايتها، ولكنه الدور الذي يحتاج إلى مزيد من التمحيص والتدقيق لاقتفاء أثره، فهو ليس واضحا للعين المجردة القارئة للتاريخ، نظرا لأن تأثيرهن كان بشكل غير مباشر، فشخصياتهن القوية بل المسيطرة في أحيان كثيرة كانت حاسمة في قضية ولاية العهد والتآمر السياسي. ليس من المبالغة القول إن النساء كان لهن دور حاسم في إضعاف الخلافة بتدخلاتهن وغيرتهن وسعيهن الممتد للاستمرارية من خلال إعلاء مراتب أبنائهن، خاصة عند غير العرب منهن.

وهنا يحضر مثال أم سلمة زوجة الخليفة العباسي الأول أبو العباس الملقب بالسفاح، التي لم يتزوج الخليفة عليها، فكانت حاكمة للسيطرة عليه رغم أنه كان من أعتى الرجال وأقواهم شخصية؛ وتذكر كتب التاريخ أن خالد بن صفوان أحد رجال السفاح حاول استمالة أذن الخليفة فحدثه عن الجواري الحسان وجمالهن وضرورة أن يتمتع الرجل بالنساء من العبيد والجواري، فاستمال الخليفة، فكان من حظه التعس أن سمعت أم سلمة الحوارات من خلف الكواليس، فأرسلت له من الرجال من ضربه وألقى الرعب في قلبه، فلما عاد الرجل مذعورا للقاء الخليفة بناء على إلحاح الأخير لسماع قصص الجواري الحسان، غير الرجل لسانه خوفا من أم سلمة، فقال:

«..أعلمتك أن العرب استقت اسم الضرة من الضر، وأن أحدهم ما تزوج من النساء أكثر من واحدة إلا وكان في جهد.. وأن الثلاث من النساء كأنهن القدر يغلي، والأربع من النساء شر دائم لصاحبهن، وأن أبكار الجواري رجال، وأخبرتك أن بني مخزوم ريحانة قريش، وعندك ريحانة من الرياحين (يقصد أم سلمة) وأنت تطمح بعينك إلى حرائر النساء وغيرهن من الإماء»، وبالطبع حل على خالد رضا أم سلمة وأموالها بينما لم يأبه الرجل بتعنيف الخليفة له إدراكا منه لميزان القوة الحقيقي في البلاط السلطاني.

لقد كانت هذه مجرد أطروحات لقناعتي بوجود دور غير رسمي للمرأة في التاريخ العربي والإسلامي، اقتناعا مني بأنه سيكون لها دور في المستقبل ولكن بشكل أكثر فاعلية وظهورا ومؤسسية، وهذه دعوة للتفكير لأبشر بها جنس الرجال من احتمال مجيء يوم قد يكون قريبا فيكون ضمن الدعاء فيه:

اللهم خفف عنا ضيق النساء بأزواجهن وهون عليهن ذكريات قهر الأجداد لنسائهم

* كاتب مصري