«كليبر» مع عظماء التاريخ

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لم أكن أتوقع خلال زيارة مدينة ستراسبورغ أنني سأكون على لقاء مع التاريخ والتأمل أثناء تفقدي «ميدان كليبر» أكبر ميادينها الذي تميز بالدقة الألمانية والجمال الفرنسي والروح الأوروبية. وبعد بحث، اكتشفت أن تسمية الميدان بهذا الاسم ليست من قبيل المصادفة، فالاسم يكاد يكون علامة مسجلة لشارع أو مدرسة أو محطة بما يعكس شبه نمط يرتبط بذاكرة المدينة.

دفعني الفضول للاستفسار عن خلفية هذا الاسم إلى أن عرفت أن الميدان سمي باسم قائد الحملة الفرنسية على مصر والشام بعد تخلي نابليون بونابرت عن قيادتها بهروبه لفرنسا، فهو الجنرال Jean Batiste Kleber الذي طعنه سليمان الحلبي حتى الموت. وعندما زرت الميدان ورأيت تمثاله الكبير وهو ينحني بعظمة إلى الخلف وتحته الأسد الفرعوني وكلمات التعظيم لعبقريته العسكرية في معركة «هليوبوليس»، انتابني بعض الدهشة فظللت أقلب الأفكار للتعرف على سبب استحقاق هذا الرجل لهذه المكانة؟ وهو ما دفعني لمزيد من البحث عن خلفيته التاريخية والتأمل في المعايير التي تضعها الشعوب لتعظيم شخصياتها التاريخية.

لعل السبب الحقيقي لدهشتي هو أن السيرة الذاتية للرجل يعتريها بعض الملاحظات أهمها:

أولا: لقد مات كليبر في سن صغيرة مقارنة بمعظم الجنرالات الذين خدموا في جيوش الثورة الفرنسية، وبالتالي، فإن القدر لم يمهله للقيام بدور أكبر باستثناء قيادة الحملة الفرنسية بعد رحيل بونابرت عن مصر، إضافة إلى عدد من الحروب في ألمانيا قبلها، وتشير أغلبية المصادر إلى أن ضعف الثقة بالنفس أو التردد كانا وراء عدم توليه أية مراكز قيادية رغم أنها عرضت عليه، فكان أغلب الوقت الرجل الثالث أو الثاني في الجيوش إلى أن فرضت عليه الظروف قيادة الحملة في مصر بعد هروب نابليون.

ثانيا: أن ظروف الحملة الفرنسية في مصر لم تسمح لكليبر بأن يظهر مواهب قيادية فذة يمكن أن يدونها له التاريخ باستثناء معركة «هليوبوليس» التي هزم فيها الجيش العثماني، ولكنه كان نصرا محدودا لضعف الجيوش العثمانية وتخلفها العسكري مقارنة بجيوش الثورة الفرنسية التي سبق أن قهرت التحالف الأوروبي الأول ضدها.

ثالثا: لم يكن كليبر أفضل جنرالات نابليون على الرغم من تميزه النسبي، فهناك أسماء لامعة لعبقريات أنجبتها المنظومة الثورية الفرنسية؛ منها المارشال Desaix الذي أنقذ نابليون والجيوش الفرنسية في معركة «مارنجو» الشهيرة التي كادت تطيح بفرنسا من إيطاليا، وهو الجنرال نفسه الذي طارد المماليك في صعيد مصر. كما أن هناك أيضا أسماء مثل: «دافوت» و«برتيير» والمارشال Drouot وغيرهم. وإذا كانت الشجاعة هي المعيار، فإن المارشال «نيي» Ney سيتصدر هذه القائمة حتما، وإن كان سيتبوأ مرتبة متأخرة في الحنكة العسكرية.

رابعا: لا تخلوا سيرة الرجل من الاستفسارات، فلقد بدأ حياته بولاء وانتهي بولاء آخر، فبدأ مشواره العسكري كضابط في القوات النمساوية العدو اللدود لفرنسا، ولكنه سرعان ما أدرك ضعف هذا الجيش فاستقال وانخرط في الجيش الفرنسي لأن فرص الترقي فيه أفضل بعد تطبيق سياسة استبدال قيادات ثورية جديدة بالقيادات الملكية، فكان الطموح هو العنصر الذي حسم توجهات هذا الرجل وولاءه، بينما كان ضعف ثقته في نفسه سببا في عدم تحقيق ذلك. إذا كان كليبر رجلا عسكريا ناجحا، فهناك شكوك حول أحقيته في أن يكون بطلا قوميا؛ اللهم إلا لو اعتبرنا أن مقتله كان سببا في تضخيم حجمه؛ غير أنني توصلت بعد فكر لما يمكن أن نسميها مقاييس استرشادية تطبقها الشعوب لمفهوم البطولة في ضوء غياب معايير موضوعية يمكن الاتفاق عليها، أصيغ منها أهم المعايير التالية:

أولا: معيار الميلاد والجنسية؛ وهو أول المعايير في بوابة تبجيل الشخص، ومثال كليبر واضح، فستراسبورغ تبجله لكونه من أبنائها، ومن ثم تصبح الجنسية أول معايير الشعبية، ولو كان كليبر من مواليد مدينة برلين أو لندن، لما اهتمت ستراسبورغ بتخليد ذكراه هذا الاهتمام، فالميلاد أو الجنسية هما الدافع الأول لتخليد الذكري.

ومع ذلك، فهذا المعيار التلقائي له استثناءاته، فشخصية نابليون بونابرت مثال حي على ذلك؛ فلقد كان الرجل كورسيكيّا يتحدث الإيطالية حتى شبابه، وعلى الرغم من ذلك، أصبح معبود فرنسا الثورية. وهناك مثال محمد علي في مصر أيضا، فالرجل كان ألبانيا ضعيف اللسان في العربية، ولكن رغم هذا، فإنه يعد مؤسس مصر الحديثة.. والأمثلة متعددة.

ثانيا: معيار الإنجاز الفريد الذي تقوم به الشخصية محل التعظيم لدولة ما أو لشعب، وهنا يتبادر للذهن مجموعة من العوامل التي يمكن أن تُكون هذا المعيار، فهناك عظماء الحرب والسلام والعلم والفكر والرياضة.. إلخ، لكن بطل الحرب غالبا ما يأتي في المرتبة الأولى في وجدان الشعوب، فعندنا كعرب لا ننسى مثلا خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وصلاح الدين الأيوبي، وفي مصر إبراهيم بن محمد علي. فإذا ما خُيرت العامة في شخصيات مثل أبي عبيدة بن الجراح أو ابن الهيثم أو الفارابي على سبيل المثال، فأغلب الظن ستتجه أغلبية من الأصوات لأمثال خالد بن الوليد من العسكريين، وهو ما يجعل هناك ميلا نحو ترشيح العظماء من العسكريين للمرور من بوابة العظمة قبل غيرهم.

ثالثا: لعل الزعامة السياسية تمثل معيارا مهمّا أيضا، خاصة الزعامات القومية، فهذا معيار محلي الطبع بسيط التكوين، ويكون التحمس فيه للشخصية على أساس دورها في قيادة البلاد وتطويرها، لا سيما إذا ما كانت تمر بمفترق طرق سياسي أو دولي، والأمثلة متعددة؛ منها عبد الناصر في مصر، وغاندي في الهند، وجورج واشنطن وأبراهام لينكولن في الولايات المتحدة، والملكة إليزابيث الأولي في إنجلترا، وبطرس الأكبر في روسيا.. إلخ.

رابعا: معيار الإنجاز، وهو معيار لا يرتبط بشكل كبير بالجنسية، فشخصيات مثل ليوناردو دافينشي أو أرسطو أو نيوتن أو فولتير أو ابن رشد أو شكسبير.. وغيرهم، تميزوا في هذا المعيار فنبغوا في مجالات محددة، فالعبقريات الفكرية أو الفنية أو الفسلفية لا خلاف عليها، وهنا يكون المعيار الأساسي هو دور هذه الشخصية في خدمة البشرية وتنمية أفكارها وقيمتها المضافة، ولكنها ستظل في مرتبة أقل من مرتبة الجنسية. لقد كانت هذه ومضات فكر وردت بخاطري وأنا أتأمل تمثال كليبر. ومع ذلك، فهي ليست معايير مانعة أو جامعة أو بالضرورة صحيحة، فهناك معايير إضافية مثل: أهواء الشعوب، والظروف التاريخية المحيطة بالشخصية.. وغيرها من العوامل التي خدمت أمثال كليبر بعد مماته؛ فذاكرة الشعوب وتكويناتها الوجدانية والعاطفية يصعب تحديدها بمعايير فاصلة لا تقبل الجدل، خاصة إذا ما أدركنا أن الشعوب، كالإنسان الفرد، تختلط عندها الحقائق بالرومانسية عند حد التماس بين ثوابت الشخصية كما يمليها الواقع التاريخي، والخيال كما يتمناه العقل الجماعي وترنو له عاطفة الشعوب.

* كاتب مصري