بلاتر.. الديكتاتور المنتخب

ربان سفينة «فيفا» في البحر المضطرب.. هل يرسو بها على بر الأمان؟!

TT

لم يلعب كرة القدم، لكنه يرأس أكبر مؤسسة تدير اللعبة في العالم، ربما لا يدرك ما هي مهارة كرة القدم، لكنه يملك كل مهارات السياسي القادر على الإطاحة بأقوى الخصوم، إنه السويسري جوزيف بلاتر، الذي أعيد انتخابه رئيسا للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) أول من أمس، من دون منافس، لفترة رابعة، متجاوزا عواصف فضائح الفساد.

ألقاب عدة تطلق على السويسري ضئيل الحجم، منها «الأخطبوط» و«نابليون» و«الثعلب الصغير»، وجميعها تنطبق عليه، فبلاتر الذي يتحدث الفرنسية والإنجليزية والألمانية بطلاقة يدرك حسابات خطواته، فهو رجل خبير بالاقتصاد، ويعلم معنى الصبر والقتال من تجربته في الجيش السويسري، لذا عرف كيف يكسب معاركة ويفرض سيطرته على مقعد رئاسة جمهورية العالم لكرة القدم.

نعم، إنه أشهر رئيس لأكبر لعبة جماهيرية بالعالم، وإذا سألت: من هو رئيس «فيفا» في بروناي أو ليختنشتاين، سيقول لك القاصي والداني إنه بلاتر، بل هو في بلاده أشهر من رئيس سويسرا الذي لا يتم ذكره في وسائل الإعلام إلا في المناسبات الكبرى.

«نابليون كرة القدم» الذي يقود «فيفا» منذ عام 1998، ونجح خلالها في فرض سيطرته وسطوته مستعينا بمقدراته الشخصية أحيانا، وجبروت الاتحاد الدولي أحيانا أخرى، أكد خلال مسيرته وبما لا يدعى للشك أنه الرجل القادر على تحطيم خصومه، بل وأيضا كسب تعاطف عائلة كرة القدم العالمية.

وما زالت في أذهان المتابعين لكرة القدم العالمية ذكريات المعركة الانتخابية الأولى أمام رئيس اتحاد الكرة الأوروبي آنذاك، السويدي لينارت يوهانسون عام 1998، وكيف استطاع الأخطبوط بلاتر أن يفوز برئاسة «فيفا» خلفا للبرازيلي هافيلانج (الداعم القوي له)، وما تردد بعد ذلك من اتهامات بدفع رشى للكثير من ممثلي الاتحادات لأجل ترجيح كفته.

وتكرر الأمر في عام 2002 بانتصار كاسح على رئيس اتحاد الكرة الأفريقي، عيسى حياتو، في موقعة استطاع فيها بلاتر الاستعانة بأقوياء اللجنة التنفيذية لتحجيم تطلعات المنافس الأفريقي.

وبعد أول معركتين أدرك المنافسون على ما يبدو أنه لا سبيل أمامهم في الفوز على بلاتر، فتم ترشيحه بالتزكية لفترة رئاسية ثالثة بـ«فيفا» عام 2007.

واختلف الحال في عام 2011، فقد بدأ بلاتر الإعداد لحملة ترشحه لولاية رابعة في أعقاب جدل واسع، حول فوز كل من روسيا وقطر بحق تنظيم كأس العالم لعامي 2018 و2022، وانقسم رجال «فيفا» بين معسكر مؤيد وآخر مشكك، قبل أن تطفح على السطح قضايا فساد هزت أرجاء الاتحاد الدولي.

وما زاد من سخونة سباق الترشح لرئاسة «فيفا» عام 2011 هو دخول القطري محمد بن همام، رئيس الاتحاد الآسيوي، منافسا لبلاتر، فأصبح صديق الأمس عدوا.

وتوقع المراقبون هذه المرة منافسة قوية خلال الانتخابات، لكن بن همام انسحب من سباق الترشح يوم الأحد الماضي بشكل مفاجئ، بعدما بدأت لجنة القيم التابعة للـ«فيفا» إجراءاتها التحقيقية في اتهامات له بالفساد.

وتم التحقيق مع بلاتر في نفس الوقت، وبينما تم إيقاف بن همام مؤقتا، تمت تبرئة ساحة بلاتر، مما فتح الطريق تماما أمامه للاستمرار في منصبه لأربعة أعوام أخرى.

يحسب لبلاتر أنه جلب الكثير من الأموال للاتحاد الدولي ومساهمته في الارتقاء باللعبة في البلدان الفقيرة، وهو من تبنى فكرة صديق الأمس، بن همام، لتنفيذ مشروع الهدف؛ ببناء مراكز للاتحادات وملاعب في البلدان التي تعاني ماليا. كما أن بلاتر نال دعم القارات المستضيفة كرويا أمام سطوة أوروبا، من خلال قانون المداورة في تنظيم المونديال، حتى وإن عدل عنه مؤخرا.

لقد فاز بلاتر بولايته الرابعة بحصوله على 186 صوتا من أصل 203 أصوات، وهو انتصار كبير، لكن لا يعني أنه حسم معاركه مع الخصوم والمتوعدين.

الأحداث التي سبقت الانتخابات الأخيرة تنذر بأن سنوات رئاسة بلاتر الأربع المقبلة ستكون مليئة بالمعارك التصادمية.

وعلى بلاتر أن يجيب على الاتهامات الموجهة إليه بالديكتاتورية، وأن كل من يشغلون منصب السكرتير العام بالـ«فيفا» ومديري الاتصالات مهددون بالرحيل عن مناصبهم، بمجرد ابتعادهم عن مسار بلاتر المرسوم لهم، وأن أعضاء «حكومة (فيفا)» أو الأعضاء التنفيذيين هم تحت سلاح الاستبعاد أو الإيقاف، لمجرد توجيه تهم الفساد لهم.

محمد بن همام، الذي يتمتع بقبول لدى الآسيويين، مطالب بالدفاع عن سمعته، وأنه محق في الاعتراض على قرار لجنة الأخلاق التابعة لـ«فيفا» بإيقافه، بعدما أوضح أنه لم يحصل على فرصة استئناف هذه العقوبة وسيقاتل من أجل حقوقه.

وهذه معركة أولى سيكون بلاتر المعني الأول بها، فهل سيصل لتصالح مع الصديق القديم ليطوي صفحة وينطلق بعدها أم سيجد جبهة رفض آسيوية تضاف إلى مواجهته مع إنجلترا وحلفائها؟

ذكاء بلاتر، الذي وصف نفسه بـ«الربان الذي يقود سفينة تترنح وسط إعصار، وأنه قادر على الرسو بها على بر الأمان»، بدت ملامحه تظهر بالتأثير على المعارض التريندادي، جاك وارنر، نائب رئيس «فيفا» الموقوف.

فبعد أن وعد وارنر قبل الانتخابات بـ«تسونامي في كرة القدم» وأنه يجب إيقاف بلاتر عند حده، ما لبث أن تراجع عن موقفه سريعا ليدعو أعضاء الاتحاد الكاريبي لانتخاب بلاتر رئيسا لـ«فيفا» في مفاجأة تشير إلى أن هناك أشياء تحاك في الخفاء، أو إشارة إلى صفقة مع وارنر.

ومن المتوقع أن يشهر الإنجليز أسلحتهم للرجل الذي يرون أنه وراء إقصائهم من سباق الفوز بتنظيم كأس العالم مرتين؛ الأولى عام 2006 لصالح ألمانيا، والثانية لعام 2018 لصالح روسيا، على الرغم من أن ملفهم كان الأقوى بشهادة الخبراء في المرتين.

وكان الإنجليز قد حاولوا الضغط لأجل تأجيل انتخابات رئاسة «فيفا» ولترشيح منافس ضد بلاتر، إلا أن اقتراحهم قوبل بالرفض من أعضاء الجمعية العمومية الحادية والستين، بأغلبية ساحقة بـ172 صوتا، مقابل موافقة 17 اتحادا.

وما ينذر باستمرار المعركة، حملات الإعلام الإنجليزي ضد بلاتر، حيث كتبت صحيفة «صن»: «يا له من نظام فاضح لاقتراع مضى عليه الزمن».

وأضافت: «جوزيف بلاتر المتعجرف سجل فوزا هزليا في انتخابات رئاسة (فيفا)، وأعلن نفسه بطلا في سباق من جواد واحد. إن الرجل الموصوم البالغ من العمر 75 عاما سيحتفظ بالمنصب لأربعة أعوام أخرى بعد حصوله على 186 صوتا.. إنه نوع من النتائج يمكن توقعه في انتخابات تضم مرشحا واحدا في دولة شيوعية أو جمهورية صغيرة تافهة».

وإشادة بالموقف الإنجليزي، قالت الصحيفة: «17 وفدا كرويا رفضوا خوض اللعبة وامتنعوا عن التصويت».

وكانت تعليقات «غارديان» أقل إثارة، ولكنها انتقادية أيضا، حيث ذكرت في عنوانها: «قيام بلاتر بسحق منتقديه يعد سخرية من الديمقراطية».

إن الإنجليز أعلنوا التحدي، وعلى الرجل المخضرم الذي نجح في تخطي الكثير من الأزمات أن يستعد للمغامرة، فبلاتر أدرك بنفسه أنه لم يمر بلحظات مريرة كهذه من قبل، ورأب الصدع في أكبر منظمة تدير كرة القدم قد يستدعى التضحيات بأصدقاء مقربين.

وأول الاختبارات هو ما الذي سيفعله بلاتر مع أمين عام «فيفا»، جيروم فالكه، الذي فجر قضية باتهامه قطر بشراء كأس العالم 2022 من خلال رسالة إلكترونية تسربت بين أعضاء «فيفا»! وكذلك كيف سيمرر رئيس «فيفا» تصريحات رئيس الاتحاد الألماني ثيو شفانستيغر التي طالب فيها الأخير بإعادة النظر في منح قطر استضافة كأس العالم 2022 بسبب مزاعم الرشوة.

ووسط سحب الدخان التي تحيط بالـ«فيفا» ورجاله، ما زال الأخطبوط بلاتر متفائلا بتحييد المعارك، وبالانطلاق إلى مرحلة جديدة من الشفافية.

وقال بلاتر بعد فوزه: «لا أتوقع معارك جديدة، سنبدأ مرحلة جديدة من الشفافية والـ(فيفا) سيراقب الجميع، ولا تسامح مع المفسدين والمرتشين».

إن بلاتر الذي سبق أن عمل في شبابه مديرا للعلاقات العامة في شركة «لونجين» السويسرية لصناعة الساعات، يراعي الدقة في خطواته، كما عقارب الساعة، وهو يحمل تجربة تراكمية في مؤسسات مختلفة جعلت منه خبيرا في التعامل مع كافة القضايا.

لقد عمل بلاتر كرئيس لشؤون الأفراد بهيئة «واليس» للنقل، ثم سكرتيرا عاما للاتحاد السويسري لهوكي الجليد، ثم خبيرا تسويقيا، قبل أن يفوز برئاسة الجمعية السويسرية للصحافة الرياضية، وهو المنصب الذي دفعه للانضمام لعائلة «فيفا» عام 1975.

وقام الرئيس السابق للفيفا، جواو هافيلانج، بترقية بلاتر لمنصب السكرتير العام للاتحاد عام 1981، حيث تولى هذا المنصب خلفا لهيلموت كايزر الذي أصبح والد زوجة بلاتر بعدها بوقت قصير، قبل الخلاف والقطيعة.

وفي عام 1998، أي بعد 17 عاما أخرى، تولى بلاتر رئاسة الفيفا خلفا لهافيلانج.

مسيرة بلاتر، الذي يشهد له الجميع بالدهاء، حافلة بالإنجازات كما هي حافلة بالصراعات والشبهات، ويحسب لرئيس «فيفا» رؤيته الاقتصادية التي جعلت من الاتحاد الدولي لكرة القدم أغنى منظمة رياضية وغير رياضية، فهو صاحب فكرة التسويق الإعلاني طويل الأجل لبطولاته، التي كانت وراء ضخ المليارات للـ«فيفا»، والإيمان بدور كرة القدم كمركز جذب للتنمية البشرية صحيا وتعليميا.

يحسب أيضا لبلاتر الوفاء بتعهده بأن كرة القدم للجميع، والجميع لا بد من العمل لأجل كرة القدم، فوضع بصمته في ملاعب أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا والدول الفقيرة. وهو من ساند التنظيم المشترك لمونديال 2002 في كوريا الجنوبية واليابان، وقاتل من أجل تنظيم أفريقيا مونديال 2010.

لكن على الوجه الآخر، يحسب على بلاتر حروبه الشخصية ضد البعض، وتدخلاته في الاتحادات المحلية والأندية مما يجعله محل نقد. ومن أبرز المجابهات الشخصية لبلاتر إعلان عدائه للنجم الأرجنتيني الأسطوري مارادونا، وأنه كان وراء فرض عقوبة الإيقاف مرتين عليه خلال فترات رئاسته للـ«فيفا» لتعاطي الأخير للمخدرات، ويرى كثيرون أن مارادونا وقع فريسة لأهداف بلاتر، من أجل إرضاء البرازيلي الأسطورة بيليه. ويرى المراقبون أن استفتاء الفيفا على لاعب القرن كان خير دليل على عداء بلاتر لمارادونا، حيث فضلت الجماهير النجم الأرجنتيني على بيليه، وأمام ذلك قام بلاتر بمنح النجم البرازيلي جائزة أخرى لنجم القرن، وفقا لمقاييس «فيفا».

ويؤخذ على بلاتر أيضا تصريحاته التي تثير الكراهية له، مثلما فعل عندما انتقد السير أليكس فيرغسون، المدير الفني لمانشستر يونايتد، لأنه رفض الانصياع لمطالب مهاجمه البرتغالي كريستيانو رونالدو للانتقال إلى ريال مدريد، وأطلق رئيس الفيفا تصريحه الناري قائلا: «الكثير من العبودية الحديثة توجد في كرة القدم الآن.. أنا دائما أبحث عن مصلحة اللاعب».

كما سبق أن اعتبر بلاتر أن الروسي أبراموفيتش، رئيس تشيلسي، خطرا على كرة القدم، وقال: «أبراموفيتش مثال لا يجب أن يحتذى به»، منتقدا قدرة الأخير على فرض نفوذه على سوق الانتقالات وشراء اللاعبين.

ولا يحتاج الإنجليز المزيد لأجل كراهية بلاتر؛ فهم أكثر من غيرهم ينتظرون إبعاد هذا الرجل عن سدة «فيفا»، فقد قام الصحافي البريطاني، آندرو جينينغز، بتأليف كتاب يكشف فيه عن فساد الـ«فيفا»، بعنوان «البطاقة الحمراء.. الخفايا المثيرة للـ(فيفا)».

واتهم جينينغز القائمين على الاتحاد الدولي لكرة القدم الفيفا بتلقي رشى بلغت قيمتها (650 ألف يورو) من شركة للمنتجات الرياضية عام 1998، وأن هذا المبلغ وضع باسم مسؤول كبير في الـ«فيفا»، كما أوضح أن هناك اختلاسات تقدر بنحو 80 مليون يورو من الاتحاد الدولي.

وعلى الرغم من أن بلاتر في كل مرة كان ينجو من الاتهامات، فإن الإنجليز ما زالوا على إصرارهم على تحديه، خاصة بعد شعورهم بالمرارة لخسارة سباق الفوز بتنظيم مونديال 2018، واتهامهم لبلاتر ومعاونيه بتلقي رشوة لإنجاح الملف الروسي.

بلاتر الذي أعلن أن ولايته الرابعة هي الأخيرة في مسيرته على رأس الاتحاد الدولي، أشار إلى أنه فتح باب المصالحة مع الجميع، وقال السويسري الذي رزق بابنة واحدة من 3 زيجات: «إنني ربان سفينة في بحر مضطرب، لكننا يجب أن نتأكد من أننا سنظل نمضي في طريقنا الصحيح، وأنا قادر على أن أرسو بها على بر الأمان».