سقطة «إيكاروس» وطموح الدولة والزعيم

د. محمد عبد الستار البدري *

TT

لقد تميزت الحضارة الإغريقية مثلها مثل الفرعونية بمفهوم الأساطير التي كانت تستخدم في مناسبات عديدة لتقديم تفسير لظواهر الأمور، أو لتكون تركيبات موروثة لإضفاء بعد روحي في المجتمعات البدائية، ولكن تظل أسطورة «إيكاروس بن ديدالوس» إحدى أبلغ الأساطير اليونانية، فتقول الأسطورة إن «إيكاروس» هرب مع أبيه من سجن الملك «مينوس» مستعينا بأجنحة من الشمع صنعها لنفسه، وعندما طار بها أثناء هروبه أخذه الفضول فأخذ يصعد إلى أعلى ليقرب من الشمس، فما كان من أجنحته إلا أن ساحت فهوى في البحر ومات غريقا. وتؤخذ هذه الأسطورة كمثال على تسرع الإنسان نحو القمة غير مدرك أن إمكاناته تلهث راء تطلعاته، وأن قدراته لا تساير طموحه فتكون النتيجة الحتمية هي فقدان الإنسان لذاته بفضل طموحه.

وحقيقة الأمر أن العلاقة بين طموح الإنسان وقدراته ما هي إلا معادلة كثيرا ما يصعب على الإنسان موازنتها أو السيطرة على أبعادها، فكثير من البشر غير قادرين على إدراك حقيقة تغلب طموحاتهم على قدراتهم التي وهبها لهم المولى عز وجل، فيظل الإنسان على جهله وسعيه المستمر نحو العلا تملأه النشوة وحب الذات والاعتقاد بأنه أذكى ممن حوله، مقتنعا بأن التاريخ لن يعيد نفسه معه وكأنه سيتوقف عند حالته ليستثنيها، تماما كما يتخيل البعض أنهم قادرون على تفادي الموت حتى آخر لحظة.

ولكن أخطر ما في هذا الطموح هو أنه لا يؤثر فقط على فاقدي الإدراك بقدرة الذات النسبية، فهو غالبا ما يمتد أيضا للدول التي كثيرا ما تنتابها حالات عظمة وتوسع، فإذا كان الطموح الفردي يعبر عن الضمير الذاتي، فإن الدولة ما هي إلا تعبير عن طموح الضمير الجماعي لسكانها وحكامها - على الأقل من الناحية النظرية - وكما ينخدع الضمير الفردي، فإن الضمير الجماعي لا يملك الحصانة ضد الطموح المفرط، عندئذ تدخل الدولة نفسها في صدامات مع المجتمع الدولي - سواء كانت لأسباب مشروعة أو لا - وتلعب على تفتته دون إدراك حقيقي لحجم قوتها المقارن، أو العلاقة النسبية بين هذا الطموح وقدرة الدولة الاستيعابية، والتاريخ مليء بالأمثلة العديدة من «هانيبال» إلى «الإسكندر» إلى «هتلر» مرورا بنابليون وأمثاله.

لقد ملك «الإسكندر» الأكبر جزءا كبيرا من العالم، ولكنه أراد ما هو أكثر من قدرات بلاده الاستيعابية، فاحتلال الأراضي نقرة واستيعابها نقرة أخرى تماما، والإبقاء عليها نقرة ثالثة، فبعد وفاته وحتى أثناء حياته ما كان له أن يحكم قبضته كاملة على الدول والحضارات التي فتحها والتي راح ضحيتها ألوف مؤلفة من البشر لينقشع الحلم في سنوات معدودات بعد مماته، ولا يشفع له إيمانه الشخصي أو اعتقاد أمه أنه نصف إله من سلالة كبير الآلهة «زيوس»، كما لم يشفع لشعبه إيمانهم الكامل بأنهم أمة ذات رسالة ثقافية لتنوير الشعوب الأخرى.

أما «نابليون بونابرت» فمصيبته أكبر، فقد كان يحكم نصف أوروبا بعد معاهدة «تلست» في 1807، ومع ذلك ورغم قدراته العسكرية الممزوجة بحسن الطالع، اعتقد الرجل أنه قادر على احتلال روسيا والنصف الباقي من القارة، فكانت النتيجة أنه في سبيل تحقيق جزء من طموحاته فقد الرجل كل ما كان يملكه ومعه حريته، فدفعت فرنسا ثمنا غاليا لطموحاته التي كانت أكبر من قدراتها.

ومثال محمد علي في مصر لا يبعد كل البعد عن الأمثلة السابقة، فالرجل عندما حاول السيطرة على الشام هدد توازنات القوى في أوروبا مما دفع الدول الأوروبية للتكاتف ضده على الرغم من مشروعية أهدافه، ولكنه دفع الثمن في النهاية لطموح متناقض مع المصالح الدولية السائدة، ولكن الفرق بين محمد علي من ناحية ونابليون من ناحية أخرى هو أن الأول احتفظ بنصف مملكته لأنه عرف كيف يراهن ويلعب، والأهم من ذلك متى يتوقف.

إن أمثلة هذه الشخصيات كثيرة عبر التاريخ، فهي لا تختلف كثيرا، فكم من القادة يعتقدون أنهم يملكون ما لا يملكه غيرهم من مواهب وقدرات، وكم منهم يعتقد أن ملكاته لا يملكها غيره، وكم من الأمثلة الحية التي نراها يوما بعد يوم تحاول الوصول إلى ما هو أكبر من قدراتها وإمكانات دولتها مستغلة ومضة حظ أتت إليها معتقدة أنها أزلية.

لقد كان «ميكافيلي» من أوائل من حاولوا أن ينظروا إلى دور الحظ في السياسة من خلال كتابه «الأمير» الذي شمل توصيفا للقدرات المطلوبة والمكتسبة للحاكم المنتظر لتوحيد إيطاليا، فأكد في النهاية أن كل هذا لن يشفع للحاكم ما لم يكن الحظ Fortuna حليفه، وكل النصائح لن تجدي أمام سوء الطالع، ولكن عنصر الحظ في المعادلة الميكافيلية يأتي في وضعه الطبيعي بعد القدرات الذاتية وليس قبلها، فيا ليت الإنسان يدرك هذه الحقيقة، فكيف يعتقد أن الحظ سيكون خليله والتوفيق الممتد نصير سعيه لإرضاء طموحه الذي يفوق قدراته؟

يشير التاريخ في أغلب أمثلته إلى أن فقدان السلطة هو نهاية المطاف للقيادة السياسية الطموحة التي لا تتوازن قدراتها مع تطلعاتها، ومع ذلك فيا ليت الضحية تكون مقصورة على القيادة ذاتها، ولكن في درب الطموح السياسي تترنح الضحايا في الطرقات، فيعذب ذو الطموح نفسه تقربا لغروره، ويصلب شعبه على صليب حب الذات، ويقدم القرابين البشرية تقربا لكبريائه، فليت ضحية الطموح تقتصر على صاحبها، فلو كان الأمر كذلك لهان.

ومع الأسف تبقى أسطورة «إيكاروس» حية، ويبقى الإنسان على ما هو عليه، فلا الأسطورة تتغير مع الزمن، ولا الإنسان يتعظ مع الوقت! رحم الله قائدا عرف قدر نفسه وثقل بلاده.

* كاتب مصري