سيف كورتيز الشهير

محمد البدري *

TT

لم يسعفني الحظ أن أشاهد السيف الشهير للقائد الإسباني «إرنان كورتيز» (Cortez) خلال زيارتي لإسبانيا، فلم يهدأ الفضول الذي ملأني على مدار قرابة ثلاثين عاما ظللت خلالها أتشوق لرؤية مقتنيات هذا القائد الذي قاد الحملة الإسبانية على إمبراطورية الأزتيك الشهيرة في المكسيك في 1519، فهو القائد الذي استطاع بفضل عبقريته في القيادة، مضافا إليها جشعه هو ورجاله، أن يدحضوا إمبراطورية كاملة ويخضعوها للحكم الإسباني في أشهر، وبما لا يتعدى مئات الرجال! وكان السؤال الذي راود الكثير من المؤرخين هو «كيف..؟ كيف تهزم فئة لا تتعدى هذا الرقم جيوشا مكونة من مئات الآلاف لتضع علم إسبانيا على إمبراطورية كبيرة كهذه؟»، وتزداد حيرة المتابع بعدما يقرأ مذكرات أحد المصاحبين لهذه الحملة ويدعى «برنال دياز دلكاستيو»، بعنوان «غزو إسبانيا الجديدة» ليحاول فك طلاسم مسببات هذا النصر المبين وغير المنطقي أيضا. فقد كانت المغامرة التي قادها كورتيز ورجاله من أشجع المغامرات التي سجلها التاريخ والتي استعان فيها هذا القائد بكل خبراته وخبرات من سبقه من القادة أمثال طارق بن زياد لإنجاح مهمته المستحيلة.

لقد نشأ كورتيز في طبقة أقل من المتوسطة في إسبانيا، وذهب إلى العالم الجديد عبر الأطلنطي، واستطاع لفت أنظار الوالي الإسباني الذي وافق على منحه بعض السفن، وقرابة خمسمائة رجل ليبحروا إلى شاطئ المكسيك ليفتحوا الأرض الجديدة باسم إسبانيا، وبالفعل اندفع كورتيز ورجاله تملأهم شهوة المال، وقلة قليلة بدافع نشر المسيحية.

وعندما نزل هؤلاء إلى شواطئ اليوكاتان وجدوا إمبراطورية «الأزتيك» القوية مترامية الأطراف، وكانت عاصمتها مدينة وسط بحيرة تسمى «تنوتشتيت لان»، وقد استطاعت هذه الإمبراطورية إخضاع أعدائها بالعنف الشديد الممزوج بالتعالي، فكانوا يقدمون الآدميين من أسراهم وعبيدهم قرابين للآلهة، ولعل هذا كان سببا في انتشار المسيحية بين السكان الأصليين رغم قسوة الإسبان.

وعندما أدرك كورتيز خطورة موقفه وبداية الاختلاف بين رجاله وخوفهم، استعان الرجل بفعلة طارق بن زياد، فحرق سفنه، فأصبح البحر خلفهم والعدو أمامهم، ففرض كورتيز على رجاله خوض حروب عسكرية ممتدة انتهت بدحض «الأزتيك» واستيلاء الإسبان على البلاد وإخضاعها للإمبراطورية الإسبانية. ولكن هذا النصر كانت له أسبابه، فقد قام كورتيز بتنظيم نفسه مستغلا الظروف حوله، فكان أول أهدافه نشر الرعب في قلوب الأزتيك من خلال إقناعهم بأن الإسبان أنصاف آلهة، وساعده على ذلك أن هذه الشعوب لم تر الخيل من قبل، فكانوا يعتقدون أن الفرس والفارس كيان واحد سموه «تيولوس» أي نصف إله؛ كذلك فإنهم لم يروا المدفع من قبل، فكان لاستخدام هذه الأسلحة أمام السكان الأصليين وإقناعهم بأنها سلاح من الآلهة دوره المباشر في ترسيخ هذا المفهوم بداخلهم وبث الرعب في قلوبهم، وهنا بدأ السكان الأصليون ينظرون لأنفسهم نظرة تدن مقابل الشموخ والغطرسة الإسبانية.

من ناحية أخرى، قام كورتيز بالدخول في سلسلة من التحالفات المهمة التي سمحت له بأن يستغل أعداء الأزتيك ليساعدوه في مجهوده الحربي، فكان هذا سببا أساسيا في نجاح الرجل وجيشه الصغير، وسرعان ما جاءت القبيلة تلو الأخرى تلتف حوله وتقدم له المال والرجال والغذاء وبل والنساء، مما سمح له بالتغلب على نقص العدد وصعوبة التموين.

ومما خدم الإسبان أيضا أن زعيم الأزتيك «موكتيزوما» كان مترددا في شأن التعامل مع الإسبان، حيث كان واقعا تحت اعتقاد راسخ بأن مُلكه سيزول على أيدي القادمين من الشرق وفقا لنبوءة موروثة عن العرافين ورجال الدين، فكان الرجل يؤثر استمالة كورتيز لحثه على الجلاء عن بلاده بالسلم رغم معارضة رجال الدولة وعلى رأسهم ابن أخته القائد «كواوتيموك» الذي كان يريد أن ينقض على الإسبان في حرب مفتوحة ويقضي عليهم بشكل يجعل عودتهم لبلاده أمرا مستبعدا، وهو ما لم يقبله «موكتيزوما» فجرأ الإسبان عليه حتى أخذوه أسيرا، واضطروا بعد ذلك للدخول في سلسلة من المعارك أدت لهزيمة الأزتيك نهائيا.

وبالفعل دانت المكسيك لكورتيز وبدأت تصدر ذهبها وفضتها ومعادنها النفيسة إلى إسبانيا التي استخدمتها في تعظيم قوتها على الساحة الأوروبية، لكنها لم تستطع أن تحافظ على تقدمها لأكثر من عقود قليلة لأسباب متعلقة بسوء الإدارة والفساد الداخلي وانعدام الرؤية.

ورغم كل ما فعله الإسبان، أو كما يسمونهم «الكونكيستادورس» أو الفاتحين، فإن كتب التاريخ زاخرة بالتفسيرات المختلفة لتبرير هذا النصر الساحق، ولعل الفيلم الأميركي «أبوكاليبتو» للمخرج العالمي «ميل غيبسون» يقدم إجابة لكيفية هزيمة إمبراطورية على أيدي مئات الجنود، فاعتبر الفيلم ما حدث نوعا من الصراع الثقافي، اندثرت فيه حضارة كاملة فلم يبق منها إلا قليلها لتحل محلها الحضارة الأوروبية المسيحية القوية.

وعلى الرغم من التفسيرات الممتدة لهذه الهزيمة النكراء لإمبراطورية قوية، فإن الحقيقة الثابتة هي أن الأمم لا تهزم من الخارج فقط، وإن هزمت من الخارج فلا يكون ذلك لمدد طويلة، لكنها تزول فقط عندما تكون قد تفتتت وفقدت هويتها الثقافية وضاعت أواصرها، فترثها دولة أو إمبراطورية أخرى بعد أن تكون قد هُزمت ثقافيا وأُذلت فكريا وانكسرت حضاريا، فهي لا تموت إلا بزوال هذه العناصر الثلاثة، فدولة الأزتيك ومن بعدها «المايا» ومن بعدهما «الإنكا» كانت هزيمتها داخلية قبل أن تكون خارجية.

هذا هو أقرب تفسير منطقي لتبرير اقتلاع دولة الأزتيك، بحيث لا يبقى منها إلا ذكريات ثقافية متناثرة تتوارثها الأجيال من الأجداد، فالأمم تبقى ما إن بقيت ثقافاتها، فالثقافة هي الجذور، وعندما غزت الحضارة الإسلامية بلادا مثل فارس ومصر، فإن حضارتهما عاشتا رغم استيعابهما للدين الجديد والوافدين الجدد، وكل هذا يثبت أن السيوف لا تمحو الحضارات والثقافات ما لم تكن هذه الحضارات والثقافات قد كسرت نفسها، ففي حالات مثل هذه الهزائم العسكرية غالبا ما تسبقها الهزيمة المعنوية والانتكاسة الثقافية للشعوب.

* كاتب مصري